صفحات الرأيمازن عزي

حرب التفسير والتأويل: أسود الدولة وأشرف الناس/ مازن عزي

 

 

ينتمي كل من حزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية إلى فئة التيارات الجهادية الإسلامية، وكلاهما مصنف دولياً كتنظيم “إرهابي”. للحزب والتنظيم، مصدران ايديولوجيان متقاربان، أحدهما تأويلي بإفراط لمصدر التشريع؛ القرآن، والآخر يعتمد المغالاة في التفسير الحرفي والتعمق في أسباب النزول. وفي حين تشكل سيرة الإمام علي وولديه الحسن والحسين، وسائر أئمة الشيعة الـ12، مخزوناً عقائدياً تأويلياً، ينهل منها حزب الله، يعتمد تنظيم الدولة الإسلامية على البعد التفسيري للنص القرآني، والاستناد إلى السنة النبوية، وقواعد الاجتهاد والقياس.

كما أن صلة وثيقة تربط الحزب بالتنظيم من الناحية البنيوية: كلاهما يمثل حركة شمولية؛ تعتمد السيطرة الإيديولوجية على مريديها، وتريد منهم الولاء المطلق. لا بنية تنظيمية واضحة لكلا الحركتين. دوائر صنع القرار فيهما، متعددة، متغيرة، غير علنية، وتعتمد على التبديل بين الأجهزة، بحيث لا يمكن الجزم بشأن مَن يمتلك سلطة القرار النهائي. وتتحرك هذه الدوائر حول شخصية مركزية كاريزمية، يحدد القرب أو البعد منها، مقدار النفوذ. البغدادي أو نصر الله، عدا عن تمثيلهما نقطة توازن بين الأجهزة، فإنهما يمثلان سلطة الخطاب على المؤيدين المخلصين، والنافذة المرئية للجمهور الأبعد.

وللمقارنة بين خطاب الحزب والتنظيم، محاذير تتعلق بظروف النشوء، والاختلاف العقائدي، إلا أن ما يجمعهما يبدو أكثر مما يفرقهما.

تهافت الحدود

ألقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كلمة، الجمعة، بثت عبر شاشة متلفزة في “حفلة تكريمية” أقامها حزب الله لـ”شهداء القنيطرة”، بحضور رئيس “لجنة الأمن القومي” في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي.

نصر الله قال في خطبته: “لم نعد نعترف بتفكيك الساحات والميادين ومن حقنا الشرعي والقانوني أن نواجه العدوان، أياً كان هذا العدوان، وفي أي زمان وأي مكان وكيفما كان”. وفي ذلك اعتراف علني، بتجاوز الحدود القائمة بين سوريا ولبنان واسرائيل، وقواعد الاشتباك بينهم. لحزب الله مقاتلون ومستشارون عسكريون في سوريا والعراق واليمن، وهو يعمل، بدعم إيراني، على تشكيل أحزاب مشابهة له في مناطق الاشتباك كافة.

لكن تنظيم الدولة الإسلامية، بُعيد إعلان الخلافة، كان قد أنكر الحدود أيضاً. زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، قال في كلمته المعنونة “باقية في العراق والشام”: “الحُدود التي رَسَمتها الأيادي الخَبيثة بَين بِلاد الإسلام لتُحَجِم حَركتَنا وتُقوقِعَنا في داخِلها، قَد تَجاوَزناها، ونَحنُ عامِلون بِإذن الله تَعالى عَلى إزالتِها ولَن يَتوقَف هذا الزَحفُ المبارك حَتى نَدُقَ آخِرَ مِسمارٍ في نَعشِ مؤامرة سايكس وبيكو”. البغدادي ذهب إلى الأقصى في انكاره للحدود حين قال: “فليست سوريا للسوريين، وليس العراق للعراقيين؛ إن الأرض لله يورثها مَن يشاء مِن عباده، والعاقبة للمتقين”.

الخلاف بين الحزب والتنظيم، بالمعنى العملياتي، هو على موضع الحدود الواجب تفكيكها. فحزب الله يعتقد بجبهة واحدة تضم إيران والعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، وجعلها ساحة معركة واحدة. في حين أن شهية الدولة الإسلامية، أكثر اتساعاً، حين تمتد من بورما إلى شمال أفريقيا، وتضم كامل المشرق العربي، والقوقاز. كلاهما يريد الهيمنة على الأرض التي تضم أتباع المذهب السني أو الشيعي، وتكوين خلافة تدين لأمير المؤمنين البغدادي.. أو جمهورية إسلامية، يحكمها مرشد الثورة علي الخامنئي “أمير المؤمنين دام ظله الوارف على الأرض”، كما جاء في استمارة “بيعة الولاء” التي تعممها المليشيات الشيعية، في بغداد والجنوب العراقي.

باسم فلسطين

من جهة أخرى، لا خلاف بين الحزب والتنظيم، على الموضوع الإسرائيلي. كلاهما يعتبر اليهود شراً محضاً يجب اقتلاعه. فلسطين التاريخية، تأخذ بعدها الديني، كتأسيس في مقاربتهما؛ ثاني القبلتين، وأرض الإسراء والمعراج. والاحتلال فعل تدنيس لأرض مقدسة.

وفي حين يُبرر وجود حزب الله، اللصيق بالحدود الاسرائيلية – اللبنانية، والحروب الطويلة على الأرض، مقدار “العداء” بينهما، إلا أن مرجعية الحزب الدينية الإيرانية لم تنظر إلى إسرائيل إلا كعثرة يجب محوها من الخريطة. تنظيم الدولة الإسلامية يقترب في رؤيته لجوهر الصراع مع اسرائيل، من تلك التي لقادة الثورة الإسلامية الإيرانية. حزب الله، يميل إلى تسمية “إسرائيل”، في حين تنحو لغة التنظيم إلى استخدام صفة دلالية: “اليهود”، والعداء معهم، ليس قائماً على خلاف سياسي راهن، بل هو في العمق، صراع هوية. كما أن حزب الله، يستخدم في خطابه كلمات من قبيل “الشعب” الفلسطيني، في حين أن لا شعوب لدى التنظيم، ولا أرض سوى لله. ويسجل لحزب الله، في ذلك، تمايز قل نظيره بين التنظيمات الجهادية، في مسألة صراعية.

وفي حين أن بوصلة حزب الله، العلنية، ستظل فلسطين، وإسرائيل هي العدو الأول، فإن تنظيم الدولة يرى في اليهود عدوه الرئيسي. فلقد “اجتمع قادة اليهود والصليبيين والمرتدين، وشياطينهم وسادتهم وكبرائهم، ففكروا وقدّروا، وخططوا ومكروا، ودبروا لحرب الدولة الإسلامية”، بحسب ما جاء في كلمة البغدادي الصوتية بعنوان “ولو كره الكافرون”. البغدادي قال: “وارتاعت اليهود، يخافون على اقتصادهم، يخافون على أموال المسلمين وخيرات بلادنا، التي ينهبونها ويمتصونها ويتنعمون بها، ويقاتلوننا بها عبر عملائهم من حكام بلاد المسلمين الخونة”.

نصر الله، أوضح بأن “أول انجازات شهداء القنيطرة أنه من يوم الأحد حتى الأربعاء، اسرائيل واقفة على رجل ونصف، تنتظر ماذا سيفعل حزب الله، وهذا ببركة وعزم المجاهدين وبيئة هؤلاء المجاهدين”. وأوضح: “منطقتنا منذ عقود، بالحد الأدنى منذ 1948، تعاني من وجود سرطاني اسمه اسرائيل، غدة سرطانية ودولة إرهابية وجرثومة فساد”، وأن “إسرائيل تستفيد من الإنقسامات العربية والإسلامية وغياب كامل للدول العربية وحتى لما يسمى الجامعة العربية”.

من جهته، يرى البغدادي أن “اليهود يخافون من عودة الخلافة وعودة المسلمين للريادة والسيادة”، وأن “عملاء اليهود والصليبيين وعبيدهم وأذنابهم وكلابهم على الأرض لم يصمدوا في وجه الدولة الإسلامية، ولن يصمدوا”.

الدم يوحدنا

وأكد نصر الله أن “امتزاج الدم اللبناني والإيراني على الأرض السورية، يُعبر عن وحدة المسار والمصير ووحدة القضية من فلسطين إلى لبنان وسوريا وإيران”، وشدد على أنه “عندما وجدت هذه الوحدة دخلنا في زمن الانتصارات”.

البغدادي بدوره، كان قد دعا في كلمته “والله يعلم وأنتم لا تعلمون”، مجاهدي الدولة الإسلامية، إلى توحيد الموقف والقضية: “أذكرهم أن المعركة هي معركة الأمة جميعاً، وأن المستهدَف هم المجاهدون كلهم، وإنما الدولة باب إليكم، لَئن كُسر فما بعده أهون على عدونا وعدوكم”.

وفي رسالته الموجهة إلى المجاهدين في شهر رمضان، قال البغدادي: “فإن لكم اليوم بفضل الله دولة وخلافة، تعيد كرامتكم وعزّتكم، وتسترجع حقوقكم وسيادتكم، دولة تآخى فيها الأعجمي والعربي، والأبيض والأسود، والشرقي والغربي، خلافة جمعت القوقازي والهندي والصيني، والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي، والأميركي والفرنسي والألماني والأسترالي، ألّف الله بين قلوبهم، وأصبحوا بنعمة الله إخواناً متحابّين فيه، واقفين في خندق واحد؛ يدافع بعضهم عن بعض، ويحمي بعضهم بعضاً، ويفدي بعضهم بعضاً، امتزجت دماؤهم تحت راية واحدة، وغاية واحدة، في فسطاط واحد، متنعّمين متلذّذين بهذه النعمة؛ نعمة الأخوّة الإيمانية”.

روافض ونواصب

يقول نصر الله: “اسرائيل بالإضافة إلى أنها لا تزال تحتل الجولان، تستغل الحرب القائمة أبشع استغلال، وتقدم الدعم الواضح للجماعات التكفيرية بهدف تدمير سوريا وتدمير جيشها وفي وضح النهار تقصف وتعتدي”. وأن “مجموعة القنيطرة كانت في نقطة تبعد ستة كيلومترات عن الحدود، وبينهما آلاف المقاتلين من جبهة النصرة”. لكن نصر الله، الذي ينسى بأن حزبه مصنف كمنظمة إرهابية، يقول إن “جبهة النصرة، الفرع السوري للقاعدة المصنف دولياً وعربياً كإرهابي، له حضور عسكري ضخم ما بين الجيش السوري والشريط الشائك في الجولان والإسرائيلي لا يشعر بأي حرج أو قلق”.

نصر الله، ردد في كل خطبه السابقة بأن التكفيريين هم نابشو قبور، وقاطعو رؤوس. وفي ذلك، تثبيت لأصل جوهراني كلي، يُجمِل به كل القوى الإسلامية السنية الجهادية، في سوريا والعراق. في حين أنه، وبداعي السياسة أيضاً، يمكنه تمييز المقاومة الإسلامية السنية الفلسطينية عن الحركات الجهادية الأخرى. في ذلك، نزوع براغماتي لدى الحزب، لا تمتلك مثله الدولة الإسلامية. فالبغدادي، لا يرى في الشيعة سوى “جوهرهم الأصيل”: “أمَّا أنتم أيُّها الروافض الحاقدون.. أنتم شيعة المجوس أحفاد أبي لؤلؤة وابن سبأ ورستم وجدُّكم كسرى”.

البغدادي دعا “أسود الدَولة الإسلامية في العِراق والشام، اشفوا غَليل المؤمِنين، ثِبوا عَلى الرافِضة الحاقِدين والنُصيرية المُجرِمين، وعَلى حِزب الشَيطان والوافِدين مِن النَجَف وقُمّ وطَهران”.

حرب الزمن الموازي

الحرب اليوم، في ساحة المشرق العربي، تقوم بين مشروعين جهاديين: سنّي وشيعي. كلاهما يرى أحقيته في السلطة، وبناء لنموذج دولته المشتهاة. وفي حين تنقص السياسة من قاموس الدولة الإسلامية، وتعتمد في تثبيت حدودها على العنف وحده، يمزج المشروع الشيعي بين السياسة والعنف.

الحرب الممتدة جبهاتها من بغداد إلى صنعاء، قد تكون نتيجة تماس مباشر بين الحداثة والبنى الاجتماعية المتهالكة التي ورثناها. لكن شدة اعتماد طرفي الصراع، على القرآن، وقداسته كمصدر وحيد لتبرير حيازة السلطة، تثبت عملياً بأن الحرب تتم خارج واقعنا. فالحرب الحالية، تسير بزمن موازٍ لزمننا، وكأنها تدانيه، ولا تقربه. يحدث ذلك، حين تعود مبرراتها إلى خلاف عائلي، ضمن قبيلة قريش، وبين أبناء عمّ، هالتهم السلطة التي حازوها فجر الإسلام، ورفضوا تقاسمها. لا فرق هنا إن كسبت المجموعات الدينية المتناحرة، بُعداً إثنياً، يضاف إلى معالم هويتها.

استمرار عمليتي تفسير القرآن السنّية، وتأويله الشيعية، وإعادة انتاج خطاب راهن لكل جماعة، بالاستناد إلى إعادة التأويل والتفسير، تحيل إلى فصام حاد، تعيشه مجتمعاتنا، يصل حدّ الافتراق النهائي عن الواقع. الحرب الحالية بين السنة والشيعة، حرب بين التأويل والتفسير؛ حرب بين أشرف الناس وأُسود الدولة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى