صفحات الثقافةممدوح عزام

حروب الذاكرة/ ممدوح عزام

 

 

 

هل هي العبارة التحفيزية التي تقول: “لن ننسى”؟ ربّما، خصوصاً إذا كانت مجموعة من البشر قد تعرضت لمجازر أودت بحياة الآلاف من أفرادها، أو أفضت إلى تهديم بيوتهم، أو حرق محاصيلهم، دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، بسبب قوة الغازي المدمرة.

وثمة تنويع لفظي يضاف إلى تلك العبارة يقول: “كي لا ننسى”، وهي عبارة تنتج تحريضاً يحضّ على عدم النسيان، أو على ضرورة الاستمرار في إنعاش الذاكرة الجمعية في مواجهة احتمالات النسيان. ومن المرجح أن تستنطق الوقائع الماضية، كي تحملها بكل القرائن والأدلة الضرورية لإبقاء الذاكرة في حالة يقظة.

ولأن المنتصرين يكتبون التاريخ، فإن العبارتين السالفتين تخصّان المغلوبين وحدهم، ولهذا فهم يلجؤون إلى أشكال التعبير الأخرى كالحكاية والشعر والرواية، لتثبيت ذاكرتهم التي ترفض أن تنسى.

يكتب تولستوي الروسي “الحرب والسلم”، في وقت لم يكن من الممكن قط أن يكتبها أي فرنسي. لن يكتب الفرنسيون أيضاً أي رواية أو أي حكاية عن سوريا في زمن احتلالهم لها، أو عن الجزائر وفيتنام. وأقصى ما قدمته المخيلة الغربية عن الحروب الصليبية هي حكاية “روبن هود”. وروبن هود ليس بطلاً من حروب الفرنجة في بلاد ليست بلادهم، وإنما هو ظلال تلك الحروب وآثارها على موطنهم الذي جاؤوا منه.

بينما ترزح الذاكرة العربية تحت وطأة شعر يرثي المدن المدمرة، أو تنتشي بسيرة تمجّد الظاهر بيبرس العنيد الذي يصدّ المحتلين، أو تحظى بكاتب كأمين معلوف يعيد سردها من وجهة نظر العرب الذي غلبوا ذات يوم.

ومن المعروف أن المنتصرين خاضوا حروباً ضدّ ذاكرة المغلوبين، فأنشأ الأميركيون حكاية مخاتلة عن صفات شيطانية لشعب “الهنود الحمر” الذي أبادوه تقريباً، من دون أن يتمكّنوا من محو ذاكرته.

وسوف يحضر الفلسطيني محمود درويش كي يكتب “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض” التي تعيد إحياء ذاكرتَي “الهندي الأحمر” والفلسطيني. كما أن رواية مثل “باب الشمس” لإلياس خوري تمنع النسيان، وتؤسس من جديد لذاكرة الفلسطيني المقتلع من أرضه ووطنه.

وقد تدّعي مقالات التأنيب واللوم التي أطلقتها الصحافة السورية ذات يوم ضدّ ما سُمّي “الرواية التاريخية” أن كتابتها ناجمة عن الهرب من مواجهة استحقاقات الحاضر، غير أنها تغفل أنها كانت محاولات حثيثة لإنشاء ذاكرة جمعية مشتركة لشعب تعرض طوال خمسمائة عام لحكم الأجانب الذين عبثوا بذاكرته. ماذا يمكن أن تقول تلك الأقلام حين يستعيد السوري المغلوب اليوم ذاكرة الأمكنة المدمرة، والمفقودين الأعزاء، في الغد؟

أغلب الظن أن الذاكرة لا تحارب التسامح، والتسامح بدوره لا يعني محو الذاكرة. وبعد هذا، هل صحيح ما قاله كونديرا: “حرب الذاكرة لا تعاقب بشدة إلا المهزومين، فيما المنتصر يبقى بعيداً لا يمكن اتهامه؟”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى