صفحات الرأي

حركات الاحتجاج تفتقد سنداً لعالمها المرجوّ يستبق صورته/ جاك رانسيير

 

 

إذا كان النظام التمثيلي البرلماني على وشك لفظ أنفاسه في كل مرة يتخلى فيها حزب يساري عن الوفاء بتعهداته الانتخابية، لكان هذا النظام مات منذ قرن مديد. وتشخيص هذا الموت، أو قربه، ينهض على الخلط بين أمور ثلاثة مختلفة: التمثيل (الانتداب) والانتخاب والديموقراطية. وهذا يجعل من النظام التمثيلي السراب «الديموقراطي» الذي يوهم الناس بأنهم يصبرون على وطأة سلطة يحسبون أنهم مصدرها. وأنا أرى أن التمثيل، أو مبدأه وأصله، ليس الديموقراطية. وهذه ليست اختيار من ينوب عمن يقترعون لهم، بل إن الديموقراطية هي سلطان من ليسوا أهلاً للاضطلاع بتصريف شؤون السلطة.

والفكرة الشائعة تصور التمثيل على صورة حركة مصدرها «تحت» المجتمع أو أسفله. وفي القاع السفلي هذا، يجتمع جسم مشترك وواحد يختار ممثليه. ولكن شعباً سياسياً ليس شيئاً أو كياناً ناجزاً قبل توليه أفعاله ومبادرته إليها، بل هو ثمرة هذه الأفعال ونتيجتها. وليس الشعب هو من يمثل نفسه (بواسطة ممثليه). فالتمثيل (أي نظامه وعلاقاته) هو ما ينتج نمطاً من الشعب. وهذا التمثيل هو، اليوم، حرفة تحترفها طبقة من السياسيين المحترفين يتناسل بعضها من بعض، وتدعو إلى التصديق على تناسلها شكلاً بعينه من الشعب هو الجسم الانتخابي، نتاج نظام التمثيل وعلاقاته. وإن لم تنهض، مستقلة عن النظام التمثيلي، سلطات ديموقراطية قائمة بنفسها وقوية لتنشئ شعباً آخر، متماسك الحركة ومتساوياً، غلب المنطق المرتبي، وتناسلَ الممثلون «الشرعيون»، أي طبقة محترفي السلطة، بعضهم من بعض من جديد.

والمسألة الحاسمة في هذه المناقشة هي التخفف من فكرة السيطرة، ومن تصويرها على صورة نظام كبير ومتماسك، أو على صورة كل عضوي يلد من تلقاء نفسه، وعلى مثاله، المؤسسات والقابليات الذاتية التي تمتثل لحاجاته وتستجيب إملاءاتها. فالسيطرة تعمل في وسط حال تتحصل من مزيج عناصر ومركبات متنافرة. ووجوه الإقبال على العناصر والمركبات هذه، كما وجوه مدافعتها ومقاومتها، هي كذلك أمزجة غير متجانسة من الانفعالات وأشكال الوعي. ولا تستوفي موضوعات مثل تبدد السحر الإحاطة بتعقيد المركبات والشبكات التي تنهض عليها السيطرة ومقاومتها معاً.

والقول الشائع في أوساط يسارية فرنسية متفرقة إن الحركات التي نشأت عقب قانون العمل الجديد («قانون الخمري»)، في ربيع 1916، ومنها حركة «الليل قياماً»، هي خطوة متقدمة، لا أرى هذا القول بدهياً. والمقارنة بين هذه الحركات وبين حركات «شبيهة» في 1850، قد توضح ما أقصده. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان يسيراً على عمال مناضلين معارضة الرابطة العمالية أو «الاجتماعية»، على ما كانوا يسمونها، بسلطة رأسمالية وسلطة دولة سياسية، يراهما العمال طفيليتين. وما كان يبرز إذ ذاك، في معرض تنامي شبكة الروابط الاجتماعية، مفاده أن العمل دنيا مشتركة، وأن في وسع البنيان الأفقي الضخم لنظام الإنتاج والتبادل المضي على الإنتاج والتبادل من تلقاء نفسه، ومن غير مراتب. وبداهة قوة العمل على إنشاء دنيا متماسكة ومشتركة انحسرت وتبددت في عالم الرأسمالية المالية والصناعات المنقولة وعموم التوظيف الموقت والهش، المعاصر. ووساطة الرأسمالية والدولة لا تعف عن موضع من مواضع الإنتاج والتبادل. و «قانون العمل» هو إعلان زوال دنيا العمل المشتركة.

وبعضهم يرد على الأحوال الجديدة بخطب عنترية تنعى أوهام العمل والقيمة الناشئة عن العمل. ويرى آخرون فيها القرينة على أن الرأسمالية ما بعد الفوردية (رأسمالية العمل الجزئي على الخط، والأجور المرتفعة والضمانات الاجتماعية) آذنت بالأفول ولا تقتصر على الاستيلاء على العمل وتتعداه إلى الاستيلاء على الحياة كلها، وهذا يستدعي حركة «حيوية (بيولوجية) – سياسية»، أي حركة الحياة نفسها وخلافتها الحركة العمالية.

ولكن محتجي ربيع 2016 رأوا معنى آخر: إعلاناً رسمياً عن أن العمل قاصر عن إنشاء جماعة وإيجابها، وليس منذ اليوم إلا ذريعة واحدنا إلى تدبير «رأسماله الإنساني». وهذا ما يُعرب عنه القمع القضائي القاطع والعام لأشكال نضال عمالية كانت، إلى وقت قريب، من لوازم النزاعات الاجتماعية المتوقعة. والحلف غير الاعتيادي بين النقابات وبين الهامشيين وغير المنظمين، في إطار «الليل قياماً»، ظاهرة مشبعة بالدلالة في ضوء حدة المجابهات السابقة بين اليسار وبين النقابيين.

ومكانة هذه الحركة لا تسوغ الغفلة عن عسر انخراطها، وربما استحالته، في سياق زمني متنام. فهي شهادة على ان العمل لا يزال محور نضال ولحمة جماعة، وهي قناع يتستر على انصرام العمل وذواء قوته على إنشاء دنيا مشتركة ورابطة. فليست هذه الحركة الشكل الماثل أو المتحقق لدنيا آتية، وهي ما كانت بعدُ في 1968، على رغم الافتراق بين الوظيفة الرمزية التي أولتها الطبقة العاملة في ذهن اليسارويين وبين «الواقع» الذي تعهده الممثلون «الشرعيون». ولم يحل محل العمل، ودوره ودلالته، مثال آخر. وخطوة فكرة «العائد العمومي» دليل على الأمر. فهذا العائد قام دليلاً على نشاطية سياسية واجتماعية جديدة تجاري تطوراً تاريخياً بلغه العاملون «المعرفيون» في المرحلة ما بعد الفوردية. وبقي الحراك التاريخي فرضية مدرسية. وحل محله حراك الاحتلالات (في المصانع وإدارات الشركات). وظهر العائد العمومي إجراءً حكومياً، وتعويضاً عن بوار التصنيع والتنقيل أو التنهيج الذي حل محله. فلم تبق ثمة جماعة قائمة تتولى ضمان الجماعة المنتظرة والقادمة. واقتصرت الجماعة على موضوع رغبة.

ولا شك في أن حركة ربيع 2016 علامة على فرق: بين شعب العملية الانتخابية وشعب الحركة السياسية. والعلامة هذه أقرب إلى استدراك على ما فات الفكر والعمل الانتباه إليه. إلا ان الشعب المختلف هذا غرض رغبة فوق ما هو صورة حركة. فما وسع ربيع 2016 صنعه هو التمثيل على إلحاح الصورة، ونازعها الى التحقق، ولم يسعه الدلالة على حواس البنية وغددها وأعضائها ولا على تضاريس هذه البنية. وشيوع موضوعات مثل السلطان «العازل» أو «الخالع» المستعار من جورجيو أغامبين، أو «الخروج» الذي دعا إليه باولو فيرنو، قرائن أخرى على هذا القصور، أو هذا الفرق. ويتوهم دعاة هذه الموضوعات أن في مستطاعها ملء الفرق، وأن «نتعة» كتف بسيطة قمينة بهدم البنيان كله، أو ان الانسحاب والتنصل من النظام يؤديان حتماً الى انحلاله.

ويزعم وهم الأواني المستطرقة (والمتصلة) أن انحسار الأماني المعلقة على النظام التمثيلي يلد حتماً تعاظم الطاقات النازعة الى تبني البدائل عن هذا النظام. وهذا يصدر، في نهاية المطاف، عن توقع إفضاء تبدد الوهم (النظام الانتخابي) الى تعظيم قوة الحقيقة (الحركة الاجتماعية، الصراعات الحقيقة، إلخ). والحق أن المنطق الذي يسيّر العقول والأجساد هو ثمرة تقاطعات مثالات غير متجانسة وأكثر تعقيداً من منطق الأواني المستطرقة. والبرهان هو أن الحركات الاجتماعية غير البرلمانية شهدت ذروة قوتها في أوقات كان فيها النظام البرلماني يغذي آمالاً عريضة في التقدم. واليوم، تجد الاستكانة الانتخابية صنوها وقرينها في حركات مطلبية شبه يائسة ونظريات ثورية «جذرية» تستعير حججها ونبرتها غالباً من نظريات الكارثة الحضارية المحبطة.

والكلام على الجديد والطارئ يدعو إلى الدقة. فثمة جديد، على الدوام، حين ينقلب الناس من الرضوخ الى الاحتجاج. ومقاومة هجوم العدو ومنطقه هي مصدر الجدة. وهذه المرة، لم تؤد مقاومة قانون العمل الى إلغائه، على خلاف ما أودت إليه اضرابات 1995 احتجاجاً على احتساب المعاشات التقاعدية، أو إضرابات 2006 رفضاً لبطاقة العمل الطالبية. ولكن حركة «الليل قياماً» كانت ذات شأن في ميزان قوة الحركة الذاتية: وقلبت حركة مقاومة الى إيجاب جماعة استولت على مكان وزمان خاصين. ففي ساحة الجمهورية (حيث عقدت «الليل قياماً» جمعياتها العمومية بباريس)، وليبرتي بلازا أو بويرتا ديل سول، أظهرت محورية شكل الجمعية العمومية قوة الرغبة في انعقاد الجماعة ومساواة أفرادها، على نحو ما أظهرت كيف تكبت هذه الرغبة نفسها وتسجنها في صورتها من طريق مسرحتها فرحها بالتئامها. إلا ان الانتقال من الفرد الى الجماعة ليس هو المسألة، بل الانتقال من شكل جماعة الى شكل آخر.

وجدد ربيع 2016، على نحو راهن وحسي، فكرة جماعة واحدة تضطلع في آن بمهمات العمل السياسي وبأعباء الحياة، وأظهر علاقة الأمرين واحدهما بالآخر، أي علاقة إنشاء شعب قائم بتبعات نفسه بإنشاء قوة تنهض بأعباء الصراع مع العدو. والتاريخ المعاصر كله تنازعه نازعان: نازع أول الى صراع الطبقات على صورة إنشاء جيش يتولى الانتصار على العدو، ونازع آخر الى انشقاق شعب يبتكر هيئاته وأشكال حياته المستقلة. ويسلك النزاع سبيله الى الحل حين يتولى شعب واحد عمل جيش العمال المقاتلين ومهمة المنتجين الأحرار. وينفجر النزاع حين لا تُحتل المصانع ولا الجامعات ولا محال الوظائف الاجتماعية التي يجتمع فيها الطرفان المتنازعان، بل الساحات الشاغرة حيث ترمز الجمعيات العمومية الى الجماعة، ويتقاسم الخطباء الكلام أوقاتاً متساوية، بينما تتردد في الطرق الفرعية شعارات على شاكلة «الناس يكرهون الشرطة»، ويعوض تحطيم بعض آلات الصرافة تدمير الكتل المالية القوية آلاف الوظائف.

* أستاذ الفلسفة السياسية والجماليات في جامعات فرنسية، عن «في أي وقت نعيش؟»، 2017 دار لا فبريك، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى