بدر الدين شننصفحات سورية

حتى لاتكون سوريا سورياستان

بدر الدين شنن
” سوريا هي العرض والشرف والكرامة .. سوريا هي الشمس ” بهذه الكلمات البليغة الرائعة ، وسط شارع في بابا عمرو يبدو أنه شهد معارك ضارية بين المسلحين والجيش ، حدد إنسان كهل يعبر مظهره العام عن شقائه وفقره وبساطته ، حدد معايير النظرة المطلوب الالتزام بها لفهم الأزمة السورية ، وحدد كذلك معايير الحل المطلوب لمعادلاتها وعقدها . لم ’يعرف هذا الإنسان بنفسه .. ولم ’يعرفه من نقل مقولته . لكن ما وشى به شكله وقوله ، أنه ليس من حملة ألقاب الأستاذ أو الدكتور ، أو من حملة نياشين النخب السياسية والثقافية التي لها في ” كل عرس قرص ” ، أو أن له خلفية حزبية همها الرئيس القفز إلى السلطة ، أو أنه طائفي يطمح إلى تحقيق مصالح اقلوية ضيقة ، أو أن عنده هوى أو ارتباط أجنبي يحلم عبره أن يتربع على سدة الحكم ، أو أن في داخله حب المغامرة والاصطياد الاقتصادي والسياسي في غمرة نيران ودخان وغبار انفجارات الأزمة ومراحل تداعياتها الكارثية ، بل فاض بحزن وكبرياء ، بما في داخله من قيم شعبية نبيلة أصيلة ، وأكد بشفافية لا متناهية على جذور انتمائه للوطن ، الذي ولد وعاش فيه ، وتكون من خيراته وهوائه جسده وكيانه وضياء عينيه ، وتكونت في دفء النسيج الشعبي الوفي الصادق مشاعر إنسانيته وشرفه وكرامته ، ونقل بعفوية جليلة مشاعر ملايين البسطاء ، الذين يشكلون الأغلبية الكبرى من الشعب ويدفعون ضريبة الاستبداد وثمن الحرية في كل الأزمنة ، الذين تجاوزتهم النخب السياسية التي تشكل قيادات المعارضات السياسية ، التي تحاول أن تتجاوز عجزها الواضح في جريها وراء السلطة بالاستقواء بالخارج ، وا ستدراج التدخل العسكري الخارجي . بمعنى أن الكهل الحمصي قد حدد موقفه بأنه ضد كل السياسات التي تفضي إلى تعرض العرض والشرف والكرامة السورية للإساءة والضياع ، وإنزال سوريا من مكانتها العزيزة المضيئة عبر التاريخ كالشمس .
وإذا دققنا في الزمن الذي ألقى فيه هذا الإنسان قوله ، لوجدنا أنه يأتي بعد عام على اندلاع الأحداث في البلاد .. بعد سيرورة من الصراع ، لنقل البلا د إلى الديمقراطية ومقتضياتها ، لتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات ، والتعددية السياسية ، والعدالة الاقتصادية الاجتماعية . وخلال هذا العام جرت مياه كثيرة في نهر الصراع من أجل التغيير الوطني الديمقراطي ، بالنسبة للمعارضة الوطنية الديمقراطية ، لكن الأهم هو ما حصل لمعارضات أخرى مرتبطة بالخارج ومدعومة منه مالياً وسياسياً وإعلامياً وعسكرياً ، التي ما لبثت أن اختطفت المبادرة السياسية المعارضة ، وتحاول با ستمرار أن تحتكر تمثيل الحراك المعارض في الداخل والخارج وتطبعه بطابعها المرتبط بأجندات دولية غربية استعمارية عريقة وخليجية ثأرية متخلفة . وخلال هذا العام تساقط الكثير من التمويه والتضليل والخداع ، وتساقط الكثير من الضحايا المدنيين والعسكريين بنيران القتل والمعارك بين المجموعات المسلحة والجيش والقوى الأمنية في مدن وقرى وشوارع لاتحصى ، حتى وصلت الأمور ، بعد أشهر قليلة ، إلى العمل على المكشوف في التسلح واستخدام السلاح ، وإلى الإعلان عن إنشاء ” الجيش السوري الحر ” في تركيا .. في حضن حلف الناتو .. لقيادة الأنشطة المسلحة في الداخل السوري . ما أدى إلى الاغتيال الكامل لسلمية الانتفاضة الشعبية واغتيال روح مطالبها ، وحلت محلها مطالب الدول الاستعمارية الغربية المتعلقة بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ، وإلى زج البلاد في جحيم الحرب الاقتصادية والسياسية والإعلامية والعسكرية . وخلال هذا العام أيضاً أقدمت رموز من معارضي الخارج على خطوات سياسية في منتهى الخطورة والانحراف . فقد أجرى كل من عبد الحليم خدام وعلي البيانوني وبسمة قضماني وفريد الغاردري لقاءات مع تلفزيون الكيان الصهيوني ، أعلنوا فيها اعترافهم بهذا الكيان والتطبيع معه إن وصلوا إلى الحكم ، وأقدم قادة مؤتمر استانبول علناً على اللقاء والتنسيق مع إدارات الدول الاستعمارية ، وقدموا الوعود على إحداث القطيعة مع المقاومة وإيران ، ومعاملة الكيان الصهيوني عبر التفاوض والتطبيع ومعاهدات سلام ، وقبلوا بتوجيهات دول الخليج المتخلفة الخاوية من أي عرف أو برلمان أو دستور ديمقراطي .
بعد أسابيع من بداية الأحداث ، كان من ينظر إلى مجريات الأمور بتجرد وموضوعية يغامر بخسارة أصدقاء أعزاء ، من المتحمسين للانتفاضة ، إذا تحدث معهم عن وجود مسلحين ينشطون على هوامش التظاهرات لاستجرار الحالة السورية إلى الصراع المسلح واستدعاء التدخل العسكري الخارجي ، لأنهم كانوا محكومين ، بسبب تراكمات قمعية في السابق ، بالعداء للنظام والشك بكل أفعاله وإجراءاته ، أو كانوا ’يوجهون بأن المسلحين المشار إليهم هم مندسون من قبل الأجهزة الأمنية لتبرير قمع التظاهرات . وعندما يقال لهم ، لكن رجال الأمن هم أيضاً ’يقتلون في تلك التظاهرات ، كانوا يقولون إن النظام هو من قتلهم ليبرر قمعه الدموي لوأد الانتفاضة . حتى التمردات المسلحة المكشوفة أمام أعين السكان بعامة وعلى شاشات التلفزيون العالمية في درعا وتلكلخ وحماة ودير الزور وجسر الشغور وحمص ، كانوا يقولون أنها من صنع النظام ، وأن النظام يقاتل ضد منشقين عنه . أي أن من ’يقتل من الجيش النظامي هم منشقون تجري تصفيتهم .. ومن’يقتل من المسلحين هم مدنيون لقمع احجاجاتهم السلمية . إلى أن بدأت مجموعات وشخصيات سورية مقيمة في الخارج بعقد مؤتمرات لها في بلدان عدة في الخارج عبرت فيها عن طلبها المكشوف للتدخل الدولي الخارجي ، تحت مسميات مختلفة مثل حماية المدنيين وإرسال مراقبين دوليين أو حظر جوي وإقامة مناطق عازلة ، والأكثر تركيزاً كان على التدخل العسكري على الطريقة الليبية . وإلى أن صرح مسؤولون فيما يسمى ” بالهيئة العامة للثورة السورية ” أنهم يستخدمون السلاح دفاعاً عن التظاهرات السلمية ، وأنه لابد من عسكرة الانتفاضة . وإلى أن كشفت مصادر أمنية ورسمية تركية ولبنانية وأردنية وعراقية عن تسريب السلاح إلى سوريا ، وأبرز تلك الوقائع هي تصريحات أيمن الظواهري التي دعا فيها عبر شاشات التلفزة الدولية مجاهدي ” القاعدة ” بالتوجه إلى سوريا ، لنصرة أخوتهم المجاهدين فيها . ثم تأتي تصريحات كل من وزير خارجية قطر ووزيرخارجية المملكة السعودية التي أعلنا فيها وجوب إرسال السلاح إلى المعارضة السورية لتغطية ما أرسلاه من سلاح سابقاً ولشرعنة ما سيرسلاه لاحقاً .
أكثر الأمثلة السافرة على تفشي السلاح والحركات المسلحة ، هو ما حدث في جسر الشغور وحماة وتلكلخ وبانياس وحي الرمل الساحلي في اللاذقية وبابا عمرو في حمص ، وكذلك التفجيرات ” القاعدية ” نسبة إلى منظمة القاعدة ، في دمشق وحلب ، وتفجيرات العبوات الناسفة في الشوارع ، وفي أنابيب المحروقات ، والسكك الحديدية ، والجسور ، وقصف مصفاة حمص بمدفعية الهاون مرات عدة .
وإذا وضعنا الحراك السياسي المتعاون مع الخارج الأطلسي والخليجي والصهيوني والحراك المسلح في الداخل ، الذي طاول بالقتل آلاف المدنيين والعسكريين عبر الاشتباكات المسلحة مع القوات الحكومية ، أو عبر الكمائن للحافلات المدنية ، أو بالتفجيرات والعبوات الناسفة ، ووضعنا التصعيد السياسي الهجومي الاقتصادي والسياسي والإعلامي والعسكري الغربي والخليجي ، لتوسيع قاعدة ومسرح العمليات وزيادة أحجام الخسائر المادية والبشرية ، فإن المشهد السوري يصبح مرشحاً لاحتمالات تتراوح بين ما حدث في ليبيبا وما حدث في أفغانستان . وعلى اعتبار أن التدخل العسكري لتطبيق المثال الليبي غير مفضل حتى الآن لدى أولي الأمر في الدول الاستعمارية ، لأنه قد يجر إلى صراع إقليمي ودولي من الصعب السيطرة عليه ، ومن الصعب تحمل حسائره البشرية والمادية ، وذلك لتداخل مصالح جيو – سياسية دولية كبرى وبترولية في الأزمة السورية ، ولإمكانية رد عسكري مؤلم شبه مؤكد من قبل المعتدى عليه وحلفائه ، فإن المثال الأفغاني ، هو الأقل تكلفة مادياً والأكثر تجنباً للخسائر البشرية .
وتحقيقاً لذلك ، فإن الجهود منصبة الآن على قدم وساق ، لبلورة تحالف دولي يشمل المعارضة السورية الموالية للغرب ، ومنظمة القاعدة ، وتركيا ، ودول الخليج العربية ، والاتحاد الأوربي ، والولايات المتحدة ، والكيان الصهيوني ، يهدف إلى تجنيد وتسليح المعارضين السوريين والمرتزقة ومجاهي القاعدة ، و” الجيش السوري الحر ” ، لدعم العمليات المعارضة المسلحة وأنشطة ” القاعدة ” التدميرية في الداخل السوري ، لإحداث الاضطراب الأمني والاقتصادي وتفكيك الجيش والدولة وتمزيق وحدة الشعب ، وبالتالي لإزالة الكيان السوري الحالي ، وإحلال كيانات فيدرالية أو مستقلة محله ، حيث يزال بذلك مربع جيو – سياسي كان غير مطابق لرغبات أصحاب مخطط الشرق الأوسط الجديد ، الذي بشر به ” بيريز ” نظرياً في الثمانينات من القرن الماضي ، وحاول تجسيده ” بوش ” عملياً في العقد الأول من القرن الحالي .
ماذا يعني تطبيق المثال الأفغاني في سوريا .. إنه يعني تشجيع وإكراه أعداد كبيرة من السوريين القاطنين في المناطق الحدودية على الهجرة إلى دول الجوار ، والعيش في مخيمات أعدت و’تعد لهم ، ليس لتأمين الحماية والإقامة الآمنة لهم كما ’يزعم ، وإنما من أجل إعادة بناء عقولهم ومشاعرهم وتعبأتهم أيديولوجياً لخوض حرب أهلية مقدسة طويلة ، واحتوائهم بتنظيمات شبيهة بمنظمة القاعدة ، وتدريبهم وتجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم مع مرتزقة من بلدان أخرى إلى الأراضي السورية ، لممارسة هذه الحرب باسم ” الجهاد المقدس ” ضد الجيش الوطني وضد قطاعات شعبية واسعة يتم تصنيفها ” عدوة ” أو ” كافرة ” تحت قيادة حلف الناتو ومخابرات دول الجوار وضمنها الكيان الصهيوني . وبذلك تصبح المعارضة السورية المسلحة جسر عبور مريح للتدخل العسكري الخارجي غير التقليدي في الشأ ن السوري ، الذي سيجلب معه كرزاي سوري ، وينتج طالبان سورية ، ومنظمة قاعدة سورية . وتتحول سوريا إلى بؤر مصدرة للإرهاب على مستوى إقليمي ودولي ، لتسويغ متابعة الحرب الأطلسية على الإرهاب ، بصيغة أكثر مرونة ، وأقل تكلفة ، وإثارة للإحتجاجات ، ولوقف عملية نشوء عالم متعدد الأقطاب ، واحتكار الهيمنة الأطلسية على العالم .. وعندها يمكن القول في حال المعارضة التي تلج هذا المسار .. أنها جاءت لتغيير البلاد كما زعمت نحو الأفضل .. فتحولت هي نحو الأسوأ .
وفي هذا السياق ، أليس من حق المواطن السوري ، أن يقلق على مصيره ومصير أهله ووطنه ، وأن يطرح السؤال ، الذي تتفرع عنه عشرات الأسئلة المشروعة : من فوض معارضي مجلس استانبول وغير مجلس استانبول بالتحدث با سم الشعب السوري ؟ من منح الشرعية لعلاقاتهم مع الدول الاستعمارية ومع الكيان الصهيوني لعقد الصفقات السياسية والعسكرية المتعارضة مع المصالح الوطنية ؟ من شرعن سياساتهم وطلباتهم بالتدخل العسكري الخارجي أو تحت مسميات أخرى بديلاً للحوار الوطني والحل السياسي للأزمة السورية ؟ .. وإذا كان تنصيب الناتو لكرزاي رئيساً للدولة الأفغانية قد كلف أفغانستان مئات آلاف الضحايا والمشوهين والمشردين وأعاد أفغانستان قرناً إلى وراء ؟ .. وإذا كان تكريس الناتو لمصطفى عبد الجليل رئيساً للدولة الليبية كلف الشعب الليبي أكثر من مئة ألف قتيل وأربعمئة مليار دولار ووضع ليبيا برسم التقسيم ؟ فكم سيكلف تنصيب الناتو لأحد المعارضين الموالين للغرب رئيساً لسوريا من قتلى وجرحى ومشردين .. وكم من الخسائر المادية والروحية التي ستقع ، وكم من السنين سيعيد ذلك الحدث سوريا إلى وراء ؟
إن التصعيد الجاري في عمليات التفجيرات ” القاعدية ” والعبوات الناسفة كرد على خسارة بابا عمرو ، وتعبيراً عن الرغبة الملحة في تغيير موازين القوى لصالح دعاة التدخل العسكري الخارجي وإسقاط الحل السياسي ، يعيد ترتيب الأولويات في المسألة السورية . فعلى الرغم من أهمية متابعة العمل من أجل تجسيد الحياة الديمقراطية فعلاً في البلاد ، فإن مصير سوريا كشعب وكيان يتقدم ، أكثر من أي مضى على ما عداه ، إنه يتطلب من كافة الغيارى على الوطن والصادقين في مطلب الديمقراطية من وسط الحكم ومن المعارضة الوطنية الديمقراطية ، يتطلب العمل السريع والجاد لتحقيق الوحدة الوطنية قبل فوات الأوان .. الذي يأتي في مقمته الحفاظ على الوطن أرضاً وشعباً ، ومواجهة ما تتعرض له البلاد من مخاطر داخلية وخارجية ، وتصويب العملية السياسية ، وإعادة بناء الدولة وفق معايير المصالح الوطنية والقيم الديمقراطية .. وحتى لاتكون سوريا سورستان .. أي تكراراً لما حدث في أفغانستان وباكستان .. بل أن تكون دائماً وإلى الأبد .. لكل أبنائها كما قال رجل بابا عمرو .. ” سوريا هي العرض والشرف والكرامة .. سوريا هي الشمس ” ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى