صفحات سوريةعلي العبدالله

حرب إسلامية باردة/ علي العبدالله

 

 

 

تدور حرب باردة بين السعودية وتركيا على قيادة الإسلام السنّي حيث ترى كل منهما نفسها جديرة بلعب هذا الدور لاعتبارات تتعلق بالتاريخ والجغرافيا من جهة ولما تمثله في العلاقات الاقليمية والدولية من جهة ثانية. فالسعودية ترى قيادتها للإسلام السنّي تحصيل حاصل في ضوء التاريخ، مهد الدعوة الإسلامية، ومكانتها لدى المسلمين لاحتضانها لقبلتهم وللأرض التي يقصدونها لأداء فريضة الحج ويزورون قبر نبيهم في المدينة المنورة، والتي تشكل مع مكة المكرمة الحرمين الشريفين، وقد اعتمدت لتعزيز ذلك تسمية الملك بخادم الحرمين الشريفين، كان السلاطين العثمانيون اول من ابتدع التسمية للالتفاف على كونهم غير قرشيين بعد ان كرّس الفقهاء شرط قرشية الامام، وترى في سياستها ورؤى مؤسساتها الدينية معيارا وحُكما إسلاميا قاطعا لا يدانى ولا يُرد. وهذا جعلها حساسة لقيام أي كيان سياسي او نظام على خلفية إسلامية سنّية وترى فيه منافسا محتملا لقيادتها يجب احتواؤه أو التشكيك بتمثيله لتوجه إسلامي صحيح. واعتمدت سياسة محاربة كل فكر إسلامي لا يتطابق مع إسلامها، حتى لا تثور مقارنة بين النماذج الإسلامية وتطرح اسئلة حول الإسلام الصحيح بين هذه النماذج والتشكيك بمدى إسلامية النموذج السعودي وتوجهاته وبقيادتها للمسلمين في ضوء غياب قسمات إسلامية مؤكدة مثل ولاية الأمة على نفسها واختيارها للإمام وعزله وتفعيل الشورى.

تركيا من جهتها تعتبر نفسها الأجدر في قيادة الإسلام السنّي لاعتبارات تتعلق بالتاريخ الإسلامي القريب، السلطنة العثمانية التي استمرت في حكم وقيادة العالم الإسلامي لستة قرون متواصلة، ولنجاح حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الحكم واعادته الاعتبار للبعد الإسلامي في الدولة والمجتمع، واعطائه صورة ايجابية عن الإسلام، وتحقيقه تقدما اقتصاديا مشهودا لفت انظار مسلمين كثر يعانون من عجز انظمتهم السياسية عن تأمين لقمة عيش كريمة لهم، ما جعلهم يتطلعون الى استنساخ تجربته ويحلمون بتكرارها في بلادهم.

بدأت المنافسة مع نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الحكم وتحقيقه نموا اقتصاديا حوّل الاقتصاد التركي من العجز والتضخم والمديونية الى اقتصاد نشط ونامي مع زيادة في الناتج الوطني وتراجع في المديونية وتحسّن في سعر صرف الليرة التركية، وتعديل سلم اولويات الدولة التركية من الانضمام الى الاتحاد الاوروبي الى التوجه شرقا وجنوبا نحو دول العالم الإسلامي. وهذا وضع النظام التركي وجها لوجه مع السعودية وخياراتها السياسية وتصورها لدورها في العالم الإسلامي وموقعها فيه بعد ان كان خيار تركيا الاوروبي يبعدها عن ساحة العالم الإسلامي وقضاياه وتصوراته وادوار دوله وطموحاتها ومنافسة النموذج السعودي في الحكم وفي ادارة الاقتصاد. وقد تجلت الحرب الباردة بينهما في التنافس على الساحات الإسلامية ودعم كل منهما لدول وقوى إسلامية تتسق مواقفها وافكارها مع توجهاته، فالسعودية تبنت الجماعات السلفية واستخدمتها في نشر المذهب الوهابي، وحاربت الإخوان المسلمين الى درجة ارتياحها لهزيمة حزب الاصلاح اليمني الإخواني في مواجهة الحوثيين أعدائها السياسيين والمذهبيين، وقاومت التغلغل التركي في دول العالم الإسلامي بعامة والعربية بخاصة، ونسقت مواقفها مع انظمة تعادي التوجهات الإسلامية بعامة والنظام التركي بخاصة، هذا بالإضافة الى حملة تشويه لصورة النظام التركي وتوظيف وسائل الإعلام السعودية او الممولة سعوديا الكثيرة والواسعة الانتشار لذلك عبر متابعة أخطاء المسؤولين الأتراك وتصريحاتهم، وكتابة مقالات تحليلية من قبل كتّاب هذه الصحف للتشكيك بمواقف النظام التركي ونواياه دون ان تنسى الغمز من أهداف تدخله في الملفات العربية، الفلسطيني بخاصة، وخطورته على الهوية العربية، وتجزم بفشل تجربته بإبراز نقاط ضعفها وتضخيم التحديات التي تواجهها.

تركيا، التي امتلكت جاذبية واشعاعا سياسيا حوّلها الى قدوة ومثال تجسّد في تشكيل أحزاب إسلامية تحمل ذات الاسم: العدالة والتنمية في عدد من الدولة الإسلامية، تبنت حركة الإخوان المسلمين ورعتهم وقدمت لهم الدعم والمأوى وتحركت في دول الربيع العربي لدعمهم وتقديم النصيحة والخبرة لهم وعملت بقوة لإنجاح تجربة حكمهم في مصر وتونس، ودعمت إخوان سوريا وسعت لتعزيز قدراتهم ومكانتهم في صفوف الثورة السورية ومؤسساتها( المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) وقدمت لهم دعما عسكريا كي يحتلوا موقعا في صدارة القوى التي تحارب النظام لضمان حجز موقع متقدم في النظام السوري القادم، وخاضت صراعا سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا مع الانقلاب المصري على حكم الإخوان ورعاته السعوديين والاماراتيين، وتصدت لتحرك المحور السعودي الاماراتي المصري الذي فتح معركة استئصال جماعة الإخوان المسلمين في الساحة العربية وقاد حرب الردة على ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا، ولم تتوان عن الانخراط في سجال إعلامي والدخول في معارك تشهير ونقد وتسفيه ضد هذا المحور وخاصة ضد الانقلاب المصري.

وكان لهذه الحرب دور سلبي ومدمر في الثورة السورية حيث تعارضت الخيارات وتناقضت التصورات وتفاضلت الخطط والبرامج، وسعى كل طرف لتعزيز دور حلفائه ومنحهم مكانة مميزة في قيادة الثورة بجناحيها السياسي والعسكري فكان الانقسام والتمزق في الصفوف الذي انعكس سلبا على وحدة الثورة وتماسكها ونتاجها وعلى صورتها بين جمهورها وحاضنتها الاجتماعية حيث نُظر الى قادتها كبيادق في يد الخارج وخدمة مخططاته.

والمشكلة ان كلا التجربتين تفتقران الى السمات اللازمة والجدارة الكافية للعب دور مباشر في قيادة المسلمين لاعتبارات تتعلق بطبيعة البنية السياسية للنظامين ولانعكاساتها على الواقع الوطني والإسلامي. فالدولة السعودية بمرتكزاتها الثلاثة: الديني والسياسي والثقافي لا تشكل حالة ناجحة او جاذبة فالمرتكز الديني المتمثل بالمذهب الوهابي لا يمتلك أسسا فقهية أو منهجية قادرة على التعاطي مع المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم الإسلامي، ومرتكزها السياسي: النظام الملكي المطلق لا يملك أية جاذبية وليس بالنظام القابل للحياة في العصر الحديث وما شهده من تطور على صعيد الحقوق والواجبات الوطنية والإنسانية. وأما مرتكزها الثالث: الثقافة البدوية فهو الثقب الاسود في هيكل الدولة، وتمسك النظام السعودي بها وتكريسها في الممارسة اليومية كونها من طينة تتسق مع نظام سلطاني فردي مغلق. وهذا بالإضافة الى التمييز بين المسلمين على خلفية مذهبية، حيث يعيش الشيعة والاسماعيليون كمواطنين من درجة دنيا، واُضطهاد المرأة وانتهاك ابسط حقوقها، وتسليط الشرطة الدينية(المطوعون) على المواطنين، والتمييز بين المناطق في تجهيزات البنية التحتية والخدمات والتنمية المادية والبشرية، واستئثار الاسرة المالكة بمعظم موارد البلاد، جعل الدولة السعودية كيانا هشا، فهي تعتمد في معظم دخلها الوطني على هبة الطبيعة: النفط وفي امنها الوطني على حماية خارجية، امريكية تحديدا، وقواتها المسلحة رغم مليارات الدولارات لم تنجح في صد هجوم الحوثيين على ارضها في منطقة جيزان عام 2009. واعتمادها دبلوماسية الشيكات لكسب ود قوى سياسية وتحاشي قيام قوى ارهابية بأعمال ضد مصالحها. ما يعني عدم نجاحها في إدارة مملكتها فكيف بإدارة دول ومجتمعات العالم الإسلامي وما تحتويه من مشكلات ومصاعب اقتصادية واجتماعية وصراعات عرقية واثنية ومذهبية.

النظام التركي ومع انه يمتلك ميزات كثيرة يتقدم فيها على النظام السعودي كثيرا، فإنه يعاني من نقاط ضعف بنيوية من نوع آخر. فأسس الدولة التركية(الجمهورية والقومية والعلمانية والديمقراطية) تثير تساؤلات حول استقرار النظام الإسلامي ونجاحه على المدى البعيد، وترويجه لدوره الراهن باعتباره عثمانية جديدة لا يغطي نقاط ضعفه، فالتعايش الذي أقامه بين هويته الإسلامية والأساس العلماني للدولة التركية لم يتحول الى عامل فعال في تجسير الهوة بين المواطنين المنقسمين بين علمانيين وإسلاميين، بين سنة وعلويين، بين أتراك وجماعات قومية أخرى، بين أقلية “متعصرنة” وأكثرية متمسكة بتقاليدها، ما جعل التماسك الاجتماعي ضعيفا والاندماج الوطني هشا. فالعلاقة بين أبناء الغالبية المسلمة(سنّة – علويون) ليست جيدة، وقد شهدت توترات ومواجهات عنيفة انعكست سلباً على الاستقرار الداخلي، وقضية حقوق الكرد، والاقليات القومية الاخرى، مازالت تطرح تحديات كثيرة وخطيرة، والتطور الاقتصادي- الاجتماعي قسّم البلاد إلى نصفين غير متكافئين. نصف غربي متقدم، حيث تنتشر الصناعات ومراكز التجارة والإعلام الرئيسية، ونسبة تكاثر سكاني ضعيفة، ومستويات معيشة تقارب المقاييس الأوروبية، مقابل نصف شرقي يضم المناطق الواقعة شرق العاصمة أنقرة، حيث الزراعة تقوم على علاقات متخلفة ونظام إقطاعي عشائري طاغ، وتدني في المستوى المعيشي والتعليمي مع نسبة تكاثر سكاني عالية. وقد زادت الهوة النفسية بين الطرفين اتساعاً نتيجة هجرة أعداد كبيرة من المناطق الشرقية إلى المناطق الغربية وإقامتها في أحياء فقيرة حول المدن واكتشافها عمق الفجوة الفاصلة بين الطرفين معيشياً وسلوكياً. هذا بالإضافة الى تناقض خيارات النظام بين الانتماء التاريخي والخيار السياسي، فسعيه، لاعتبار تاريخي وجغرافي، الى لعب دور مركزي في العالم الإسلامي، وتطلعه، لاعتبار سياسي واقتصادي، الى الاندماج في الغرب عبر السعي الى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ناهيك عن عضوية تركيا في حلف الناتو، قد أضعف موقفه أمام الشرق والغرب في آن واحد، وحّد من قدرته على تسويق نموذجه، خاصة في العالم الإسلامي، فقد نُظر الى توجهه الى العالم الإسلامي كتكتيك للضغط على دول الاتحاد الاوروبي للموافقة على دخوله في الاتحاد، وان تمسكه بعلمانية الدولة غير مقبول لدى حلفائه الإخوان المسلمين(ظهر ذلك جليا في تعليق قادة الإخوان المسلمين على خطاب رجب طيب اردوغان في القاهرة أيام حكمهم)، بينما رأت دول اوروبية في قراراته حول جريمة الزنا وتشريع الحجاب في المؤسسات الرسمية والجامعات ومنع ضحك النساء في الطرق العامة ارتدادا عن العلمنة والانفتاح.

تستدعي اللحظة السياسية بتعقيداتها ومخاطرها أولا سياسة أخرى اساسها التخلي عن أوهام القيادة، فليس هناك تجربة تصلح لكل الشعوب الإسلامية ومجتمعاتها المتباينة والمختلفة والمعقدة والضعيفة والمفككة والمتخلفة اقتصاديا واجتماعيا وعلميا، وتستدعي ثانيا الانحياز الى خيار التعاون والتنسيق بين النظامين وتحقيق نوع من التكامل بحيث يستفيد كل طرف من ما لدى الطرف الآخر من ايجابيات وقدرات وامكانيات وخبرات، بدل ان تهدر طاقاتهما في صراع عبثي على قضية فارغة، وتستدعي ثالثا العمل على تعزيز العمل المشترك بين دول العالم الإسلامي والاستفادة من امكانيات بعضها وخبراتها وتعزيز المشتركات والاستفادة من التطور العالمي في مجال النظم السياسية والحوكمة، وتقديم يد العون للدول الإسلامية المحتاجة ومساعدتها على التخلص من مشكلاتها ومتاعبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالتعاون والتكامل وتقوية المشتركات وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة والانخراط في الدورة الاقتصادية العالمية والمشاركة في التطور العلمي والتقني العالمي خدمة جليلة لدولها تنقذ مواطنيها من الفقر والحرمان والمرض وتعزز تقدم العالم اجمع.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى