صفحات سوريةمعتز حيسو

حتى لا تنكسر إرادة الشعب… السوري/ معتز حيسو

هل يستطيع نظام سياسي أن يكسر إرادة الشعب أو أن يهزمه؟

وإذا حصل وكُسرت إرادة شعب ما، أفلا يعني هذا هزيمة للتاريخ. فالهزيمة بهذا المعنى تمثل انتصاراً لسلطة سياسية تعيد إنتاج التاريخ السلطوي من منظور قوتها القهرية. فالسلطة المنتصرة، تنتصر باسم الشعب على الشعب. وفي بعض المفاصل التاريخية تقدم السلطات التي تعادي مواطنيها، الشعب بمثابة قربان على مذبح التدخلات الخارجية، لتسجيل انتصارات ذاتية وهمية. وكذلك تشتغل بعض الأطراف على فرض ذاتها وأيديولوجيتها على الشعب بالقوة القهرية وباسم الشعب، بذلك تتقاطع وتتزامن آليات اشتغال أطراف الصراع، من حيث الأهداف والآليات، على فرض سلطتها على الشعب مدعية تمثيله، والدفاع عن حقوقه.

فإذا كانت إرادة الشعب لا تُقهر، فمن الممكن أن يتكيف مع واقع محدد وأزمة معينة، وقد يصمت، فيتحّمل تداعيات المرحلة وتناقضاتها، وتحديداً في لحظة يجري فيها خلط الأوراق، فتتضارب الحقائق غائبة كانت أو مغيّبة. ومن الممكن أن يدخل في تناقض ذاتي، يؤدي إلى انقسامه على ذاته أفقياً وعمودياً، فيدخل في صراع متداخل ومتراكب، يقود المجتمع إلى كارثة اجتماعية وإنسانية. فالصمت لا يعني الحياد، بقدر ما يعني اصطفافاً كامناً يفتقد وعي الذات السياسية. فعدم انتقال الوعي إلى مرحلة وعي الذات بالذات وللذات السياسية التي تمثّل جوهر المواطنة، يمثل مرحلة ركود، لكنها مرحلة يتحسس فيها الإنسان مصادر قوته وأهدافه. وعندما يتحول الوعي من وعي ذاتي أنوي، إلى وعي سياسي، يكون الفرد قد وقف على عتبة انتصار الذات العارفة الواعية لذاتها، على الذات غير العارفة وغير المدركة لقوتها الذاتية. ويعدّ هذا التحوّل بداية ولوج حقل الممارسة السياسية.

لقد تحمّل السوريون مزيداً من الإفقار والتهميش وتكميم الأفواه. ومع ذلك يلتفّون على ذاتهم متكيفين مع واقعهم، نتيجةً لعدم وجود آليات ومنافذ للتعبير الحرّ. فكانت الأزمات المتعاقبة تطحنهم وتسحق أرواحهم بين ضلوعهم.

فالكرامة التي يجب أن تكون تاجاً على رؤوس السوريين تُسرق منهم، وحريتهم تبتعد عنهم كما السراب في الصحراء. أما آدميتهم، فيجري تجريفها. ولم يبق لهم في سياق أزمة ليس لحل لها من آفاق، إلا تحمّل الألم والجوع وفقدان الأمل.

أما الإحباط ، فإنه يُظللهم ويخيم عليهم، حتى بات يلازمهم كما ظلهم. وقدرتهم على تحمّل تناقضات الأزمة وتداعياتها، تتسرب من بين ضلوعهم، كمن ينازع أنفاسه الأخيرة. فلم يبق لهم شيئاً في وطن يتمزق على هول عنف أعمى، بينما الحرب تكسّر أحلامهم وتهدمها.

لقد بات الإنسان يشابه تلك المنازل المدمرة بفعل القوة العمياء. فتحوّل الوطن والشعب رهينة لأمراء الحرب وتجار الأزمات، ولمن يخون الإنسان، ويدّعي الدفاع عن الوطن .

ومع هذا فإن الشعب السوري يتمسّك بوطنيته ويرفض العنف ويتكيف مع أسوأ الظروف. وحتى لو تحوّل إلى ضحية، فإنه لن يخون وطناً أسكنه ذاته.

لكن أليس لقدرة البشر من حدود. ماذا لو بدأ صبر السوريين بالنفاد؟ ماذا لو لم يعودوا قادرين على التكيف والتحمّل؟ فالعنف والدمار والجوع وفقدان الأمل، تفرض جميعها في بعض اللحظات على الإنسان قضايا ومسلكيات يرفضها في الأحوال الطبيعية.

فالكتلة الكبرى من السوريين ما زالت صامتة، لكنها ليست محايدة. تتابع بعين الرقيب ما يجري من حولها. أصابها الإحباط من معارضات سياسية تدّعي تمثيل الشعب، لكنها انساقت وراء أوهامها ومصالحها، حتى أصبحت أدوات في معارك لا علاقة للشعب السوري بها. والأنكى أنهم حوّلوا الإنسان إلى وقود في معاركهم العمياء، وإلى رهينة لعنف الكبار. كما أنهم أُصيبوا بالإحباط من سلطة لا ترى سبيلاً للحل إلا القوة التي طاولت المدنيين قبل المسلحين، وأصحاب العقلانية السياسية قبل المتطرفين. حتى تحوّل السوريون إلى سندان يئنُّ تحت مطارق الداخل والخارج. فالشعب السوري يتسامى فوق جراحه وآلامه، ويدرك أن طاقته على التأقلم والتلاؤم مع الأزمات التي تطحنه، لن تلين، لكن في ظل انسداد الآفاق وتفاقم الأزمات، من الممكن أن ينفجر على ذاته، ويخرج من رحم الأرض كما المارد، أو كما الفينيق من رماد، ليقود معركته الأخيرة. فهل سيكون هذا التحوّل إعلاناً لميلاد جديد؟

فالإنسان السوري يُدرك أن وطنه يُسرق منه، ومع هذا يدفع من روحه صمتاً وصبراً. ويُدرك أنه يُدفع إلى التدمير الذاتي، لكنه يدافع عن ذاته ووطنه بوعيه. فالمجتمع الذي يتنابه العنف المتخلف، يدخل طور التفكك والانقسام والتشظي العمودي. وكيانية الدولة مهددة بالتحلل إلى دويلات فاشلة وعاجزة ومرهونة لإرادات الخارج، إذا لم يتمكن السوريون من الدفاع عن وطنهم، وذاتهم المهدورة.

فالتحمّل فقط، لم يعد كافياً. وهذا يؤكد ضرورة البحث عن مخرج وبديل يعبّر عن مصالح السوريين الحقيقية، لكن هذا لم ينضج بعد، نظراً إلى فشل أطراف الصراع الذين اعتمدوا العنف وسيلة وحيدة، وهم يدركون، أو باتوا يدركون أن القوة العمياء حوّلتهم إلى أدوات. وأن العنف لن يُخرج السوريين من الكارثة التي تحيق بهم وتجثم على صدورهم، بل يفتح مكونات المجتمع على صراعات وتناقضات شاملة ومركبة، ويزجّها في حقل التصفيات العرقية والمذهبية التي بدأت نذرها المشؤومة تلوح في الأفق. ومما يضاعف من أزمة السوريين ومعاناتهم، دخول مقاتلين عابرين للجنسية والحدود حلبة الصراع المفتوح. فهذه الأطراف لا يعنيها من سوريا إلا استنهاض العنف العقائدي العصبوي، والقتل الأيديولوجي الأعمى. وهذا سيعمّق التخلف والدمار. وتدلل على ذلك، الجرائم التي تُرتكب بحق المسيحيين وأبناء الريف في مدينة اللاذقية، والاستهدافات المتكررة للمدنيين في مدينتي جرمانا والسلمية… كذلك جرائم القتل الجماعي بحق إخوتنا الأكراد. ومن الواضح أنّ جرائم كهذه لا تميّز بين فقير وغني، بالرغم من أن الفقراء والمهمشين والطيّبين دائماً هم الهدف الأبرز. لماذا؟ سؤال مطروح على الجميع.

لكن ليست شروط الأزمة وعواملها فقط، هي التي أخرست السوريين وحيّدتهم، بل في ذاكرتهم يعشش ماضٍ مخيف، يمنعهم من مغادرة صمتهم، فالخوف رغم انكساره النسبي لم يزل قابعاً في داخلهم، ويمثل جزءاً من تكوينهم. وهذا يسهم إضافة إلى طغيان صراع أعمى في تحوّل السوريين لحماية أنفسهم إلى إحياء انتماءاتهم الأولية والالتصاق بها كما الجنين. فينكصون بذلك إلى ما قبل الدولة التي لم تنجح السلطة في تجاوز تشكيلاتها العصبوية المتخلفة، وهذا يمثل جانباً من الأزمة وأحد أسبابها.

فالشعب السوري بغالبيته العظمى يتابع فشل المعارضة والسلطة وتواطؤ الخارج، لكنه لم يضع حتى اللحظة، يده على كوامن طاقته الحقيقية. وبالرغم من تغييبه عن العمل السياسي والمدني الضامن للاستقرار والتغيير، فإنه يُدرك أن من أسباب الأزمة، الارتهان للخارج والاستمرار في قهر الإنسان وإهداره. فاستنهاض طاقته الكامنة يحتاج إلى قوى سياسية عقلانية متجذّرة في رحم المجتمع. وهذا غير متوافر نتيجة عوامل متعددة. كذلك فإن تراجع التوافق الوطني أمام عنف الاصطفافات المذهبية والطائفية التي باتت تطفو على سطح المجتمع، يزيد من إشكالية اللحظة الراهنة وتعقيداتها. ومع أن إرادة الشعب تبدو حتى اللحظة مقيدة بالعنف والخوف، ورغم أن الصمت يمثل الطريقة شبه الوحيدة حتى اللحظة، فإن الأصوات الرافضة للعنف وثقافة العنف تخترق جداره.

لكن نهاية الصمت، قد لا تكون بالضرورة مدخلاً للتغيير الذي يطمح إليه السوريون. وقد يزيد من تعميق الكارثة الوطنية، ومن هدر الإنسان، نتيجة لسيادة لغة العنف والإقصاء والاستهداف الممنهج. وأيضاً نتيجة لغياب العقلانية السياسية. ومن الممكن أن يفتح المجتمع على المجهول من التخلف والتفكك والتحلل… ليكون بداية الانهدام الذاتي لمستقبل سوريا، الذي تتكالب عليه قوى الطغيان والتخلف.

وهذا يعني التأكيد على ضرورة وعي الشعب لمصالحه الحقيقية، وعلى ضرورة القطع مع قوى الظلام التي تريد صهره في صراع سيسحقه، ويكسر إرادته.

فإرادة الشعب لا تُقهر عندما تُوضع في السياق الصحيح، وعندما تتوافر لها القيادات المنبعثة من عمقها. فالشعب السوري وإن طال صمته وقُيدت إرادته، فإنه لا بد أن يجد السبيل الذي يُعبّر فيه عن ذاته.

ومع ضرورة التغيير الوطني الديمقراطي، فإن ما يجري يبدو حتى اللحظة يقود المجتمعات العربية إلى أكثر مراحل التاريخ العربي تخلفاً وظلامية.

فالمطلوب ليس إسقاط ركائز الدولة، بل بناء دولة الحرية والعدالة، والمصالح العامة المشتركة. وحينما يتحوّل الصراع إلى استهداف الدولة، فإن الجميع سيسقطون في حروب أهلية تُهدّم الوحدة الوطنية والاجتماع السياسي.

فـ«الثورة» التي تصنع قواعدها ومرتكزاتها، هي حقل للتفاعل وصراع المصالح والآراء والميول المتعددة والمتباينة. لذلك، فإنها مُطالبة بإنجاز مهمات تتقاطع عليها فئات الشعب المختلفة. وكل تنضيد وتعليب لها يقتل أبعادها الاجتماعية في الحرية والعدالة والكرامة، ويحولها إلى حالة فئوية أو نخبوية.

* باحث وكاتب سوري

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى