صفحات الناس

حرب الأنفاق هل بدأت حقاً في سوريا؟/ أيهم اليوسف

 

أصبح الحديث عن “حرب الأنفاق” حديث الذين يتابعون شؤون الثورة السورية، وما آلت إليه من مصير مأسوي بسبب إصرار النظام الدموي على عدم التخلي عن كرسي الحكم، ولو كان ذلك على حساب أن تتحول سوريا إلى كومة أنقاض أو مجرد مقبرة مفتوحة لأبنائها ومستنقع من دماء وأشلاء.

كل من ينتمي إلى قوات النظام، أو حتى من ينتمي إلى من هم في عداد الثائرين عليه، أو المسلحين ضده، بات مسكوناً برهاب تفجير المكان الذي يقف عليه، سواء أكان في موقعه العسكري، مقره، منزله، أم في أي مكان آخر. هذا هو شعور الناس العامة الذين قد لا ينتمون بشكل مباشر إلى أحد طرفي الثورة والنظام علناً. ذلك أن الأرض صارت – وهي الملاذ الآمن- غير مأمونة، بل مصدر قلق، وذلك بعد سلسلة حوادث، بل بعد تهديدات ممن نسبت إليه عملية حفر نفق تحت فندق كارلوت في حلب، متوعداً بزلزلة الأرض تحت أقدام النظام، برؤوسه، وقواته العسكرية. صار لسان حال المرء، وهو في سوريا: هل يخرج الموت إليَّ من تحت الأرض؟ فبعدما اعتاد السوريون على أن الموت يأتي من الجو عبر البراميل، ومن فوق الأرض عبر جميع أنواع السلاح المحرم والأكثر تحريماً، بل وعبر البحر، صار باطن الأرض نفسه، مصدر تهديد جديداً، يمكن إضافته بسهولة إلى فنون “معجم الحرب السورية” التي لا تنتهي!

الهرب من الدهاليز المظلمة إلى كنف النور يحمل في طياته الكثير من القصص التي تبدأ بفكرة الفرار من المعتقل، والتخطيط لتنفيذه، وتنتهي باستخدام ملاعق الطعام والسكاكين وأدوات بسيطة للحفر في نقطة معينة من عتمة السجن نحو مخرج يتسع لزحف جسد نحيل يشق عمق الأرض عبر نفق إلى خارج حدود السجن.

في العودة إلى حقبة السبعينات من القرن الماضي، بعد ثورة تموز العراقية لإسقاط الحكم الديكتاتوري، غصت السجون والزنزانات، ومنها سجن الحلة بألوف السياسيين من المناضلين العرب والكرد والتركمان وبقية الطيف العراقي المعروف، وكان من بين السجناء عدد كبير من أنصار الجمهورية والشيوعيين، بينهم الشاعر مظفر النواب، الذين خططوا للهرب من السجن وفقاً لتفاصيل يرويها عبد الحسين الساعدي في مقاله “قصة الهروب من نفق سجن الحلة عام 1967”. فقد جرى توسيع فتحة ملغاة في مجرى مائي سابق في مبنى مستشفى السجن السابق. وكانت بدأت عملية الحفر في نهاية أيار 1967 وانتهت في 6 تشرين الأول من العام نفسه ليجد خمسة وأربعون معتقلاً أنفسهم قد تحرروا من رهبة السجن، لكن ليلقى القبض على أربعة عشر منهم بعد ذلك.

الوضع نفسه بالنسبة إلى سجناء اعتقلوا في دول مختلفة في العالم حول قضايا جنائية وجنحية، لكنهم في النهاية استشفوا طعم الحياة ولذة التأمل في بزوغ خيوط الشمس وغروبها من دون حكم سجّان يملي عليهم أوقات النوم والإستيقاظ وصبَّ الطين في آذانهم، والرماد في أعينهم. من أعظم عمليات الهرب التي هزّت تاريخ السجون، سجن بيدراس نيغراس في المكسيك، وسجن غراس في فرنسا، وسجن جون كونالي في تكساس، وسجن الكاتزار في سان فرنسيسكو، ومعسكر أوشفيتز في ألمانيا، وجزيرة ايمرالي في تركيا، حين تحوّلت قصّة هرب الأميركي بيلي هايز من أحد السجون التركية إلى فيلم “ميدنايت اكسبرس”(Midnight Express).

تضاف إلى كل هذه الحالات، التجارة السرية عبر الأنفاق بين مصر وغزة، من خلال مدينة رفح بجانبيها الفلسطيني والمصري، وكان الأشخاص الهاربون من الحكومة المصرية والمخدرات والسلاح مكوّنات هذه التجارة.

مرّت الثورة السورية بمراحل عدة، إذ كانت الطلقة الأولى صرخة حرية اتخذها نظام البعث ذريعة لنخر صدور الشباب الثائر بالرصاص، إلى أن آلت الظروف إلى أن يحمل الطرف الأعزل السلاح ويبدأ بمرحلة الثورة المسلحة. نحن بغنى عن ذكر آليات دخول السلاح والأطراف المستفيدين من ذلك، لكن الأهم أن المعركة اشتدت عنفاً وأعطيت الأوامر لتسيير الدبابات وإطلاق قنابل المدفعية الثقيلة، ثم إلقاء البراميل المتفجرة، فأصبح الموت يلاحق الناس من الأرض والسماء. إلاّ أن حادثة انفجار فندق كارلتون الأثري في حلب القديمة شمال البلاد، حملت عنواناً جديداً لتاريخ الحرب في سوريا بعد التخطيط المسبق بحفر نفق في أسفل الفندق الذي تتخذه قوات النظام مركزاً عسكرياً لها لينتفض منها الدخان بكبسة زر أدت إلى انهيار المبنى وتحوله إلى ركام، قتل على أثرها خمسون عنصراً من القوات النظامية في الأقل على أيدي الكتائب الإسلامية التي استخدمت في تلك العملية كمية كبيرة من المتفجرات. وكان الفندق الواقع جنوب القلعة، أحد المعالم العريقة في المدينة التي كانت تعد بمثابة العاصمة الاقتصادية للبلاد قبل اندلاع الثورة، ويتألف من تسعين غرفة، موزعة بين مبنى حديث، ومبنى قديم كان خلال القرن التاسع عشر عبارة عن مستشفى.

تروي سجلات رصد وقائع الثورة السورية، أنه قتل أيضاً ثلاثون عنصراً من القوات النظامية في تفجير نفق أسفل تجمع عسكري في محافظة إدلب (شمال غرب سوريا)، ما جعل مصطلح “حفر الأنفاق” بل “حرب الأنفاق” يظهر للمرة الأولى، ويغدو في واجهة فنون القتال في سوريا، بل ليكون “علامة مسجلة للثورة السورية”، وإن كان النظام نفسه سينتبه إلى هذا النوع من أدوات الحرب التي لم يلجأ إليها، ضمن دائرة ولعه بتجريب كل السبل لقتل من يقول له “لا”.

يعود تكتيك الأنفاق في سوريا إلى لجوء مقاتلي المعارضة خلال شريط الثورة المتواصل منذ ثلاثة أعوام في معاركها ضد القوات النظامية، ولا سيما في ريف دمشق وحمص وحلب، إلى حفر أنفاق بدءاً من مناطق يسيطرون عليها، وصولاً إلى مواقع تابعة للنظام. يقومون عادة بتفخيخها وتفجيرها، أو أنهم يتسللون منها لشن هجمات ضد قوات النظام.

أضاف السوريون تحت وطأة الحاجة، بعداً آخر لهذه الظاهرة، من خلال استثمار حفر الأنفاق، لتنفيذ التفجيرات، وهذا بالضبط ما حصل في حلب. فبعدما خمدت حركة المتقاتلين في رصد القناصة، ويأس الطيارين من إبادة الشعب بإلقاء البراميل المتفجرة من الجو، وبعدما استقرت الأمور على ما آلت إليه، هل يمكن جدلاً القول إن حرب الأنفاق هي الخطوة الحربية المقبلة في سوريا، وهل من المتوقع أن يأتي الموت من قاع الرصيف خلال اجتياز الشارع إلى الطرف الآخر، وهل من المتوقع أن يخرج سجين من فناء الدار أو من تحت طاولة الطعام؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى