صفحات العالم

“حجي بكر” و”دير شبيغل” نموذج لتحولات العرب السنة من البعث لـ”تنظيم الدولة”/ وائل عصام

 

 

لا يمكن تفسير صعود «تنظيم الدولة» بمعزل عن فهم تحولات المجتمع السني في العراق وسوريا، من المرحلة القومية وصولا لمرحلة التيارات الجهادية وفصيلها الأبرز «تنظيم الدولة»..

وهي تحولات تؤكد وجود رابط تاريخي يجمع افراد المجتمع السني حول «هوية عميقة» بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وهو ما كنت قد اطلقت عليه مجازا «القبيلة السنية». الحاج بكر نموذج لحالة «القبيلة السنية» في العراق وسوريا، من حيث «الهوية الكامنة» الثابتة، ومن حيث التحول في الوجه السياسي للقبيلة السنية قوميا كان او اسلاميا، وإن بدا مبررا بانتماءات فكرية وايديولوجية، تبدو كاختلافات فرعية ثانوية أمام هوية جامعة اكبر توحدهم أمام الآخر.

فالذين قاتلهم الحاج بكر عندما كان بعثيا وضابطا في جيش صدام ودولة البعث هم انفسهم تماما الذين قاتلهم عندما اصبح قياديا في الدولة الاسلامية.. إنها الميليشيات نفسها، الشيعية والكردية، وإيران والامريكيين والنظام البعثي السوري بنخبته العلوية. واللافت ايضا ان الاخوان المسلمين في العراق كانوا خصوما «للبعث الكافر «حسب وصفهم، وهم الان ابرز الحلفاء السنة للاحزاب الشيعية السياسية وميليشياتها التي تهاجم المدن السنية في العراق.

ليس المقصود بالتحول السياسي انه مظهري فقط، بل هو بلا شك مرتبط بتغييرات فكرية في فهم العلاقة بين العروبة والاسلام، واولويات حددها الصراع، لتنعكس على تعريف الهوية، وتعريف الذات، فالعربي السني بدأ يشعر، خصوصا بعد أحداث 1991 والتمرد الشيعي وصولا لسقوط بغداد 2003، ان البعثية والقومية العربية لم تعد رابطة توافقية بين العراقيين، وتراجعت عن كونها معبرا حقيقيا عن مشروعه السياسي، فاتجه بعد مخاض طويل للاسلام السياسي، في تراجع عن التوافق مع الآخر لصالح الالتفات اكثر لهوية سنية صارخة..

وهذا ما حصل مع الحاج بكر، إذ انه رغم انتمائه لعائلة بعثية عريقة، انقسمت عائلته في السنوات الاخيرة قبل احتلال بغداد، بين اسلامي وبعثي، كحال ابناء الكثير من العائلات ضمن «القبيلة السنية»، والحاج بكر نفسه تحول للإسلاموية وتحديدا للسلفية، كالكثير من ابناء محافظة الانبار التي ينتمي لها، لذلك فان ما ورد بموضوع «دير شبيغل» عن ان الحاج بكر «كان وطنيا وليس اسلاميا»، وانهم «لم يجدوا قرآنا في بيته بعد مقتله»، هذه العبارات تؤكد ان الكاتب استقى معلوماته من مصدر من المعارضة السورية على خصومة معروفة مع تنطيم الدولة، خصوصا بعد تلاشي معظم هذه الفصائل وانهيارها امام تنامي قوة ونفوذ تنظيمي الدولة والنصرة، اللذين باتا يسيطران على اغلبية مناطق المعارضة السورية اليوم، بعد طرد ابرز الفصائل المرتبطة بالمنظومة الاقليمية العربية كفصيلي جمال معروف وحركة حزم.

اما المصدر الآخر الذي استقى منه الكاتب معلوماته، فهو مستشار في حكومة المالكي كان شيعيا ثم تسنن، بينما كان من الممكن ببساطة معرفة سيرة الحاج بكر من المقربين اليه بالعمل او منطقة سكنه، وهذه السيرة تؤكد ان الحاج بكري كان ذا توجهات سلفية في سنواته الاخيرة ما قبل الاحتلال، وانه انضم للمجموعات الجهادية فور سقوط بغداد، مثله مثل ضباط اخرين كانوا مساعدين للزرقاوي كثامر الريشاوي، والمتتبع لسيرة معظم الضباط الذين انخرطوا في «تنظيم الدولة» يجد انهم لم يكونوا بمستويات رفيعة بالحزب، ويجمعهم توصيف محدد هو انهم ذو ميول دينية معروفة داخل المؤسسة العسكرية العراقية، وكانوا ملاحقين ومراقبين من اجهزة الامن في عهد صدام، بل وكثير منهم إما طرد من الجيش او تم اعتقاله..

وما يؤكد ان البعثية لم تترسخ ولم تحل بديلا عن الانتماءات المذهبية والطائفية بالعراق، هو ان الحاج بكر وكثيرا من ضباط المؤسسة العسكرية من السنة، الذين كانوا بعثيين انتموا لفصائل اسلاموية جهادية سنية، اما الضباط الشيعة الذين كانوا في جيش صدام وكانوا بعثيين فهم ايضا انتموا للاحزاب الشيعية، بل اصبحوا قادة اساسيين في الميليشيات الشيعية، خصوصا العصائب، وتولوا ارفع المناصب العسكرية في قوات حكومة المالكي، كقنبر وعطا والغراوي وغيرهم الكثير من بعثيين سابقين.. نائب الرئيس والقيادي بالمجلس الاعلى الشيعي عادل عبد المهدي نفسه كان بعثيا. كان البعث يعني لهؤلاء حزب السلطة لا اكثر. لذلك فإن تكرار الحديث عن انتماءات «بعثية» لعناصر تنظيم الدولة والفصائل الجهادية ينم عن محدودية الفهم لواقع وتحولات المجتمع السني في العراق، وهو ترديد لاسطوانات لا يجوز لباحث رصين الخوض فيها حتى يبدو انه يكرر دعايات الخصومة بين الفصائل في سوريا والعراق، ومن ضمنها ارتباط فصائل جهادية وتنظيم الدولة الاسلامية بالنظام السوري، التي لا تعدو كونها مناكفات وترهات كثيرا ما يصدقها جمهور الطرفين من العوام..

وهنا تبرز مفارقة لافتة، إذ ان أكثر من يردد هذه الدعاية هم خصوم «تنظيم الدولة» من الفصائل وبعض قيادات النصرة، الذين كانوا بالاصل قيادات في تنظيم الدولة. وما يفعله خصوم «تنظيم الدولة» المتنازعين معه على السلطة والنفوذ وبالذات في سوريا هو محاولة مخاطبة الجمهور السوري البسيط الكاره لحزب البعث السوري الاسدي، بالقول ان تنظيم الدولة هو من البعثيين العراقيين.. وهنا تبدو المفارقة في اوجها، اذ ان نظام بعث العراق وجيشه ومؤسساته بنخبته السنية هو الاكثر عداوة للنظام الايراني ونظام الاسد، وبعث العراق هو الاعرق والاسبق في مواجهة الحلف الايراني الاسدي الذي يهاجم الثورة السورية اليوم، فايران خاضت حربا دموية ضد نظام البعث العراقي، وهي الان تخوض حربا دموية دفاعا عن نظام الاسد البعثي. إذن فانتماء اي شخص الى بعث العراق ومؤسسته العسكرية يفترض ان يطمئن السوريين الثائرين فنظام بعث العراق هو الاشد عداوة لنظام الاسد. بينما يمكن لاي احد اليوم القول على هذا القياس ان ضباط الجيش الحر السوري البعثيين كانوا اعضاء منذ عقود في جيش الاسد الذي يقتل ثورتهم اليوم، لذلك فان الوقوع في حقل الغام اتهامات الخصومة بين الفصائل تخرج أي بحث عن واقع الرصانة والعلمية. ولعل اخطر ما في الامر ان يتبنى اي باحث روايات طرف ما وإن كانت لا ترقى لمستوى الجدية، كاتهامات التنظيم او بعض الفصائل بالعمالة للنظام، ولم تعد سوى اسطوانات من ترهات فيسبوكية لا يصدقها سوى اصحاب التفكير الرغبوي. ولعله من المفيد هنا التذكير بان مهمة الحاج بكر الاساسية في سوريا كانت منذ البداية، تأسيس وتقوية جبهة النصرة، قبل النزاع مع تنظيمها الام الدولة، التنظيم الذي هدف من وراء تأسيس النصرة بناء حلف سني عابر للحدود بين سوريا والعراق، قادر على مواجهة حلف ايران الشيعي العابر هو الآخر للحدود، وان كانت بذور هذا المشروع بدأت مع الزرقاوي في العراق، الا ان الثورة السورية منحت التنظيم فرصة كبيرة للتماهي مع مظلومية السنة هناك، اذ ارسل قياديه ليشكل ذراعه الشامية، النصرة التي تمكنت بفضل نفوذها ( قبل النزاع بينهم) من دعم التنظيم بالعراق بالقوة المالية واللوجستية، ليرتد ذلك ايجابا للتنظيم بانجاز عملية السيطرة على الموصل والمحافظات السنية بالعراق. وهنا لا بد من الاشارة الى ان التنظيم الذي شكل بالحقيقة تجمعا لتحالفات محلية في مختلف المحافظات السنية بالعراق وسوريا، وليس العكس، اذا لا يمكن لتنظيم او مجموعة مسلحة ان تفرض سلطتها على هذا المحيط الواسع من شرق العراق الى سوريا، بدون بناء هذا التحالفات الفسيفسائية، وهو ما يعني نجاح فكرة الحلف السني الممتد بين سوريا والعراق، بالنسبة لاحد الذين عملوا لاجلها من زمنه القومي الى زمنه الاسلاموي، الحاج بكر.

كثير من الباحثين الغربيين، بل حتى العرب البعيدين عن فهم حال المجتمعات المنقسمة طائفيا في المشرق العربي، لا يستوعبون إلى الان كيف يمكن لشخص ان يكون بعثيا في العراق ثم يصبح اسلاميا، لان البعثية روج لها في بعض البلدان العربية (لاسباب سياسية ) وكأنها دين بديل. صحيح انها مذهب فكري لكنها كإحدى تيارات القومية العربية لا تملك مضمونا عقائديا بديلا للدين، وحتى اليسار الذي يملك تصورات عقائدية فشل كحال القومية العربية في الحلول مكان الانتماءات الدينية والمذهبية الاصيلة في المشرق العربي تحديدا.

سألني مرة صديق سعودي، كيف يمكن لبعثي علماني ملحد ان يصبح اسلاميا وربما جهاديا ؟ واضاف أن كثيرا من السعوديين يكرهون البعث ويعتبرونه حزبا كافرا معاديا للاسلام.. قلت له هل يحبون صدام حسين في السعودية؟ قال نعم يحبونه، لكن صدام تاب وأصبح مسلما. في الحقيقة لم نسمع أن صدام تاب عن بعثيته، لكنه ببساطة يمثل مثالا على تحول طرأ في «القبيلة السنية» بالعراق وسوريا، ما بين فهم يساري للقومية العربية معاد للاسلام السياسي الى عروبة اكثر تصالحا وتقاربا مع هويتها التاريخية.. الاسلام.. والدافع الاساسي لهذا التحول ليس مفاهيم دينية موجودة منذ تأسيس البعث، وانما استجابة للصراع المستجد، خصوصا بعد احداث عام 1991 والتمرد الشيعي الذي اسقط كل محافظات الجنوب، بينما صمدت محافظات السنة موالية لصدام. وعندها قلت لصديقي السعودي.. هل تعرف انه حتى في البلدان غير المنقسمة طائفيا وعرقيا بحدة كمصر وتونس، حدث ايضا هذا التحول، فما بالك ببلدان تعيش تحديا وجوديا بالنسبة لمكوناتها، فالغنوشي ابرز قادة الاخوان المسلمين كان قوميا ناصريا.. وسيد قطب نفسه كان ليبراليا، كما تشير كتاباته الاولى وقربه من حزب الوفد..

في المشرق العربي، ردود الافعال على اعدام صدام حسين كان ابرز مظاهر «الهوية السنية الكامنة»، متجاوزة الاوجه السياسية بين علماني وقومي، وحتى يساري، في المقابل ظهر شبه اجماع شيعي على الابتهاج بذلك بمختلف انتماءات المجتمع الشيعي، الاسلاميين منهم واليساريين.. وهو الصدام نفسه الذي حصل حول احتلال العراق، ومن ثم الموقف من المقاومة العراقية ومن ثم الثورة السورية.. وبمثل احداث كهذه يستحضر الصراع وتتحول المجتمعات لتستحضر «الانتماء الكامن»، وليس بسبب كتب دينية مركونة على رفوف المكتبات منذ مئات السنين.. من دون فهم هذه المقاربة لن نفهم الحاج بكر والالاف غيره من ابناء « القبيلة السنية» ممن تحولوا من القومية العلمانية للاسلاموية الجهادية.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى