صفحات الناسعمر قدور

حداثة البوط وعلمانيوه/ عمر قدور

 

 

ما كادت ردود الأفعال تخفت على حادثة تقبيل التونسية كوثر البشراوي بوطاً عسكرياً نسبتْه إلى جندي من قوات النظام حتى تطوع الممثل السوري زهير عبد الكريم بالمزاودة عليها. فعبد الكريم في زيارة تشجيعية لأحد المواقع العسكرية انحنى ليقبل البوط وهو في قدم صاحبه، ناظراً إلى الكاميرا في مشهد يجمع بين التذلل والتحدي. في بقية الخبر، هناك مجموعة من “الفنانين” السوريين تستعد لاستكمال ما بدأته كوثر البشرواي واستأنفه زهير عبد الكريم، وشوهد أفرادها يقتنون أبواطاً عسكرية من أسواق دمشق الشعبية!

الخوض في شخصيات عشاق البوط قد لا يكون الأهم، مع أنه قد لا يخلو من دلالات. فزهير عبد الكريم مثلاً عُرف خلال مسيرته الفنية بتأدية دور الممثل الثاني، أو صديق “البطل”، لذا ربما لا يكون مستغرباً منه أن يكون التالي بعد كوثر البشراوي، وأغلب الظن أن ذلك ينطبق على الذين يجهزون أنفسهم للحاق بالموجة، فهم لم يُعرفوا بالإبداع من قبل، حتى نجاحاتهم الفنية كانت محمولة على النجاح التجاري للدراما السورية في زمنها “الذهبي”، إذا لم نأخذ في الحسبان رعاية النظام ذلك النجاح. إذاً، كان ينبغي قدوم إعلامية غير سورية لتفتتح موجة الغرام بالبوط، ثم يلحقها أولئك الذين لا يقدرون على اجتراح موضة من هذا القبيل، وحتى لو بادروا وفعلوا من قبل لما أثارت فعلتهم الضجة المأمولة، لأن الكثيرين سينظرون إليها كأمر متوقع منهم.

الأهم على هذا الصعيد هي تلك الحملة التي بدأت في الأشهر الأخيرة للفصل بين النظام وقواته، والقول بأن كلاً منهما مختلف عن الآخر. فالجيش، بحسب هذا الزعم، هو جيش الوطن لا جيش النظام، والوقوف وراءه واجب وطني بخلاف النظام الذي تختلف الآراء حوله. تبرئة الجيش على هذا النحو لا تخفي الأهداف السياسية لها، فأصحابها يوحون بأن الآخرين يسعون إلى تدمير الجيش كمؤسسة، وكأن الخلاف هو حول وجوده أو عدمه، بينما الخلاف هو حول دوره في مستقبل سوريا. أيضاً يخلط هؤلاء عمداً بين المسؤولية التي تتحملها قيادات عليا من قوات النظام ووجود عناصر أو رتب دنيا لا تتحمل المسؤولية عن الجرائم، فوجود أولئك العناصر الذين لا حول ولا قرار لهم يُستخدم كذريعة لتبرئة الجميع، وتالياً كذريعة للتهرب من استحقاق إعادة هيكلة الجيش على أساس ودور مختلفين، بما في ذلك النأي به عن الولاءات غير الوطنية أو ما دونها.

الذريعة التي ساقتها كوثر البشرواي لتقبيل البوط هي الذريعة ذاتها التي يسوقها مروّجو الفصل بين النظام وقواته. فالجيش بحسب هذا الزعم يخوض المعركة ضد الإرهابيين التكفيريين، وهو زعم يتبنى بأثر رجعي رواية النظام التي أطلقها منذ اندلاع المظاهرات قبل أكثر من أربع سنوات. ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الفطنة ليدرك أن الاصطفاف خلف الجيش في معركته ضد “الإرهابيين” هو انتصار له في كل ما اقترفه من إبادة وتدمير. فالفصل بين النظام وقواته لا يصل إلى تجريم المرتكبين، ولا إلى إعادة النظر في دور الجيش، ولا حتى إلى اعتبار المعركة ضد التكفيريين معركة وطنية ينبغي التشارك فيها بالتزامن مع العمل على التخلص من النظام وإرهابه الذي سبق وفاق إلى الآن أي إرهاب آخر.

لكن أطرف ما في ظاهرة الوله بالبوط العسكري هو ذلك الادعاء بأنه رمز الحداثة والعلمانية مقابل الأصولية التكفيرية. فأولئك المغرمون بالبوط ينسبون إلى أنفسهم فضيلتي الحداثة والعلمانية، وينسبون إليه فضيلة حمايتهما. ولعلها سابقة تاريخية أن يُرفع البوط كرمز للاثنتين، وأن يُعزز ذلك السلوك ربطاً مستداماً بينهما، بحيث لا يمكن لبلد مثل سوريا أن يكون حديثاً وعلمانياً إلا تحت البسطار. ربما ينبغي التذكير أيضاً بأن النظام، مع توالي جرائمه، هو الذي كان يقدّم نفسه بوصفه حامياً للحداثة والعلمانية، والأهم أنه هو من اقترح بدايةً الفصل بينه وبين الجيش، إذ عمد إلى إقامة تماثيل للبوط على مداخل بعض المدن، تلك المداخل التي كانت تحتفي من قبل بتماثيل حافظ الأسد أو صور ضخمة له ولأبنائه.

تحت لافتة الحداثة انقلب عسكر سوريا على الديمقراطية الناشئة التي اتهموها بأشنع الأوصاف. وسرعان ما انحطت حداثة العسكر إلى نظام أمني متوحش وولاءات تحت وطنية. هذا لم يحدث على الصعيد السياسي والعسكري فقط، بل ساندته فئة من المثقفين المقتنعين حقاً بأن الديمقراطية لا تليق بالمجتمع السوري، وبأن البوط هو الوسيلة الأجدى لتكسير رؤوس السوريين كلما فكروا في رفعها. علمانية البوط هذه لم تأخذ من العلمانية سوى اسمها، وبحيث مرّغتها بأكثر من الوحل في أعين السوريين، فسمتها الأساسية هي العداء للدين، بينما تعني العلمانية في كل العالم حيادية الدولة وبقائها على مسافة واحدة من الأفراد والجماعات بما فيها الجماعات الدينية. وبالطبع يتجاهل هؤلاء تماماً أن العلمانية استقرت في مجتمعاتها نتيجة تحول ديمقراطي مديد.

مع ذلك يخطئ كثيرون، يدعون الديمقراطية إذ يتهجمون على عشاق البوط أو يتوعدونهم بالانتقام لاحقاً، فليس من شأن الديمقراطية الدخول في أغوار النفوس وإجبار أصحابها على أن يكونوا أحراراً. وإذا تحول تقديس البوط إلى نوع من العبادة لأصحابها فليكن لهم ما أرادوا في بلد علماني يبقى على مسافة واحدة من جميع المذاهب. نعم، في بلد علماني وديمقراطي لا ينبغي حتى منع مَن يشاء من أن يأخذ كفايته من تقبيل البوط.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى