صبحي حديديصفحات الرأي

حروب إسرائيل: «علمانيون» و«متدينون» تحت سقف الكنيس!/ صبحي حديدي

 

 

 

لا تبالغ روث إغلاش، مراسلة الـ»واشنطن بوست» في القدس المحتلة، حين تتحدث عن حرب طاحنة عمرها 70 سنة بين «العلمانيين» و«المتدينين» في دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ليس حول أقدار الصهيونية المعاصرة، وما بعد الصهيونية كما يُقال، أو التعليم الديني، أو قوانين التمييز العنصري… معركة الـ70 سنة هذه تدور حول فتح المحالّ والمتاجر والمقاهي ودور السينما والترفيه أيام السبوت، طبقاً لفتوى من المحكمة العليا الإسرائيلية أباحت هذا الإجراء في تل أبيب؛ أم إغلاقها، طبقاً للأعراف اليهودية الدينية أولاً، وكذلك استناداً إلى القانون الذي سنّه الكنيست الشهر الماضي.

هذه حرب تخصّ «شخصية إسرائيل»، تستنتج إغلاش وهي تصغي إلى آراء الفريقين، «العلمانيين» و«المتدينين»، في بلدة أشدود، سادسة مدن إسرائيل؛ التي تضمّ خليطاً واسعاً من المهاجرين، وخليطاً أوسع من عادات العيش والمأكل والمشرب. الروس، الذين هاجروا إلى هنا منذ 20 سنة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، يواصلون الافتخار بانتمائهم الديني اليهودي؛ ولكنهم يواصلون، أيضاً، ذائقتهم العريقة في أكل لحم الخنزير والمحار. ليس هذا رأي مهاجر حريدي، متمسك كلّ التمسك بالشرائع الدينية اليهودية: «إذا لم نحارب نحن لحماية الرموز الإسرائيلية، فلا أحد سيخوض الحرب»؛ خاصة على أعتاب انتخابات محلية سوف تلعب فيها اعتبارات كهذه دوراً محورياً.

وفي موازاة النصوص التوراتية، أو تأويلاتها طبقاً لهذا الفريق المتدين أو ذاك، يلجأ «العلمانيون» إلى دافيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء إسرائيلي، ورسالته الشهيرة إلى مجمع الحاخامات في سنة 1947، أي قبل التأسيس الرسمي لدولة الاحتلال. «ليس لدينا نيّة لإقامة دولة ثيوقراطية»، كتب بن غوريون؛ الذي، مع ذلك، أقرّ يوم السبت كنهار عطلة وراحة، وبالتالي جعل الإغلاق فيه بمثابة أمر واقع، وهذا ما يتناساه «العلمانيون» ويذكّر به «المتدينون». وأمّا فتوى القاضي ميريام ناعور، التي أباحت افتتاح المتاجر في تل أبيب أيام السبوت، فقد سارت بعض حيثياتها هكذا: «بينما يحافظ أيّ فرد على شخصية السبت، يتوجب عليه أن يصوغ سبته طبقاً لطريقته وقناعاته الخاصة، ويملأه بالمحتوى الملائم له».

أهذا سجال عقيم، قد يسأل سائل؟ كلا، تقول الوقائع المتعاقبة خلال حرب طاحنة بالفعل تدور حول شخصية دولة الاحتلال، وليست مضامينها شكلية البتة، بل هي محطّ استقطاب قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، فضلاً عن تلك الدينية والفقهية. وهذه حرب مفتوحة تربط الراهن بالماضي، وعلى أسس مثل هذه التي تفرزها سجالات أشدود ترتد الأعوام على أعقابها نحو العقود الأولى من القرن. على سبيل المثال، في تلك العقود، مع وصول الحاخام أفراهام إسحق كوك من ليتوانيا؛ كانت التيارات الدينية المتشددة تبدي الكثير من الاحتقار لهؤلاء العرب البداة الذين يحتلون أرض الميعاد، التي خصّ بها الربّ إسرائيل وحدها من دون الأمم. ولكنها كانت تُبدى احتقاراً، ربما بالقدر ذاته، لأولئك الصهاينة «العلمانيين»، الذين يأكلون لحم الخنزير، ويستبدلون التوراة برطانة عقائدية «ليبرالية» أو «اشتراكية»؛ ليست، ولن تكون، أقلّ من هرطقة صريحة ضدّ التوراة وضدّ الربّ، كما ساجل أنصار كوك.

وعلى يد ذلك الحاخام، ومن بعده ابنه الحاخام تزفي يهودا، تمّ جسر الهوّة بين «أنبياء الربّ» و«أنبياء الكيبوتزات»، واتفق الجميع على قبول مبدأ إقامة دولة لليهود كـ»حجر أساس لقيام عرش الربّ على الأرض». لكنّ النار بقيت مشتعلة تحت الهشيم، وفي محاضرة لاهبة ألقاها عشية انتصار دولة الاحتلال في حرب الأيام الستة، 1967، قال الحاخام الابن إنه لم يكن في أيّ يوم سعيداً بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة وقامت بموجبه الدولة العبرية: «أين الخليل التي تخصّنا نحن؟ أين أريحا التي لنا؟ هل سننسى أريحا؟ وماذا عن الضفة الأخرى من الأردن؟ إنها ملك إسرائيل في كلّ شبر منها، فمَنْ ذا الذي يملك الحقّ في التنازل عن ملليمتر واحد منها»؟

وفي احتفالات اليوبيل الفضي لإقامة الدولة، شدّد أبناء الحاخام كوك وأحفاده على أنّ قداسة إسرائيل لا علاقة لها ببني البشر، وبالتالي لا صلة تجمعها بالسياسات والحسابات والمعادلات والشرائع، محلية كانت أم دولية. قداسة أرض إسرائيل هي كيفية روحية وفيزيائية وضعها الربّ وفرضها على بني إسرائيل، وعلى أرض إسرائيل. ولقد هتف الحاخام بأعلى صوته: «الربّ هو الذي قرّر أننا الشعب المختار مرّة وإلى الأبد، وهذه حقيقة واقعة تخصّ الأرواح كما الأبدان، وهي حقيقة واقعة حول الأرض المقدسة التي اختارها الربّ لتكون صهيون إسرائيل. إسرائيل الكبرى هي الأرض المقدسة شاملة تامة، وهي الشعب المختار شاملاً تامّاً».

وكان باحث يهودي مرموق من طراز نورمان فنكلشتاين هو الذي كشف، في كتابه «الصورة والحقيقة في نزاع اسرائيل ـ فلسطين»، أنّ الجذور الأولي للصهيونية (التي يتفاخر «العلمانيون» بأنها مرجعيتهم)، اتخذت في الأصل شكلاً رومانتيكياً من النزعة القومية التي تفترض ـ مسبقاً، وفي الجوهر ـ أنّ إفلاس الديمقراطية الليبرالية يُخلي الساحة تماماً لمزيج عنصري ـ ديمقراطي ـ أسطوري، في آن معاً. وهذا، على وجه الدقّة، ما تعيشه الدولة العبرية اليوم، في مساقات انحطاطها الحثيث نحو فاشية من نوع جديد، وعنصرية من طراز لا يليق إلا بالفكر اليميني المتطرّف الذي ينتشر اليوم كالفطر السامّ في أرجاء أوروبا المعاصرة.

وعلى الصعيد الإيديولوجي توقف فنكلشتاين عند تلك العلاقة الاستقطابية المحمومة التي نجمت عن هيمنة الديانة (في شكلها المتشدّد تحديداً) على السياسة العامة أو السياسات اليومية في إسرائيل؛ وما خلقته، على الدوام، من احتقان حادّ بين راديكالية دينية متشددة ومعادية للصهيونية (بوصفها حركة «قومية» و«علمانية» بهذا الشكل أو ذاك)، وبين التيارات الصهيونية وما بعد ـ الصهيونية على اختلاف خطوطها وألوانها. أين الأقلية وأين الأغلبية؟ أين علاقات القوّة في هذا المشهد، وهل يتحرك أم يتجمد؟ وأين المجتمع من هذين الانقسامين؟ وهل الحرب، حول إغلاق المحالّ أو فتحها أيام السبوت، ثقافية أم دينية، سياسية أم اقتصادية؟ «دينية» أم «علمانية»؟ وأيّ تهديد تنطوي عليه مساراتها منذ 70 سنة؟

أليس هذا التهديد هو حجر الأساس في العقيدة الكاهانية التي دعت إلى مجابهة شاملة لا تُبقي ولا تذر مع «اليهود الهيللينيين»، أي أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلى التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية؟ ألم تكن أفكار الحاخام هذا بمثابة الصيغة القصوى لذلك الانصهار الإعجازي بين الكفاحية اليهودية القومية الصرفة، وبين النزوعات القيامية الخلاصية؛ حين شاءت المعجزة أن تلتقي العلمانية الصهيونية المتشددة، بالنزعة الدينية المتشددة؟

وفي كتابه الأشهر «أربعون عاماً»، ألم يكتب كاهانا بالحرف: «هذه بلاد تنغل بالهيللينية، وبالغوييم الذين لا يجمعهم بالدين سوي النطق بالعبرية، والذين تتضخم عندهم نزعة الأنا إلى حدّ الدوس على الهيكل ونسف الديانة. الهيللينيون يسرحون ويمرحون في أرض الربّ، وحين انفصلت اليهودية عن الصهيونية باتت هذه الأخيرة مجرد شكل من النزعة القومية الكريهة. اليهودي ضدّ الهيلليني، هذه هي المعركة الحقيقية الوحيدة»؟

جدير بطرفَيْ النزاع في أشدود أن يتذكروا، إذن، أنّ سقف الكنيس اليهودي هو القاسم المشترك، كما رسمه صهيوني مؤسس مثل تيودور هرتزل؛ الذي قال بضرورة أن يكون الحاخامات على مرمي حجر من الساسة… دائماً وأبداً، وكتب، بصراحة بليغة: «في الدولة اليهودية القادمة، لا بدّ من بقاء الكنيس ماثلاً أمام البصر. ينبغي أن يظل مرئياً دائماً».

وهو كذلك، بالفعل؛ كان ويظلّ!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى