صفحات الرأي

حروب بديلة/ سليمان تقي الدين

عندما لا تكون حروب الدول ممكنة أو تتوقف لأسباب عدة خاصة بأطرافها، تقوم هذه الدول بإدارة حروب بديلة في منطقتنا. لبنان، العراق وسوريا أمثلة واضحة على ذلك. تنطلق القوى الخارجية من مشكلات وأزمات داخلية وتتولى تغذيتها واستثمارها. منذ نصف قرن نشهد حروباً متنقلة ومتنوعة شغلت العرب عن مواجهة تحديات التقدم. هناك علاقة عضوية بين الحروب والتخلّف، بين آليات العنف واستقرار الدول والمجتمعات وتطورها.

حجبت الأنظمة السياسية طويلاً مشكلاتها الداخلية وصادرت إمكانات البحث في وسائل التنمية الاجتماعية. حين انفجرت هذه الأزمات واجهت ثلاثة تحديات هي: تكوين اجتماع متخلّف، ثقافة سياسية وبنية متخلّفة، وأشكال واسعة من التبعية للخارج. نحن في عالم عربي نتحدث عن كتل من العشائر والقبائل، وعن أرياف غير مندمجة في الدولة، وعن مدن تلفّها أحزمة البؤس والعشوائيات، وعن اقتصاديات زراعية تقرّر مصيرها أحوال الطبيعة وتقلباتها. نتحدث عن نسبة عالية من الأمية والبطالة، عن انفجار ديموغرافي شبابي وهجرة داخلية وقوى استهلاكية تضغط على مدن غير مؤهلة بالخدمات.

كما نتحدث عن دول قامت على وظيفتين أساسيتين هما: الأمن والتسلط السياسي. وحين تدخلت في الاقتصاد والتنمية ألحقتهما بالوظائف السياسية والإيديولوجية وبمعايير الولاء والتبعية والخضوع لأطر سياسية شعبية خاوية من أي مضمون. فالانتماء إلى حزب الدولة هو المدخل الأساسي لكل نشاط اجتماعي وشرعيته، وهو السلّم الأبرز للترقي الاجتماعي. تحوّل المجتمع إلى نظام من «الملل» الحديثة أو «الطوائف» ذات الوظائف السياسية والثقافية والهويات. يشترك العالم العربي كله بهذه الظواهر من حيث سيطرة الدولة على تشكيل المجتمع. فإذا كانت الدولة ريعيّة أو بيروقراطية عسكرية أو حزبية ذات عصبية طائفية جهوية وعائلية، فهي السالب الأهم لمعاني الحرية، وهي ليست التجسيد الأمثل لفكرة العمومية ولركائزها القانونية التي تحوّل المجتمعات إلى شعوب.

فالشعب هو مفهوم قانوني وليس مفهوماً واقعياً فقط. في السياسة أي في دولة القانون تتبلور هوية المواطن كعضو في جماعة هي الشعب. حين تكون هذه العلاقات مختلّة فالشعب هو شعوب أو جماعات تبتكر لنفسها هويات وعلاقات تضامن وسلطات، بما في ذلك أن تجعل من أفكارها حاكمة على المسار السياسي والسلوك الاجتماعي. الطائفة تصدر قرارها وفكرتها، والجماعة السياسية تريد أن تسيطر بثقافتها، والمؤسسات الدينية رسمية أو غير رسمية، تصدر فتواها وتحصّنها بالقداسة الدينية. فلا يمكن لشعب أن ينوجد فيه هذا الحجم من مرجعيات التفكير والسلطة والتحكّم ما فوق سلطة الدولة. لا نستطيع إيجاد معادلة «شعب ـ دولة» إلا إذا أزيحت هذه «المرجعيات» التي تسيطر على المجتمع من خارج منظومة سياسية واحدة لها قواعد قانونية. فقدت الشعوب أو الدول أو المجتمعات العربية هذه المعاني الأساسية «للسيادة». سيادة الدولة على كيانها، وسيادة الشعوب (السيادة الشعبية) التي تعبّر عنها من خلال المؤسسات الدستورية. فلا سيادة حيث المرشد يتولى السلطة العليا، أو الشيخ أو الكاهن، على الضمير الفردي أو الجماعي وأكثر وأخطر على قرار الدولة.

صحوة الإسلام السياسي أو ثورته أو تصديه لمشكلات الدولة هي «ثورة سلبية» بكل المعاني. من شأنه أن يهدم أو يسقط أنظمة أو حكومات ولكنه يصادر سيادة الدول والشعوب. لم ننتج أحزاباً «مسيحية ديموقراطية» لأننا لم يسبق أن أقمنا الدولة بداية فصارت الأحزاب إحدى القوى المحرّكة أو المؤثرة فيها. نحن اليوم أنتجنا حركات سياسية تطمح إلى بناء دولة دينية فتعيدنا حتماً إلى مسار الحروب الدينية والطائفية. ولا مجال للمفاضلة بين نموذج وآخر إلا بمقدار بسيط هو حيث اكتملت مسبقاً مكوّنات الدولة وظلت هي الحاضن الأساسي للمجتمع. عند ذاك يمكن للحركات السياسية أن تقيم توازنات جديدة من دون أن تهدم كيان الدولة.

ولأننا مجتمعات تخوض معركة بناء الدولة في مضمون ما قامت لأجله الثورات العربية، ولأننا نحمل مواريث سلبية كثيرة خرجت من الظل إلى النور، ومن المكبوت إلى المعلن، فإن هذا المخاض معقد وطويل ومتعدد العناصر والقوى. لكنه مخاض لا يمكن إعادته إلى معلبات الأنظمة والطوائف ما دامت قواه الاجتماعية تريد جواباً على مشكلات إنسانية حقيقية لا جواباً إيديولوجياً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى