صفحات العالم

حروب المشرق العربي هل تعيد ترسيم حدود سايكس- بيكو؟/ د. عصام نعمان

 

 

تعصف بالمشرق العربي، دولاً وشعوباً، منذ نحو ست سنوات حروب أهلية وإقليمية، ناعمة وساخنة، تتداخل فيها عوامل ومصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية، وتستثيرها دوافع ايديولوجية، وتشارك فيها بالوكالة أو بالاصالة دول كبرى وأخرى متوسطة.

تحتدم هذه الحروب في نطاق جيوسياسي معروف باسم سايكس- بيكو، وهو من نتاج الحرب العالمية الاولى 1918-1914 كما في صراعات وتحوّلات دولية وإقليمية على مدى قرن، كان آخرها ما يسمى انتفاضات «الربيع العربي».

توصيفات ومسوّغات عدّة اعطيت لأحداث «الربيع العربي». قيل إنها انتفاضات من اجل الحرية والكرامة والديمقراطية، وقيل إنها صحوات مستجدّة لقوميات وإثنيات قديمة مقموعة، وقيل إنها ظاهرات تحجب صراعات مريرة على الموارد والمصالح والأسواق والنفوذ. لعلها كل هذه الامور بمقادير متفاوتة، لكن ثمة حقيقة ساطعة تبدّت فيها جميعاً، هي أن قوى خارجية متعددة، ابرزها الولايات المتحدة الامريكية، تدخلت فيها وحرَفَت مسارها واستخدمتها من اجل تحقيق اغراضها، فهل يتأتى عن تداعياتها ترسيم حدود جديدة لسايكس- بيكو؟

في هذا السياق، يمكن اعتبار الضربة الصاروخية الامريكية لقاعدة الشعيرات الجوية السورية مطالع أبريل 2017 انعطافة لافتة للحرب في سوريا وعليها. تردَدَ كثيراً في وسائل إعـلام امريكية أن الـرئيس دونالد تـرامب امر بها، لأنه ما عاد في وسعه الصبر على محاصرتـه بمعارضةٍ متصاعدة، تعيّره بأهليةٍ متدنية للتقرير والحكم. انتفض ترامب غاضباً وضارباً بالصواريخ سوريا، بعدما قررت الدولة العميقة داخل عاصمته الفدرالية، وجوب التشدد في تطبيق مناهج وآليات استراتيجية قديمة تستهدف الجوار العربي للكيان الصهيوني، وسائر ساحات البرزخ الممتد من الشواطئ الشرقية للبحر الابيض المتوسط وصولاً إلى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين.

دافعُ ترامب، في هذا المجال، مزدوج: شخصي غايته الدفاع عن كيانه كرئيسٍ جديد، وتأكيد حضوره وفعاليته. واستراتيجي محوره متابعة تنفيذ مخطط جيوسياسي قديم يرمي إلى حماية مصالح الولايات المتحدة وتعزيز أمن الكيان الصهيوني، بتفكيك جواره العربي إلى كيانات وجمهوريات موز قائمة على اساس قبلي أو مذهبي أو اثني وعاجزة، تالياً، عن الاتحاد لتكوين قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، قادرة على مواجهته.

هذا المخطط الجيوسياسي القديم اكتسب بُعداً استراتيجياً اضافياً، بصعود ايران عقب ثورتها الإسلامية 1979، وتحوّلها قوةً اقتصادية وتكنولوجية، وبالتالي عسكرية فائضة القدرات، ما استوجب مواجهتها لحماية مصالح الولايات المتحدة وأمنها، كما أمن حلفائها الإقليميين.

ليس صحيحاً أن هجمة ترامب الصاروخية ضد سوريا تنطوي على مفاجأة أو انقلاب على استدارةٍ ودّية، كان باشرها الرئيس الامريكي حيال غريمه الرئيس السوري، وبلاده المنخرطة في حربٍ ضروس ضد تنظيمات ارهابية متعددة. ذلك أن المخطط الجيوسياسي اياه كان وُضع موضع التنفيذ خلال حرب 1967، في ظل رئاسة ليندون جونسون، ما أدى إلى ضرب ثورة مصر الناصرية في مَقاتل استراتيجية، باحتلال سيناء المصرية، والسيطرة على الجولان السوري، واكتساح فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. ثم ما لبث هذا المخطط أن سجّل كسباً وازناً بإخراج مصر من حومة الصراع العربي- الصهيوني، عبر اتفاقات «كامب ديفيد» 1979، وتعطيل منظمة التحرير الفلسطينية بإخراجها من الاردن عام 1979 ومن لبنان عام 1982، وإخراج جيش العراق من الكويت، كما نظامه السياسي برمته من البلاد بعد احتلالها من اقصاها إلى اقصاها عام 2003.

كل ذلك جرى على مراحل منذ عام 1967 في عهود ستة من الرؤساء الامريكيين المتعاقبين، عادت الولايات المتحدة خلالها إلى تفعيل مخططها الجيوسياسي إياه، في ظل رئاسة باراك اوباما، وصولاً إلى رئاسة دونالد ترامب عام 2017 ومباشرتها تدخلاً عسكرياً سافراً بإنزالها قوات ومدرعات في شمال شرق سوريا، وقصفها جسوراً وقواعد للجيش السوري في محافظة دير الزور وبادية الشام، كان آخرها تدمير قاعدة الشعيرات الجوية في محافظة حمص.

كل هذه الواقعات والتطورات تطرح سؤالاً ضاغطاً: ما العمل؟ تتعدد التحليلات والاجتهادات في هذا المجال، لعل ابرزها اثنان:

الاول يؤكد أن الهجوم الامريكي– الصهيوني على سوراقيا (سوريا والعراق) متواصل ومتصاعد ولن يتوقف إلاّ بعد نجاحه أو إخفاقه في تحقيق اغراضه.

الثاني يرى أن الولايات المتحدة ستصعّد هجومها في سوراقيا، بغية تحقيق مكاسب جيوسياسية من شأنها تعزيز مركزها التفاوضي ومركز حلفائها الإقليميين في مفاوضات جنيف الحالية والمقبلة، لتسوية الأزمة السورية والوصول بها إلى تسويات واقعية ومقبولة من اللاعبين الدوليين والاقليميين.

غالبية الفئات الحاكمة في عالم العرب، ولاسيما في الخليج، تميل إلى اعتماد التحليل الثاني وتوجّهاته وتتبنّى، تالياً، هجمة ترامب الاخيرة على سوريا وتحثه على المزيد منها. في المقابل، تعتمد غالبية قوى التغيير السياسية الفاعلة في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين في المشرق، وتونس والجزائر في المغرب، التحليلَ الاول وتتوقع قيام روسيا وايران بتزويد تنظيمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية (ناهيك عن الجيش السوري) مختلفَ الاسلحة المتطورة وافعلها، كما باعتماد خيار تمكينها من تصنيعها محلياً اذا تعذّر نقلها اليها، وباللجوء ايضاً إلى خيار الاشتباك مع القوات الامريكية التي جرى ويجري إنزالها في سوريا والعراق، أو في اي قطر مشرقي آخر. كما تدعو هذه القوى إلى معاودة مشاغلة «اسرائيل» بمختلف أساليب المقاومة المدنية، وتطويرها تدريجياً إلى مقاومة ميدانية، لتتساوق مع جهود المقاومة اللبنانية وجهود سائر قوى المقاومة العربية في سوريا والعراق ضد القوات الامريكية والتركية الناشطة في ساحاتهما.

يتحصّل من مجمل الواقعات والمعطيات المتوافرة حالياً نشوء خشية متنامية لدى «اسرائيل» من أن تتطلّب عملية دحر تنظيمي «داعش» و»النصرة» وامثالهما في العراق وسوريا، إلى قيام تضامن وتعاون اوسع بين اطراف محور المقاومة يؤدي إلى تهديد أمنها القومي. ذلك أن رئيس الوزراء العــراقي حيدر العبادي أعلن ونفّذ سياسة جريئة بضرب مواقع لـِ»داعش» في منطقة «البوكمال» داخل سوريا، بتنسيق معلن مع حكومتها وجيشها، فيما اعلنت «حركة النجباء» العراقية (المدعومة من الحرس الثوري الإيراني) عشية زيارة نتنياهو الأخيرة لموسكو تشكيلَ «فيلق لتحرير الجولان السوري المحتل». الناطق باسم «النجباء» هاشم الموسوي قال في طهران: «هذا الفيلق مدرب ولديه خطط دقيقة، ومكوّن من قوات خاصة مزوّدة اسلحة استراتيجية متطورة (…) ولن تخرج من سوريا إلاّ بعد خروج آخر ارهابي منها».

في المقابل، تقاتل الولايات المتحدة «داعش» بقوةٍ من مشاة البحرية (المارينز)، وبمؤازرة قوة عسكرية من حلفائها الكرد في شمال شرقي سوريا، فماذا ستفعل بعد إخراج «داعش» من الرقة؟ وماذا سيكون موقفها اذا ما اصرّت الحكومة السورية وحلفاؤها على مواصلة القتال حتى خروج آخر جندي اجنبي من سوريا، سواء كان امريكياً أو اسرائيلياً؟

الجواب يتوقّف على ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة وتركيا و»اسرائيل» في سوريا من جهة، ودول محور المقاومة وروسيا من جهة اخرى. هاكم بعض الترجيحات:

الولايات المتحدة، في ظل دونالد ترامب، ما زالت على تحالفها المتين مع «اسرائيل» وتواطئها معها ضد كل مَن تعتبره مناهضاً لها، أو متعاطفاً مع تنظيمات المقاومة في عالم العرب. إلى ذلك، هـي ضالعة في مخطط استعماري- صهيوني قديم يرمي إلى تفكيك سوريا والعراق ولبنان، إلى كيانات قبلية واثنية ومذهبية متنازعة. في هذا الاطار، ستثابر واشنطن على دعم قوات الكرد السوريين الانفصاليين الساعين إلى إقامة كيان للحكم الذاتي، أو دويلة في شمال شرق سوريا. كذلك تدعم واشنطن إقامة كيان «سنّي» يضمّ محافظات سورية وعراقية، أو اقساماً منها ممتدة على جانبيّ الحدود بين البلدين. إن الامعان في اعتماد هذه السياسة قد يحمل واشنطن على التباطؤ في مقاتلة «داعش» و»النصرة»، وفي سحب قواتها من سوريا والعراق لحين الفراغ من إقامة الكيانات المصطنعة المأمولة.

تركيا، في ظل رجب طيب اردوغان، ستثابر على محاربة اقامة كيان كردي انفصالي على حدودها الجنوبية، بالتنسيق مع روسيا، كما يُستفاد مما رشح اخيراً من قمة بوتين – اردوغان. وقد تجد نفسها في صراع مع الولايات المتحدة اذا ما اصرّت ادارة ترامب على دعم الكرد الانفصاليين.

«اسرائيل» ستتفادى، على الارجح في الحاضر والمستقبل المنظور، شنّ الحرب على المقاومة (حزب الله) في لبنان بسبب حال توازن الردع القائمة بين الجانبين. ولعلها ستثابر، تفادياً لتكبّد خسائر سياسية واقتصادية، وتداركاً لمخاطر تنامي قدرات اطراف محور المقاومة،على اعتماد وسائل «الحرب الناعمة» ضد لبنان وسوريا والعراق وايران، بعناصرها الثلاثة الفاعلة: الفتنة المذهبية السنيّة – الشيعية، العمليات الإرهابية النوعية المنفذة بواسطة تنظيمات إسلاموية مأجورة، وبناء حلف معادٍ لايران وحلفائها، قوامه دول عربية واسلامية محافظة واخرى معتدلة.

سوريا والعراق سيثابران، بدعمٍ من ايران وروسيا، على اعتماد نهج الكفاح لاستعادة وحدة البلاد الجغرافية والسياسية، بمقاتلة «داعش» واخوته لغاية إجلائهم عن المناطق التي سيطروا عليها، وتطوير العلاقات بينهما ومع كلٍ من ايران وروسيا وترفيعها إلى مستوى تحالف سياسي وعسكري واقتصادي متين، ودعم قوى المقاومة العربية ضد «اسرائيل» كما ضد التنظيمات الانفصالية.

تنظيماتُ المقاومة العربية، اللبنانية والفلسطينية والسورية والعراقية، ستثابر بدورها على تطوير قدراتها العسكرية وترفيعها تكنولوجياً في وجه «اسرائيل» وحلفائها الإقليميين.

ايران ستدعم حلفاءها سياسياً وعسكرياً، مع محاذرة الانزلاق إلى حرب مكلفة مع خصومها الإقليميين. غير أن كل ما سبق بيانه من معطيات وتحركات سيؤدي غالباً إلى اطالة أمد الصراعات التي تعصف بمعظم دول الإقليم.

حروب المشرق العربي مستمرّة ومستعرة، فهل يجري في حمأة نيرانها المستشرية في مختلف انحاء سوراقيا ترسيمُ حدود جديدة ملتبسة لسايكس- بيكو؟

كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى