صفحات الثقافة

حديقة الأمس/ بول شاوول

 

 

 

I

 

الهواء هذا الصباح

مليءٌ

غبارُه غابر

مأهول بأصوات غابرة

غُبارُها غابر

هذه الوجوه التي تمر

على مرأى الهواء

ثم تتقطع ببطء

بلا نهاية وبلا حنين

ولا تذكّر ولا موت

ولا حياة

الهواء هذا الصباح

يهب على المدينة

تصير بين يديه

صورة تذكارية

معلقة بالغبار

صورة تذكارية

معلقة

بغبار غابر

 

II

 

لم ينس أقدمَ وردةٍ

عرفها في حياته تلك التي قطفها برعونة ولكن بكثير

من الحذر، علّقها في عروة قميصه. قميصه الأزرق في تلك

الصبوات الأولى. الوردة.

في العروة. شميمها عبقٌ في صدرِه.

لََفَحَ عنقَه ووجهه

تغلغل في شعره المجعّد الكث

لم ينسَ… بقيتْ الوردة. وكان عليه

أن يبقيها وكان عليه أن يقطفها من جديد من عروته

ويرميها إلى تلك الشرفة. الشرفة التي كان وجه فتاة ينتظره فيها.

وهي تلبس أيضاً قميصاً ذا عروة. وهي أيضاً تلقت الوردة

بكلتا يديها، رفعتها بكلتا يديها إلى عينيها

فصدرها الناهد فعنقها فشفتيها

ثم برفق على وجهها ثم بتؤدة

وبحركة بطيئة لم تخل من تعثر، علقتها

في عروة قميصها.

 

III

 

أنواع من الأشجار والورود

وكثير من العشب، وحتى الأنهار،

وربما الطيور عيونها مطرقة نحو الأرض. أعناقها مسبلة بذهولٍ

إلى ما تــراه تحــتها. ربــما لأنهــا تشــعر أحـياناً

إما بثقل أجسامِها عليها، أو بثقل نظراتها

أو حتى بثقل همومها أو بثقل الآخرين حولها

ولأنها من ألوان أيضاً،

شعر بثقل ألوانها عليها، ألوانها الكثيرة أو

الواحدة. فاللون الواحد كالألوان الكثيرة

قد يكون عبئاً عليها فتحني ظهورها.

وكأنها تنتظر من يزيحه عنها.

 

IV

 

هذه الأثقال التي تحني ظهورَها ألوانُ الورود، والأشجار،

والجبال…

ومن قوة ما في أحداسها تُحصي انتظاراتٍ مبهمةً لا

تعرفها. (ربما لا تنتظرها إلا في الأمور القاطعة التي قد تأتي

ولا تأتي) كأنما أحياناً من علامات الآخرة على أديمها، أو على

غبار أوراقها، أو على متون سيقانها أو من إشارات قريبة

مهووسة بالموتى. أو بالفناء. أو حتى بِمُتَعٍ زائلة أو صبابات هشة.

أو ربما نذير خفي دائم في الحشاشة. ولذلك (ربما) تسقط ورود

قبل أوانها أو بعده، تحت أول زخة مطر، أو لمسة أو

عبور ظل أو تحت وطأة ألوانها بعيدة. وربما العصافير عندما تحط على فرع، أو ثمرة أو سِلك يُهيجها

ثِقلُ الهواء، أو قسوة منقارِها، ولمَ لا عبءُ أجنحتها، فتنوء لحظة، ثم

تنتفض، (كشكل من أشكال التحدي)، وتحط، لتلتصق بالأرض،

وهناك يكون أن تتذكر ما في الفضاء من نذور وتخريف، وما

تحتها من حقائق عن أمور الهجرات، وتساقط الريش والميتات

المجهولة. ولهذا عندما تفرفر العصافير، وتشوش أجنحتها، تطرق

فجأة، تحني ظهورها فجأة وعينيها أيضاً، تسبق مناقيرها

إلى الأرض وفي لحظة غير مباركة، تحسّ أن الهواء

ثقلٌ عليها، وألوانها تمادتْ عليها، وتغريدها حِملٌ عليها، وحتى المطر

حجرٌ عليها. لهذا ربما، تطفر إلى أقرب غصن، (لا خوفاً ولا

ضجراً)، وتحني رؤوسها لتسبق نظراتها إلى ما تحتها، لتقيس

بين الأرض والسماء.

ربما لتزيح كل هذه الأحمال عنها.

وتبقى حيث هي.

 

V

 

… لكن هناك أيضاً أنواعاً من الشجر والورد والعصافير والجبال…

تبقي منتصبة كلها. كرماح أو كأعمدة أو كأفكار سابقة. وكأن

عيونها لا تطرق إلى تحت. ولا تعرف حتى النظرات الأفقية. أو المتعرجة. دائماً تفتح حواسها إلى فوق: السماء العالية. الغيوم.

النجوم. الفراغ. مرتاحة من كل ثقل حتى ثقلها. ألوانها من

خفة النسمة. ثمارها معلقة بثبات. ورودها تتفتح إلى الأعلى.

تشرّع أجسادَها لأجساد تهبط عليها أو تظللها. أوراقها مستقيمة

أو متّسعة تتمسك بكل الجذوع والانصاب. الصنوبرة

تفتح جذعها على العدم التحتي بهيبة تُحسب لها. السروة أيّاً كانت

إغراءات ما يدور حولها، تنفر إلى حشاشة عزلتها. ألوانها من

صُلب جذوع. ثمارها الصغيرة القاسية وفية لصرامتها. ومن

خلال وقوفها تَحسب أن هذه الشجرة لا تؤمن بالسقوط. ولا بشدة

الخارج. وقوفها يخترق، لأنه وقوف مستمِدٌّ قدميه من حجارة

الداخل. أو من العواطف الجامدة في تمايلها.

البنفسجة، على نزقها تحمل صُفرتَها وتدرجاته، كطبق، حتى

عندما تهزها الريح تزداد رغبة في تحمل ألوانها أو

أوراقها…

ولهذا تبدو هذه الأنواع من الشجر والورود والجبال كأنها، وفي كل

حالاتها تحافظ على غموض ما، غموض ميتافيزيقي أرستقراطي،

مُبلبَل بالقلق.

القلق وحده يجعل هذه الأنواع من الشجر والورد

تُطرق إلى تحت، لتقيس المسافة بين وقوفها وذلك

الحضيض المُنتَظر.

 

VI

 

هذا النوع من الكائنات الكثيرة، حَلَّ كل المسائلِ الحسابية

واليومية، والهموم الأرضية. وعندما يضيقُ بجذوره

يرفع أحضانه في اتجاه السماء المستحيلة، والنجوم

المستحيلة، والغيوم اللامبالية، وفي اتجاه الشمس، والقمر والغرائز

البعيدة، فلعل في ذلك ما يُسليه، أو يهز سواكنَه، أو يرميه ببعض

حنين، إلى عالم، يرمقه، فوق، إلى عالم مجهول، يفتح له عينيه،

وحواسه ليحدق به بكل عزلاته الصامتة.

(كأنه يبحث عن جذوره في السماء البعيدة).

 

VII

 

أصابت الغيمة، اليوم، في آخر الصيف كلَّ الحديقة، الغيمة الداكنة

الواطئة. زرعت الغدرَ في زوايا الحديقة.

ارتعشت آخر فُلّة متبقية في الشجرة، تماسكت قليلاً، ثم انفصلت.

تأرجحت، وارتطمت بالحضيض. (شيء يشبه الانتحار).

الزنزلختة ضربتها الدهشة وهي تحس بنذير الغيمة الداكنة الواطئة؛

لكنها وفي برهة عالية، استقامت، وتمالكت جذعها

وفروعها؛ لكن، وكسُبحة طويلة بدأت ترمي أوراقها، بصفرتها

الهشة، ورقة ورقة، وترشق الأرض بحباتها. كل ذلك بغضب

وجلبة يشبهان أنيناً بعيداً، مما أقلق بعمق عزلة السروة.

الغيمة الداكنة الواطئة الثقيلة كأنها أعلنت قدومها بكثير من

القسوة.

تلك القسوة التي تدفع الحديقة إلى الخروج من وقتها، إلى وقت

آخر، ربما لا تعرفه، حتى في إشارات الشتاء المقبل.

الخروج نهايات أخرى غامضة أيضاً.

الغيمة مخيفة اليوم فوق الحديقة.

 

 

* مقاطع من مطلع قصيدة طويلة تصدر قريباً في ديوان بعنوان «حديقة الأمس» عن دار النهضة – بيروت.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى