محمد تركي الربيعومراجعات كتب

حجاب المصريات والاحتجاج الهادئ في السبعينيات: إحياء إسلامي أم حركة نسوية دينية؟/ محمد تركي الربيعو

 

 

شهدت شوارع القاهرة في سبعينيات القرن العشرين، ظاهرة بدت عصية على الفهم لدى الكثير من الدارسين والمهتمين بتاريخ المدينة والمنطقة؛ تمثلت هذه الظاهرة بالحضور المرئي والمتزايد لمظهر ارتداء الحجاب لدى طالبات الجامعة، وطبيبات، ومهندسات، وصيدلانيات.

وقد حاول عدد من علماء الاجتماع، في ظل التكهنات المتعددة، الكشف عن أسباب هذا التنامي الملحوظ في ارتداء الحجاب، من خلال طرح مفهوم الطبقة بوصفه العامل الأهم الذي قد يكشف سبب هذه الاتجاهات الإسلامية؛ فشباب القرويين أو الشباب الذين قدِموا من خلفيات ريفية صاروا معدمين، ولذلك وجدوا في الهجرة والعودة إلى الدين وارتداء الزي الإسلامي استراتيجية تساعدهم على محو أصولهم الطبقية.

ويعد كتاب اريلين ماكليود «الاحتجاج الهادئ: المرأة العاملة، الحجاب الجديد، والتغير في القاهرة»، واحداً من الكتب التي حاولت استبعاد عامل الإحياء الإسلامي لصالح العامل الاقتصادي؛ من خلال دراستها لحيوات خمس وثمانين امرأة من نساء «الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى» اللاتي يعشن في مختلف أحياء القاهرة، والكثيرات منهن يعملن في وظائف كتابية. وقد صاغت ماكليود حجة تعرض هؤلاء النساء (لمأزق مزدوج واجهن فيه خيارين أحلاهما مر) لتفسر انتشار الحجاب بينهن. ووفقاً لماكليود فإن نساء هذه الشريحة كنّ في حاجة إلى عمل لأسباب اقتصادية، لكن أيديولوجية الذكورة السائدة بقيت تعارض عمل النساء؛ وفي ظل هذا الصراع، ما كان من النساء، سوى اللجوء الى استراتيجية التحجب. مع ذلك، ترى ماكليود أن هذه الاستراتيجية، لم تساعد في تحرير النساء، سوى في ما يتعلق بالعمل، لأن القبول بفكرة الهوية التقليدية (الحجاب)، بدون اللجوء لأساليب أخرى، قد أدى إلى قيام هؤلاء النسوة بإعادة إنتاج عدم المساواة من جديد.

تفسير ماكليود، بالإضافة إلى معظم التفسيرات التي حاولت ربط حالة التدين بالفقر، والريف، سرعان ما ستشهد عدداً من المراجعات الجذرية، من قبل فريق آخر من الباحثين في تاريخ الشرق الأوسط والحركات الإحيائية.

وكمثال هنا يمكن أن نشير إلى دراسة أليس غولدبرغ «تحطيم الأصنام والدولة: الأخلاق البروتستانتية والراديكالية السنية المصرية» تُرجمت للعربية قبل سنوات في كتاب كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟ التي حاولت تجاوز القراءات ذات المدخل الطبقي/الاقتصادي. إذ يرى غولدبرغ أن الحجج التي أوردها بعض الباحثين أمثال، جيل كيبل وأريك ديفيز، من أن البرنامج الإسلامي قد نشأ بسبب انحدار الوضع الاقتصادي لأعضاء الجماعات، تعبر عن تأثر برؤية والزر للبيوريتانية كاستجابة لفوضى اجتماعية واقتصادية، ومحاولة إسقاط هذه الرؤية على حالة الحركات الإسلامية، خاصة أن الوضع الاقتصادي كان يتحسن في فترة الخمسينيات والستينيات في مصر مثلاً، التي شهدت تقدماً اقتصادياً وإعادة توزيع مهمين. فالأجور كنسبة من الناتج المحلي الزراعي زادت من عام 1951 ـ 1952 إلى 1969 ـ 1970 من 17٪ إلى 30٪، كما زادت حصة النسبة الأدنى 60٪ من الأسهم في الاستهلاك المحلي بين عامي 1958 ـ 1959 و1974 ـ 1975، في المقابل تناقصت نسبة الأشخاص الأعلى دخلاً بين عامي 1950 و1976. فليس من المرجح إذن أن الكثير من الشباب قد تأثروا بشكل سلبي في عهد عبد الناصر، ثم إن أحوالهم عادت للازدهار في عهد السادات. من هنا يعتقد غولدبرغ أن النظر إلى الحركات الإسلاموية بوصفها تشكلت كرد فعل على ضغط اجتماعي أو اقتصادي، تبقى فكرة أقل دقة ومعقولية من تفسيرها بوصفها جاءت كرد فعل على تزايد مركزية سلطة الدولة. هذا في ما يتعلق بموضوع ربط الإحيائية الإسلامية بالتفسير الاقتصادي.

أما في ما يتعلق بالحجاب، فقد بينت الأنثروبولوجية المصرية فدوى الجندي، من خلال دراساتها الأثنوغرافية، أن النساء وحتى الرجال ممن أخذوا بهذه المبادرات في لبس الزي الإسلامي، أو بالأحرى إعادة خلق اللباس الإسلامي المحلي، بداية كانوا من أفضل المتفوقين، وان هذه الظاهرة لم تخترق الطبقة الفقيرة أو الوسطى، بل اخترقت أكثر البيئات غنى، من نادي الجزيرة إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، وبالتالي فقد شملت قطاعات واسعة من المجتمع الحضري.

وفي كتاب آخر للعالمة ذاتها (فدوي الجندي/ الحجاب) الذي تُرجِم مؤخراً للعربية، ترى أن الاشكالية التي وقع فيها بعض الباحثين، خاصة ماكليود، حيال تفسير تنامي ظاهرة الحجاب عبر ربطها بالوضع الاقتصادي، لا تكمن وحسب في عدم توافقها مع نتائج البحث الميداني، بل أيضاً، لكون هذه الرؤية تقوم على تعريف محدود للنسوية؛ أو لنقل على رؤية نسوية غربية، بقيت تتجاهل إلى حد بعيد، فكرة أن انغراس النسويات في أرضية ثقافتهن تعد من أساسيات نجاح أي حركة نسوية.

ولتوضيح هذا الجانب، تعود بنا الباحثة إلى بدايات الفكر النسوي في مصر، الذي كان ينقسم وفقاً لليلى أحمد إلى تيارين اساسيين: فهناك النسوية المتجهة للغرب التي أخذت به هدى الشعراوي، وتيار نسوي آخر دعت إليه ملك حفني ناصف، ثم طورته لاحقاً زينب الغزالي، والحركة الاجتماعية في السبعينيات.

ومن المدهش ـ وفقاً للباحثة ـ أن نزع الحجاب لم يكن جزءاً من الأجندات الرسمية للحركة النسوية في ذلك الوقت، وأن سياق نزع الحجاب كان يأتي للدلالة على رفع البرقع وليس الحجاب. وقد ألقت هدى شعراوي كلمة في المؤتمر النسوي في روما خصت فيها بالذكر حجاب الوجه (البرقع)، لا الحجاب، باعتباره عائقاً يحول دون تقدم النساء. وحين خلعت هدى شعراوي الحجاب بحركة مسرحية في عام 1932، كان ما خلعته حجاب الوجه وليس الحجاب.

ولذلك ليس بقليل أن تحقق شعراوي نجاحاً كبيراً في قيادة الحركة النسوية الوطنية لاحترامها للتقاليد، ولكونها بقيت محجبة. مع ذلك، فقد بقيت توجهات شعراوي، أو خطابها متأثراً بالرؤية النسوية الغربية. في المقابل كان لملك حفني ناصف الدور الأكبر والأهم؛ فمن ناحية، كان رد فعلها الدائم على الدعوة لرفع الحجاب من قبل كتابات الرجال المصريين، واعياً لإشكالية هذا الخطاب، كونه في رأيها كان يعيد إنتاج الذكورة من جديد في الخطاب العربي المعاصر، عبر إلزام النساء برفع الحجاب.

الأهم من ذلك، هو تأكيد ملك حفني على عنصرين مهمين وغائبين عن الأجندة النسوية لهدى شعراوي. أولهما، المطالبة بفتح جميع مجالات التعليم العالي أمام النساء، فبينما وُجِدت النساء بأعداد كبيرة في مجالي الطب والهندسة، فقد غيبن عن تخصصين بعينهما، ألا وهما: دراسات اللغة العربية والدراسات الإسلامية.

ثانياً: طالبت حفني بتخصيص أماكن في المساجد للنساء ليشاركن في الصلاة في المجال العام. وبمطالبتها بأن تغدو المساجد في تناول النساء، تكون قد أسست أجندة تعترف بما يقع في قلب الثقافة. فقد كانت أجندة ملك حفني ناصف قريبة مما دعاه لاحقاً المفكر العربي فهمي جدعان بـ«النسوية الإسلامية التأويلية»، وهي نسوية ترى أن تفكيك الخطاب الأبوي لا يكون إلا عبر إعادة تأويل المرجعية الإسلامية، وهو ما يعني الانخراط في فعل اجتهادي ولاهوتي، كحق من حقوقهن.

هذا ما نجده لدى حفني؛ إذ يمكن للشخص وفق رؤيتها أن يختار سبيل النسوية الليبرالية أو النسوية الإسلامية، لكن لا يمكن فرض الإصلاحات أو تحقيق الأهداف في أي السبيلين، بدون الحصول على المعرفة الإسلامية الأولية المباشرة عبر اللغة العربية، لأن القوانين والعادات تقوم على أساس قرارات وقوانين مستمدة من النصوص المقدسة، ولكي يكون التعامل معها لا بد من تناولها في الإطار الذي خلقها. وبالتالي يمكن للنسوية في سياق الإسلام أن تقدم السبيل الوحيد المتاح لتمكين النساء وتحريرهن بدون تحدي الثقافة ككل.

هذه الرؤية، ستشهد تصوراً أوضح مع قدوم زينب الغزالي؛ فهذه الفتاة التي ولدت لأب هو رجل دين، كانت قد تلقت في طفولتها دروساً في الفقه والدين، قبل أن تحصل على شهادة ماجستير في الحديث والتفسير، الأمر الذي أهّلها لاحقاً لتكون قائدة تيار نسوي إسلامي، عبر تطويعها وتأويلها لمفاهيم إسلامية عديدة، لتؤسس لرؤية نسوية إسلامية. وهذا الجانب هو ما لاحظته مثلاً ميريام كوك في قراءتها لمذكرات زينب الغزالي، إذ لاحظت أن مفهوم الجهاد لدى زينب الغزالي، يعني إمكانية تعديل أنماط السلوك الاجتماعي والجندري المتعارف عليها، ريثما نصل إلى المجتمع المثالي الذي يعقب الحرب.

في السبعينيات، سنكون، وفقاً للكاتبة، أمام حركة حجاب جديدة، ظن البعض أنها انعكاس لحالة الإحيائية الإسلامية، في حين ترى أن التوصيف الأدق لها، هو أنها حركة شعبية، أو بالأحرى «حركة اجتماعية جديدة»، لا تنظيما رسميا ولا عضوية رسمية. مع ذلك فإن هذا الاتجاه النسوي سيبقى خارج سجلات وقائع النسوية المصرية، وحتى العربية التي اقتصرت في دراستها على دراسة شريحة ذات خلفيات علمانية في الأساس، ورفضت بالمقابل أي نقاش أكاديمي لهذه الظاهرة الجديدة.

رغم ذلك، ترى الجندي أن ما حدث في السبعينيات، من خلال نمو ظاهرة الحجاب، كان يعبر عن حركة نسوية إسلامية؛ نسوية لأنها تسعى إلى تحرير النساء؛ وإسلامية لأن حججها متضمنة في المبادئ والقيم الإسلامية. ثم أن النسوية الليبرالية المتأثرة بالغرب والنسوية الإسلامية ليستا متباعدتين بمعنى ما، فكلتاهما وفقاً لها تدوران حول تحرير النساء؛ لقد كان رفع الحجاب في الحركات النسوية المبكرة معنياً بالتحرر من الإقصاء، وكان ارتداء الحجاب طوعاً منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين معنياً، بمعارضة غياب الاختيار، وبالتحرر من الهويات المستوردة المفروضة على النساء، والسلوكيات الاستهلاكية، وثقافة تزداد إيغالاً في المادية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى