صفحات الناسوليد بركسية

حروب المطبخ تُخرج أحقاد الشرق الأوسط/ وليد بركسية

 

 

تختفي السخافة المفترضة في حروب الطعام والمطبخ المنتشرة أخيراً عبر مواقع التواصل. فالمعارك التي انطلقت قبل أيام بين أهالي الجنوب وأهالي البقاع في لبنان، امتدت إلى الدول المجاورة، التي تعاني أصلاً من حروب أهلية دموية، لتعبر في مستوياتها كلها عن أحقاد مناطقية وقبلية متوارثة عبر أجيال، وكأن الحمض النووي للمنطقة يحتوي عاملاً وراثياً مشتركاً يحافظ على تلك الأحقاد حية كشعور جمعي لا يمكن إلحاقه بسبب منطقي واضح أصلاً.

وإن كان الطبخ بحد ذاته فناً نبيلاً وضرورة حياتية، تطورت ببطء عبر التاريخ البشري، وتحول في ما بعد لغة مشتركة لجمع الناس وتقليل الخلافات، إلا أنه أفرز في الشرق الأوسط، وحده دون سائر الكوكب، تأثيراً جانبياً، حيث تحول المطبخ إلى ساحة للحرب الأهلية تترسخ فيه الأحقاد القديمة بصورة رمزية لإثبات الأفضلية والشعور بالرضا عن الذات ضد الآخر، حتى لو كان الطرفان ينتميان الى دولة واحدة.

لا يتعلق الأمر هنا بمسألة البحث عن هوية ذاتية أو انتماء، لأن ذلك الانتماء المناطقي- القبائلي هو المحدد لمحبة طبق على حساب طبق آخر، وهو المحدد أصلاً لشن الهجوم على أطباق المناطق الأخرى، وتحقير شأنها باعتبارها محدداً ثقافياً يتبع للمنطقة الأخرى “العدوة”، ويصبح الأمر شديد الوضوح عندما يتعلق الأمر بمحبة طبق من معسكر العدو، لأن تلك اللذة المحرمة تمتلك بلا شك جذوراً محلية، أو أن الطبق نفسه مسروق، خصوصاً وأن الأطعمة في الشرق الأوسط متشابهة إلى حد كبير في نهاية المطاف، من ناحية الأسماء والنكهات وتطورت تاريخياً بفعل عوامل كثيرة، وأثرت ببعضها مع استنادها إلى أساس واحد مشترك، يرتبط في النهاية بالمنتجات المتوفرة طبيعياً.

والحال أن المعارك المتوارية خلف روائح التوابل وأبخرة البهارات تنقسم في نهاية المطاف وفق محددات الكراهية المناطقية التقليدية التي تمتد لمئات السنوات، وربما أكثر، كالصراع الحلبي- الدمشقي الذي لطالما كان محدداً هوية سوريا الحديثة التي تضم المدينتين المتنافستين تاريخياً على الزعامة في شرق المتوسط، وصولاً إلى محددات كراهية أكثر حداثة تتنافس فيه المدينتان في “لذة الطعام” ظاهرياً مع مطبخ اللاذقية أو مطبخ الساحل. كما أن النأي بالنفس عن هذا الصراع يأخذ شكلاً مناطقياً كأن يكتب أحدهم: “نحن أهل السلمية بناكل كتب”.

الذاتية الفردية مفقودة في كامل السياق، رغم أن تفضيل طعام على حساب آخر مسألة فردية بحتة، لكن المعارك بشكلها الحالي تشير من زاويتها إلى المقدار الضئيل للحرية الفردية في دول الشرق الأوسط حيث تسيطر العقلية القبائلية والعصبيات على تفاصيل الحياة، وحيث مازال للمجتمع البدائي هيمنة طاغية على تفاصيل الحياة اليومية لأي فرد، حتى في البيئات الحضرية حيث يفترض وجود حد أدنى من التمدن.

والحال أنه لا مجال للشعور بالشفقة أو الأسف على هذا الجو العام، لأن هذا النوع من المجتمعات الشوفينية لا يستحق بذل جهد ضئيل للتعاطف مع حالته أو محاولة التمايز عنه أو خلق الرغبة لتحسينه في المستقبل.

ولا مجال للاندهاش أيضاً لأن المشهد نفسه يتكرر يومياً في الأحاديث اليومية، سواء أكانت متعلقة بالمطبخ أو بأي شيء آخر، كما أن محاولة الرحيل عنه لا تفيد أيضاً لأن النقاشات نفسها تتمدد عبر الفضاء الإلكتروني وتكرر ذاتها إقليمياً. فالسوريون في تركيا على سبيل المثال كانوا طرفاً نشيطاً في المعارك التي ركزت على خط تقسيم عرقي هذه المرة يتنافس فيهما المطبخ التركي ضد المطبخ العربي في المشهد العام وصولاً إلى معارك أكثر تفصيلية تدور بين المطبخ التركي والمطبخ الحلبي أو الدمشقي أو البيروتي.

في أستراليا، تساهم الحكومة في تمويل برنامج “ماستر شيف أستراليا” الشهير، وظهر عدد من الوزراء وأعضاء الحكومة في حلقات البرنامج باعتباره أداة مهمة لتحقيق الاندماج في دولة هجينة يشكل فيها المهاجرون واللاجئون نسبة كبيرة من عدد السكان. وينظر للطبخ هناك على أنه أداة للتعريف بالثقافات “الأجنبية” من أجل أنسنة الغريب، وتحقيق التقارب وتسريع الاندماج، لأن أي أسترالي حتى لو كان مسلمة محجبة آتية من الشرق الأوسط أو مهاجراً فقيراً وصل عبر زورق من دول جنوب شرق آسيا، أو رجلاً أبيض يعود نسله إلى الذين تم نفيهم من أوروبا قبل قرون، هم في النهاية بشر يتقاسمون الحاجات الأساسية نفسها، ولا ينبغي الخوف منهم أو نبذهم.

تلك هي القيمة الأساسية التي ينقلها فن الطعام وما يحمله من مشاعر ذاتية، لا مجتمعية، لصاحبها عبر أطباقه المفضلة المرتبطة بإحساسه الخاص وذكرياته اليومية. وهي القيمة الأساسية التي لا تتوفر في حالة حروب الشرق الأوسط اليوم، وإن كانت حرب التوابل الجارية لا تقتل مثل الأسلحة التقليدية والأسلحة المحرمة دولياً التي يتم استخدامها في دول المنطقة المضطربة كسوريا واليمن، إلا أنها تبقى تعبيراً عن الشد العصبي المحرك للأحقاد التي تغذي تلك الحروب أصلاً. وهو ليس تعبيراً وضيعاً حتى لو كانت الثقافات المحلية للدول المقسمة على ذاتها فشلت في تقديم أي منتج/ مجال آخر يمكن الصراع عليه ثقافياً.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى