صفحات الثقافةعزيز تبسي

حذارِ التدخين يؤذي صدرك

عزيز تبسي *

نستعين على الواقعة ببطل أفلام رعاة البقر «جوليانو جيما»، حين كان يمطر أعداءه، وهم في حينها أعداؤنا ـ نحن الرابضين فوق كراسٍ ممزقة، خارجة نوابضها كأحشاء حيوان ذبيح، في الصالة المعتمة ـ برشقات رصاص غير منتهية ذخيرتها.

نصفق براحاتنا كدمى القرود المعدنية، قبلما وبعدما نراه يزفر بصفرة ممنهجة فوق فوّهة المسدس المرفوعة نحو الأعلى ليبدد دخانها، مدوراً المسدس بإبهامه المستقيم قبل أن يزدريه في حافظة الجلد المتدلية على ساقه اليمنى، بعدها يعتلي حصانه متوثباً نحو مجد مخبوء في حجرات الخمارات البرية، مفصحاً من تحت قبعته الدائرية إبتسامة عليها شبهات البراءة واليقين. ونحن سنفعل بعد حين بعض فعله، بإقتناء مسدسات بلاستيكية، نملأها بالماء ونرش بعضنا لا لنموت، بل لنخرج الضحك من آبارنا الارتوازية، ونقتدي بعذوبة ترجيفات الناي الحزين، مطلقين من ثقوبه صفيراً لانهائياً، نقلد بها القطارات، وعصافير الدوري المختبلة بحبيبات قمبزها، ونخبأ لراعي البقر الوسيم إلى ما بعد مراهقتنا أسئلة في دفاترنا :عن أولوية القتل الأسهل في إلغاء العدو الافتراضي؟ والدور الرمزي للسيجارة الموضوعة على طرف الشفة كطريقة في احتقار الخصوم؟ وما يجوز لرعاة البقر وما لا يجوز لغيرهم؟ وعن أهمية وضرورات القبلات العاطفية المائجة في الحروب الأهلية وفوائدها؟ وجوازيتها أثناءها أم ضرورة إبقائها إلى ما بعدها!!

ونستعين على الواقعة كذلك بخبرات وأدوات ومناهج الطبيب، بأن نمتحنهم بالحديث المسهب، أو الإعارة المهذبة لكتب التشريح، لنطبق معارفها على السلطات والثورات، متحررين من ثقل الأحجيات الأيديولوجية وضلالاتها ورقائعها حين تفسر الحدث بماضيه، وماضيه بماضيه الأبعد، لتصل إلى آدم المرتبك بعواطفه وتوقه إلى المعرفة، لتدركه أخيراً وهو يتهيأ مع عروسه وحوائجه للنزول إلى الأرض، أو في طريقهما الهابط إليها بهرولة المطرودين.

والوجيز في علم السموم لنتعرف الى أفاعيل عقاقيرها وهي تخمد الجسد الشعبي الثوري الموار بعافيته وتوثبه، أو لنتعرف في جدليات الحوار الرائقة، الى حدود التداوي الإصلاحي وممكناتها قبل التمدد على السرير المتحرك والانتقال إلى غرفة الجراحة أو المشرحة، وهي فرصة مؤاتية للتفكير بالأدوار الحقيقية لا الافتراضية للحميات الغذائية الاحترازية التي تجنب الوقوع المؤكد في هاوية مرض لا شفاء منه إلا بالاحتيال الخبيث عليه أو بالانتظار الوجل ليقين الموت.

وما من وقت في غمرة هذا المهلكة لنسأل أبانا الغائب: لماذا تركتنا وحيدين، ربما، لأن أمنا فعلت مثله، وإخوتنا كذلك!!

***

يعبر فوق الرصيف الطويل المحاذي لثانوية «جورج سالم» الصناعية في منتصف شارع الملك فيصل الأول، من شوارع مدينة حلب، أمام الحافلات المصطفة، التي تتنازع الانطلاق إلى الريف الشمالي، يتنحى جانباً ليرى بوضوح ما كتب على زجاجها. نعم، حقيقية أسماء القرى، لا منام يأخذه من غفوة إلى أختها : حريتان – معارة الأرتيق – تل رفعت – عندان- بيانون – حيان….والناس مشغولون بترتيب أكياسهم وحوائجهم وزفراتهم، والقادمون من آخر الرصيف منحنية ظهورهم تحت ثقل الأكياس الكبيرة لأحلامهم. قبلها عبر على الحاجز العسكري الذي يتشارك فيه شبان موشومة أذرعتهم وشابات محجبات، واستدار من خلف أكياس الرمل، الموزعة بطريقة أحجية لردع السيارات المسرعة عن أي مفاجأة عسكرية معادية، ولم يطالبوه بإبراز بطاقته الشخصية أو فتح حقيبته المتدلية على كتفه.

يتساءل بصوت عال، الشاب القابض على راحة إبنه: كيف نستدل على السيارة المفخخة؟ ويجيب نفسه بعد أن يتيقن أنه لا أحد من المنهمكين بترتيب أكياسهم والنظر المتواصل إلى ساعاتهم سيرد عليه، كنا نستدل على المرأة الحامل من التكور في بطنها، كما على الرجل المزدلف بخنائق الأوردة الضيقة من جحوظ عينيه، وأنينه اللاهث تحت أثقال أكياس الخضار والبرغل…ترى كيف يكون بطن السيارة المفخخة يا خيو؟

ويسأل العابر بلباسه الرياضي الأبيض المقلم بالكحلي: إلى أين يذهبون في هذا الطريق؟ وهل سيعودون في اليوم التالي، ليذهبوا مرة أخرى؟ نعم يعودون، أو يعود من يستطيع منهم. هؤلاء موظفون حكوميون ومعلمون يعتليهم سيف الفصل التعسفي حين ينقطعون عن دوام دوائرهم ومؤسساتهم لأسبوع، ومرضى يبحثون عن أدويتهم في صيدليات المدينة، وجرحى يعرضون جراحهم في المشافي وعيادات الأطباء، وشغيلة مياومون، وأجراء في ورشات صغيرة ومتوسطة، ما تزال تتحايل على ظروفها الكارثية لتستمر، وباعة متجولين يؤمنون بضائعهم في مستودع أو دكان فارغ، ليستردوها في الصباح ويتابعوا عملهم….

يجهش الرجل الآخر الجالس على كرسيه الواطئ، ويمسح دموعه بمنديل ورقي منكمش بمائه المالح، يتلّفتون حوله ولا يروا ما يدل على جنازة ولا عن رتل من المعزين يأتي من آخر الرصيف ليسوّره بحنان، ويمنحه المواساة البليغة، لنخمن إذاً: يبكي جالساً على رسم درس، وعلى أهل تبددوا قبل العرس!!

كم تطول الرحلة، إلى جهنم، وكان يعني الريف الشمالي الغربي لحلب؟ يرد المعاون: بداية يجب الاتكال على الله، أما بعد، فقد تستغرق الرحلة بين أربع وست ساعات. كانت فيما مضى نصف ساعة أو أكثر قليلاً. ويتابع: لا نريد «كتر حكي»، لن تنطلق الحافلة قبل اكتمال ركابها وامتلاء مقاعدها، المازوت غال ولا يتوفر بسهولة، والمصاريف العائلية تتصاعد، والطريق طالت مسافته وتشعبت في البرية الموحشة، ودروبنا اختبارات دائمة، وتيقن مؤكد لحدود الإنتشار العسكري الرسمي والتبدلات في مواقع الكتائب المقاتلة.

تغيب الصور عن زجاج الحافلة والعبارات الشعرية والتمنيات، وتغيب الأغاني عن مسجلها، وحشد التمائم المنسدل فوق زجاجها الأمامي ومرآتها، فكل رسم أو كتابة ينبغي أن يحسب لها حساب واحتراز من مصيدة قد تبطل العمل برمته وتصادر الحافة، ويغيب الكلام المرسل بين السائقين ومعاونيهم، حيث يتوجب الانتباه لأي صوت أو نداء أو إشارة تطالب بالتوقف،أو تبديل الطريق.

عبروا أمام عمارات تشيدها الجمعيات السكنية، ويسمع من يقول: «بقيت على العظم» في إشارة إلى تأخر إكسائها.»أيه، البلد كلوا صار على العظم» يأتي صوت من مكان آخر من داخل الحافلة أو من خارجها…

يستنشق دخان سيجارته ونراجيل الجالسين على زاوية الرصيف، ودخان السيارات المسرعة ورائحة الشواء وحرائق المزابل… يقول العابر، بعبارة حملت إشارة تحذيرية عمومية من الموت بالاختناق: حذارِ الدخان سيكتم صدرك!!

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى