صفحات الثقافةهيفاء بيطار

حتــى اللحــظة


هيفاء بيطار

الخامسة فجراً أجلس بجانب السائق الذي سيوصلني الى مطار بيروت يا للروعة! الطريق مفروشة بالعصافير الصغيرة الناعسة، يبدو أنها استيقظت لتوها ولم تباشر تحليقها في السماء بعد. السائق يخفف من سرعته كي لا يدوسها، يتركها تعيش. صار العيش ترفاً في سوريا… ياه كم أفتقد شعور النشوة! علي أن أشكر العصافير التي أهدتني فرحاً صافياً هذا الصباح أنا التي استيقظ كملايين أحبتي السوريين وقلبنا ثقيل من الألم والتحمل من هول ما نشهده من دمار وموت ويأس، ولا يبدو في الأفق فرج.

كنت مسافرة عن طريق بيروت الى البحرين للمشاركة في مؤتمر أدبي كبير خاص بالكتابة وبتوجيه الطلاب الجامعيين أصحاب المواهب. وقد اختارت هيئة المؤتمر مجموعتي القصصية (يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش) لمناقشتها مع أكثر من 300 طالب ينتظرون الكاتبة بلهفة. وبالفعل فوجئت بحماسة الطلاب لقصصي هذه تحديداً. ولا شيء يسعدني أكثر من لقاء براعم موهوبة متفتحة على الحياة والإبداع، فهم المستقبل.

قبل وصولي الى حاجز العريضة طلب مني السائق أن أتأكد من أن أوراقي وجواز سفر نظامي، وقد حصلت على موافقة من عملي كطبيبة عيون في المشفى الوطني في اللاذقية، ومعي تأشيرة الدخول الى البحرين وبطاقة الطائرة من الدرجة الاولى. حاولت تخيل كيف ستكون زيارتي للبحرين خاصة أنني لم أزرها من قبل، حاولت تخيل شكل لقائي بالطلاب وأسئلتهم. في الواقع كنت أزج نفسي في هذه الخيالات كي أهرب من ألم موجع وأنا أرى كيف صارت الشوارع والطرق مقطعة بحواجز متكاثرة. كنت أشعر أن وطني الحبيب مقطع الأوصال.

عند حدود العريضة اشتريت بطاقة الدخول وقدمت جواز سفري للضابط الذي أكد لي أنه نظامي ولكن! نظامي ولكن! نظر اليًّ وقال آسف لا يمكنني أن أسمح لك بالسفر: عليك مراجعة فرع المخابرات العامة في دمشق رقم 255.

عجيب أمر خيالي كيف صار يفاجئني بخيالات غريبة، فما أن سمعت كلمات الضابط حتى فرز خيالي صورة شاحنة عملاقة تهرس أجساد العصافير الصغيرة وتحيلها جثثاً جماعية كجثث أطفال الحولة وسكان داريا.

جمدني الذهول كما لو أن عقلي عجز عن امتصاص كلمات الضابط! كما لو أن الكلمات صارت حجارة انهارت على رأسي. كان السائق بجانبي ينظر الي مصعوقاً، وسألني بعفويه اعتذر عنها فيما بعد (خير دكتورة شو عاملة)! معه حق! فلا بد أن أكون مذنبه حتى أمنع من السفر. وبصعوبة تمكن لساني من تدوير بعض الكلمات، وسألت ضابط الحدود لماذا اسمي معمم على الحدود وممنوعة من السفر؟ رد بآلية: والله لا أعرف عليك مراجعة مقر المخابرات العامة في دمشق الفرع 255، وهو في كفر سوسة. وجدتني أضع على مكتبه بطاقة الطائرة التي ستطير من مطار بيروت، الثالثة الا ربعا بعد الظهر، وقلت له سوف تفوتني الرحلة ألا يمكنني أن أسافر لحضور المؤتمر ولما أعود أراجع الفرع المذكور؟

قال: مستحيل! سألته: لماذا لا يتم تبليغ أو إعلام المواطنين الممنوعين من السفر قبل وقت! لماذا يتركون لاكتشاف هذا المنع وهم على الحدود أو في المطار حاملين حقيبة السفر وبطاقة الطائرة!

قال: والله لا أعرف، هذا ليس من اختصاصي.

لكنه أبدى تعاطفاً معي، هاله أن يجد أمامه كاتبة سوريه معروفة وطبيبة تمنع من السفر، وعليها مراجعة فرع المخابرات في دمشق، وكلنا نعرف أن السفر صار محفوفاً بالمخاطر من الخطف حتى الرصاص الطائش وغير الطائش الذي يصيب المواطنين المساكين. وكم قدرت مبادرته بأن قال لي بانه سيحولني الى فرع أمن الدولة في طرطوس، فهي قريبة من الحدود ويمكنني اللحــاق بموعــد الطائــرة إن تمكن فرع طرطـوس من إلغـاء منـع السـفر.

شكرته على تعاطفه وذوقه وأسرع يأمر مجنداً بتحضير الاوراق اللازمة ووجدني أبصم بإبهامي على أوراق عدة وأنطلق في الاتجاه المعاكس عائدة الى طرطوس مع السائق الذي صار وجهه متجهماً لأن سيدة مشبوهة ربما وممنوعة من السفر تجلس في سيارته.

في طريق العودة الى طرطوس تحول كل كياني الى حالة فظيعة من الاستنفار، ووجدتني أمام معضلة فكرية كما لو أنني يجب أن أحل مسألة رياضيات معقدة! ترى ما الاحتمالات الممكنة لمنعي من السفر! ما الخطأ الذي ارتكبته عن غير قصد وسبب هذا المنع! وجدتني أستعرض حياتي بالتفاصيل المملة لاكتشف بين ثنايا الزمن ذنوباً وخطايا. لكنني لم أجد سوى طبيبه عيون وكاتبة وامرأة تعشق وطنها وتقدس شعباً عظيماً صابراً صبر أيوب. وجدتني ملتصقة بهذا الوطن برغم أنه كان باستطاعتي السفر الى باريس عند اخوتي، لكنني قررت البقاء بجانب وفي قلب وطن ينزف أبناءه وفرحه وتفاؤله. لم يكن الوطن بالنسبة لي سوى روح، فالأمكنة أرواح. ولم أفعل شيئاً طوال شهور العنف الوحشي والمروع سوى الكتابة بشفافية ونزاهة عما يجري وأشهد عليه. فكرت: أنني مواطنة لم أحمل سلاحاً يوماً، ولا املك بندقية ولا مسدساً ولا سكيناً ولا ساطوراً. لا أملك سوى قلم حبره هو نسغ روحي.

يا للمهانة التي أحسها وأنا أعود أدراجي الى فرع أمن الدولة في طرطوس للمساءلة حول ما لا أعرف.

عبرت حواجز إسمنتية عديدة قبل أن اصل الى فرع أمن الدولة، وللحق أقول إن الضابط استقبلني بكل لطف واحترام وقال لي: أنت ضيفتنا الكريمة. وشربت القهوة ثم الزهورات ثم الماء فيما هو يجري اتصالاته من مكتب آخر ليساعدني في إلغاء منع السفر أو ليستفهم عن السبب على الأقل. ومن حين لآخر كان يعود ليطمئنني: «إن شاء الله خير» وأنا لا أكف عن النظر في ساعتي هل سألحق موعد الطائرة!

لكن الضابط أبلغني متأسفاً أن جهوده باءت بالفشل وبأنه لا مفر من مراجعة مبنى المخابرات العامة في دمشق الفرع 255. وجدتني أصرخ: والطائرة! ماذا سأقول للجهة الداعية وللطلاب هل اقول لهم إنني على الحدود عرفت أنني ممنوعة من السفر!

كيف سيستقبلون هذا الكلام!

اتصلت بمنسقة المؤتمر وخجلت أن أبلغها عن السبب الحقيقي لعدم تمكني من الحضور، قلت لها: ظروف! كلمة مطاطة تستوعب كل التأويلات. لكنها أبدت انزعاجها وقالت يا دكتورة كل شيء محضر وجاهز والطلاب يحملون كتابك (يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش، كي يناقشوك به ولتوقعيه لهم). كانت حلقة حديد تقبض على حنجرتي، انهرت بكاءً رغما عني. فكرت ساخرة كم هو مضحك وغريب أن تبكي امرأة في مبنى أمن الدولة!

خرجت من طرطوس في اتجاه اللاذقية كانت كتبي، التي تزيد عن 28 كتاباً بين رواية وقصة، تئن في الحقيبة من الالم وعلب الحلوى اللذيذة الخاصة باللاذقية منكمشة وحزينة! لا بأس يمكنني إعطاؤها للنازحين من جرمانا في دمشق ومن حلب ومن الحفة، الذين لاذوا باللاذقية التي هي «حتى اللحظة» آمنة. فكرت أن العبارة الدارجة في سوريا هي، «حتى اللحظة» أقصد القتلى «حتى اللحظة».

ولأنني لست مقطوعة من شجرة فقد أجريت اتصالات عدة مع أصدقاء ومعارف ونصحني بعضهم بمراجعة فرع أمن الدولة في اللاذقية بدل السفر الى دمشق. ألا يفترض أن تنسق هذه الفروع مع بعضها البعض لراحة المواطن وتجنيبه مشاق السفر ومخاطره، والأهم إحساسه بالقهر لأنه سيقضي يوماً كاملاً في السفر من أجل مراجعه فرع أمن في مدينه غير مدينته.

باءت محاولتي بالفشل، اذ أن الضابط المسؤول في فرع الامن في اللاذقية قال إن الامر ليس من اختصاصه وإن عليَّ حصراً مراجعة الفرع 255 في دمشق.

حتى اللحظة لا أفهم ولا أستوعب حقيقة عيشنا، حقيقة ما يجري! تحدق بي بطاقة الطائرة الى البحرين وتسألني لماذا لم تسافري! استعيد نظرة السائق الذي أجفل على الحدود وقال لي (ولك شو عاملة حتى منعت من السفر). لا أعرف ما أقول لكنني متأكدة وأحب أن أطمئن الشعب السوري أنه من المستحيل أن يصاب بالخرف لأن عقله يعمل 24 ساعة لحل الألغاز، ومنها لغز المنع من السفر مثلا!

قال لي أحدهم: لتكون كتاباتك السبب في المنع! لكن ماذا أكتب سوى من قلب الواقع الموجع؟ ماذا أكتب سوى عن ناس موجوعين ومتألمين ولا يعرفون (من فرط الألم) كيف يعبرون عن حالهم!

ماذا يمكن لكاتبة تعشق وطنها أن تكتب إلا بطهارة الحقيقة لأن الكتابة في هذه المرحلة تحديداً هي شرف. هذا هو تعريفها الأدق، أجل الكتابة شرف. أم أن عليَّ أن أكتب قصة ليلى والذئب أو علــي بابـا والأربعين حرامي؟!

حتى اللحظة لا أعرف لماذا منعت من السفر وحتى اللحظة لا أعرف عدد القتلى في سوريا.

لكن اسمحوا لي أن أقول إنني مؤمنة تماماً بعنوان كتابي «يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش».

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى