صفحات العالم

حرب «بشار» الأولى.. هل تكون الأخيرة؟!

 


عادل الطريفي

عادة ما يتم تعريف «الحرب» بوصفها نزاعا مسلحا بين دولتين، أو طرفين يكون أحدهما ممثلا للسلطة – الحكومة المركزية – أو على الأقل يكون طامحا لها. هناك تعريفات علمية كثيرة وكتب كلاسيكية في هذا المجال موجودة في كتب تراثية مثل «تاريخ الحرب البلويونيزية» للمؤرخ الإغريقي ثوكوديدس (395 ق.م)، أو «فن الحرب» للفيلسوف الصيني صن تسو، أو كتاب كلاوفيتس الشهير بعنوان «في الحرب»، وغيرها الكثير. الغرض هنا ليس تعريف الحرب أو الحديث عن كتبها التي ما زالت تؤلف إلى اليوم، وإنما لأن مفردة «الحرب» باتت – الآن – خير وصف للتعبير عما يجري في سوريا اليوم.

قاعدة بيانات النزاع الدولي (UCDP) التي نشأت بجامعة أبسلي بداية السبعينات لديها معايير محددة لوصف الحروب والنزاعات وأدوات لقياسها، وهي معتمدة لدى كثير من المنظمات والهيئات الدولية. أحد معايير الحرب يتعلق بعدد الضحايا: وهو أن لا يقل عن ألف ضحية قتلت بشكل مباشر في النزاع المسلح.

اليوم تكمل الانتفاضة الشعبية في سوريا شهرها الخامس بعدد يفوق الألف قتيل بحسب بعض المصادر. هذا يجعل ما يدور في سوريا أكثر من مجرد احتجاجات، بل عملية عسكرية طالت على الأقل 120 عنصرا أمنيا أو من الجيش – استنادا إلى الروايات الرسمية. بوسع السلطات السورية أن تشكك في مصداقية هذه الأرقام، وأن ترفض إطلاق صفة «الحرب» على ما يدور بينها وبين المتظاهرين، ولكن الحقيقة الواضحة هي أن السلطات السورية احتاجت إلى نشر الجيش بمدرعاته وتقسيم المناطق وفرض حظر التجوال. هذه، ولا شك، حرب الرئيس بشار الأولى، أو قل نزاعه المسلح الأول، بحيث اضطر إلى تحريك الجيش إلى مناطق العصيان المدني، وهي للمفارقة المرة الثانية التي يطلب فيها من الآليات العسكرية – في عهده – التحرك بعد الانسحاب المذل من لبنان في أبريل (نيسان) 2005.

حاليا، يقاتل النظام من أجل البقاء، ورغم مرور هذه الشهور الخمسة فإن السلطات تبدو عاجزة عن إخماد العصيان، وهي في الوقت ذاته تواجه ضغوطا وعقوبات دولية هائلة لتغيير النظام. هناك شبه إجماع على أن نظام الرئيس الأسد لن يكون قويا كما في السابق، فيما يذهب البعض الآخر إلى القول بأن أيام النظام باتت معدودة.

المسرحي المصري الكبير، علي سالم كتب مقالا بعنوان «هذا عصر زوال الديكتاتوريات»، قال فيه إن الأنظمة العربية – أيا كانت – لم يعد بوسعها أن تدير أمورها بديكتاتورية عسكرية – وعن طريق الأكاذيب – وأشار فيه إلى مقالة سابقة لي أطرح فيها تساؤلا مفاده: «ماذا لو نجح نظام الأسد في البقاء؟». يرى الأستاذ سالم أن ما حدث في العالم العربي ليس إلا امتدادا لسقوط الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية منذ الحرب العالمية الثانية وصولا إلى سقوط جدار برلين، وأن الموجة تأخرت كثيرا حتى وصلت إلى المنطقة وفضحت أكاذيب (شعارات) الأنظمة.

علي سالم محق فيما كتب، فكثير من الأنظمة العربية – لا سيما البعث والاشتراكي العربي – بنت مشروعيتها على جبال هائلة من الأكاذيب، ولا شك أن هذه الأكاذيب باتت مكشوفة. مشكلتنا في الحقيقة ليست في وجود الأكاذيب، أو في انفضاح أمر هذه الأكاذيب فقط، بل في لجوء الأنظمة إلى الكذب – في المقام الأول – كي تحقق مشروعية ما، لأن هذا الجمهور يؤمن بقيم أو رؤى يعجز هذا النظام أو ذاك – اختيارا أو اضطرارا – عن تنفيذها. الأستاذ سالم محق في أن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على الاستمرار في الكذب في هذا العصر، ولكن لعلي أضيف بأن الأزمة ليست فقط في وجود أنظمة ديكتاتورية، بل لأن وجود الديكتاتورية في الماضي كان مبررا لأجل تلك الأكاذيب.

خذ موضوع السلام على سبيل المثال، بعض الأنظمة رفضته من حيث المبدأ، والبعض نادى به ووقع على وثيقة السلام، فيما البعض الآخر دخل لعبة المفاوضات وتراجع دائما بحجة أن الطرف الآخر غير راغب في السلام. الحقيقة هي أن الشعوب العربية – وبحسب استفتاءات دولية كثيرة – لم تحظ لديها عملية السلام بشعبية، بل كانت هناك ولا تزال حالة من الشك المريب، بل وسلبية تجاه عملية السلام والنتائج المحتملة لها. هنا، كانت الأنظمة تكذب إما بادعاء المقاومة أو تعطيل عجلة السلام، لأنها غير جادة بالطبع، ولكن – أيضا – لأن المجتمع لا يريد سماع الحقيقة: وهي أن السلام مع إسرائيل ضرورة دولية مدعومة من الدول الكبرى، وأن الرأي العربي تجاه إسرائيل – وإن كان مبررا في الداخل العربي – فهو يتم النظر إليه بوصفه مواقف متطرفة تجاه الآخر.

هناك – أيضا – موضوع دور الحركات الدينية في السياسية. بعض الأنظمة الجمهورية ترفع الشعار الديني، والبعض الآخر يقبل أو يرفض دور الحركات الإسلامية، ولكن الجميع يضطر إلى الكذب فيما يتعلق بهذه الحركات الدينية «الخلاصية»، فلا أحد يريد أن يقول مباشرة للجمهور العريض إنه لا ينبغي الخلط بين الدين والسياسة في دولة مدنية، ولهذا فإن الأنظمة – حتى البعث السوري – تكذب فيما يتعلق بهذا الموضوع.

إذن، المشكلة ليست فقط في وجود نظام ديكتاتوري، أو لجوئه للكذب حتى يصنع مشروعية مزيفة، بل لاضطرار الجميع أن يؤمنوا بقيم ومبادئ عفى عليها الزمن – كالفكرة القومية أو الدينية المتشددة، أو فكرة المقاومة، وغيرها – وعدم قدرتهم على تجاوز هذه الأفكار والرؤى إلى ما هو أفضل، ولذا كانت النتيجة أن حكمتهم أنظمة ديكتاتورية قالت لهم ما يريدون سماعه، وصنعت شيئا آخر.

هناك كتاب جميل للراحل أحمد بهاء الدين بعنوان «شرعية السلطة في العالم العربي» (1984)، يشير فيه إلى أن أزمة الأنظمة العربية ثلاثة: الديمقراطية، والعقلانية، والشرعية. قد تكون مشكلة غياب الديمقراطية واضحة، ولكن مشكلتنا – أيضا – كانت في انعدام العقلانية، وبالتالي المشروعية. وهنا يكون انعدام العقلانية ليس في النظام فقط، بل في المجتمع الذي لا يقيم وزنا للتفكير العقلاني وتبنى فيه كل القضايا على العاطفة القومية، أو الدينية، أو حتى الشخصية، ولهذا ليس بمستغرب أن لا يبني النظام قراراته على مبدأ عقلاني، وحتى إن اتخذ قرارات برغماتية فإنه يعلم مسبقا أنها غير مقبولة لأنها مبنية فقط على الاعتبار العقلاني للمصالح. إن من المستغرب بعد كل ذلك أن يطالب أحد – حقيقة – بنظام شرعي لا وجود فيه للعقلانية، أو بالديمقراطية لأنها ليست فقط صندوق اقتراع مصمتا، بل ثقافة مدنية / علمانية في المقام الأول.

قد ينجح النظام السوري في البقاء رغم كل الظروف التي تحيط به، وقد يتمكن حلفاؤه الإيرانيون أن يقدموا له المعونة، وأن يطلعوه على الكيفية التي بإمكانه أن يتحايل بها على العقوبات الدولية عن طريق السوق السوداء. أيضا، قد يخرج الأسد ضعيفا فاقدا للشرعية في نظر أغلبية مواطنيه، ولكن ما دام هناك من يستطيع الدفاع عن حكمه فسيظل حاكما حتى ولو على قطعة أرض صغيرة. هو مقتنع بصواب موقفه، وفي كون الآخرين يعملون ضده حتى مواطنيه، ومشكلة الأسد الحقيقية هي القيم والمبادئ التي يؤمن بها هو ومحازبوه.

علينا أن نتذكر أن بقاء عدد من الأنظمة التي تفتقر إلى الشرعية في نظر مواطنيها ليس عائدا فقط بسبب قوتها المادية، أو قدرتها على الخداع بالأكاذيب، بل لأن الكثيرين لا يتصورون الكيفية التي يمكنهم من خلالها بناء شرعية تكون مقبولة لدى الجميع ومؤمنة لمصالح الكل. الأقليات، وجزء من الطبقة الوسطى، التي وقفت إلى جانب الأسد لم تقف بالضرورة إيمانا به بل تخوفا من المستقبل، وإنهم ربما قبلوا ببقاء ديكتاتور ولكن ما الذي يمنع أن يوجد ديكتاتور آخر، أو نظام شعبوي آخر، يحكمهم كيفما شاء، من الواضح أن البعض يفضل الديكتاتور الذي يعرفه على الديكتاتوريات – أو الشموليات الطائفية أو الدينية – التي قد تأتي مستقبلا.

يقول أحمد بهاء الدين: «قد يحيط المغتصب السلطة نفسه بكل أشكال الشرعية… ولكنها تبقى كلها ستائر تخفي عدم الشرعية، فالقانون ليس أي ورقة عليها توقيع الحاكم. القوانين أحكام خارجة من ضمير الناس معبرة عنهم في الأساس».

 

الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى