صفحات سوريةعلي جازو

حزبٌ علمانيّ في بلدتنا الصغيرة !


علي جازو

قرابة الساعة الحادية عشرة، اكتملَ اجتماعُنا المفاجئ والضروري. لم أتلقّ أي نبأ عن الموعد من قبل، لكنني سبق أن علمت بالفكرة. صعوبة الوقت الذي يمر علينا منذ أشهر، تجعل الأفكار تأتي من كل صوب، تسيل وتشتعل، تفور داخل الرؤوس ثم تتبخّر أمام العيون.

كنتُ نائماً. رفعتُ رأسي بمشقة. أول ما صدمني كان البرد. التصق بعيني ويدي وجبيني، وبسبب حاجتي الملحة إلى الدفء، نسيتُ علبة الدخان، ولا أدري كيف ارتديتُ ملابسي. كنت مثل من يستعد ليركض فوراً، بدوتُ كمن قُبِضَ عليه فجأة، وكانت البلاهة الصفة الوحيدة التي يمكن رؤية آثارها الجميلة على وجهي الناعس البائس!

أثناء سيرنا المتعجل في طريق منحدرة صوب جسر الوادي القديم، خشيت من أن النوم سيظل مرافقي، وأنني أنحدر داخل النوم لا غير. أخذني صديقي على عجل كما لو أنه يودّ التخلص على الفور من مهمة إخباري بأمر الاجتماع الطارئ، وعناء جلبي ومرافقتي إضافة إلى شرح يوجز الغاية من الاجتماع. كانت حماسته وتلهفه أثناء الطريق دليلاً إضافياً على عمق رغبة التخلص. حقاً كان يود تخلصاً مزدوجاً، وفي هذا كسب للوقت الهارب من عينيه وراحة بال يندر الحصول عليها في أيامنا الملعونة.

أعلم انعدام ثقته بأية محاولة تتعلق بالشأن العام، السياسي بخاصة، بالواجبات والضرورات الحركية، لكن بدا له أنني ربما الأصلح لتولي المهمة. شجعني وحرضني على العمل المتوقع الذي سيكون شديد الأهمية، فالبلاد تتغير على نحو غير مسبوق، وعلى المرء أن يتحرك بسرعة، أن ينجو مثل فأر خائف. لا أشك في صدق نيته، لكنني لم أجرؤ على إخباره انني فقدتُ الثقة بنفسي. كان ذلك بمثابة إنهيار للهالة التي وضعني داخلها، ولم يكن بمقدوري رمْيُه إلى اليأس الذي استولى عليّ، فأنا هادئ وحكيم، متواضع وطيّب، ولا ينبغي لطيّب مثلي أن يحطم معنويات أحد، خاصة أنها الوحيدة التي يعتمد عليها المرء في وقت لم يعد للأفكار غير المعنوية أية قيمة، فالناس أقرب إلى أبدان ميكانيكية منهم إلى عقول تفكر وتقارن وتتأنى وتحذر الطيش، الحقيقة الوحيدة التي بإمكانها إذا ترسخت أن تكون العرف العام الجديد، ويبدو أننا أقرب إليه من أي وقت مضى.

كان النهار قليل الغيوم. ريح الجنوب المغبرة رفعت من طيات قميصي المجعدة. كنا خمسة. مهندس منهك بسبب ضغط العمل وطلبات أصحاب البيوت الجديدة، وطبيب يخفي ريبة دائمة بدوافع البشر، وأنا الذي لا أعرف كيف أصف نفسي خارج حياة الكسل المهينة، وناشطان سياسيان، أحدهما كان مقاتلا ظن أهله أنه استشهد لكنه عاد إليهم بعد ست سنوات، ثم تزوج، وأخذ يذرع مثلنا شوارع بلدتنا الصغيرة الفقيرة. أشك في قيمة العدد وحساب الساعات، لا يهمني هكذا شأن أبداً. لذلك ربما أفشل دوماً في تدبر شؤون عيشي. القذارة الروحية تلهمني تبريرات خائبة، إذ أن الروح أمر غريب على الأرض. الروح، يا لها من كلمة عسيرة على الهضم . لم أنم كفاية ليلة أمس، والنداء الملح أيقظني، أخذني بسرعة إلى موعد هام! تساءلت في الطريق، وكان فمي جافاً وبطني خاوية، والثقل البليد يكاد يجمد رأسي، إذا ما كانت لي رغبة في الحضور، لكن الحرج منعني من التراجع. الحرج وعدم الظهور بمظهر الخائف أو المتردد أمام أصدقاء يتوقعون منك الحزم ورجاحة الرأي. أخذت علبة دخان جديدة. غدا مصّ السجائر طريقتي الوحيدة في التنفس. قلتُ: ما الضرر في الإصغاء، طالما أن الأمور الآن ساخنة جداً وأن لرأي المرء قيمة.

خمسة شوارع قصيرة كانت كافية للقاء العجيب! كان المكتب ضيقاً، وضوء النهار الخافت يغطي كرسياً أعتمه جلوسي عليه. وبسرعة تم تحضير القهوة، وتبادل السجائر المهربة. التهريب سمتنا الوطنية الحقيقية الوحيدة. جرى الحديث أولاً عن افتتاح مراكز لتعليم اللغة الكردية في “عفرين” و”كوباني”، كذلك تم افتتاح المركز الثقافي الكردي في قامشلو، فتذكرت على الفور المبنى الأبيض الجميل في “نصيبين”، حينها رد عليّ الناشط الحزبي السري، وهو رجل قصير بشوارب سوداء أقرب إلى ملصق أسود يلمع فوق شفتيه الصغيرتين منه إلى خيوط الشعر العادية التي تميز شارب المرء عادة، أن مركز قامشلو لا يمكن مقارنته بمركز “ميتاني” في نصيبين، فالأخير يعود بناؤه إلى جهد البلدية التي تترأسها امرأة كردية رصينة وذات مستوى تعليمي متقدم. أضاف أن مركز قامشلو صغير ومتواضع، لكنه يمثل بداية جيدة لاستعادة الوجه الكردي للمدينة. ثم تتالى الحديث عن المستوى المنحط الذي بلغته مدينتنا الصغيرة، وعن ضرورة بذل جهد أهلي واسع لإنقاذها وتحريرها العقلي. همست لنفسي: العقل..! لم أكن مقتنعاً بما يردده الرجل، لكنني احتراماً لالتقائي به أول مرة، وتأكيدا مني على ترك مسافة بيني وبينه، لم أعلق على آرائه، واكتفيت بأني مناصر للعلمانية لأنها الوحيدة التي يمكن أن تذكر الناس بكونهم بشراً قبل أن يكونوا أصحاب أديان أو أبناء قوميات. ثم بدا الهدف الخفي من الاجتماع الخريفي. كان يفترض وجود حياة حزبية جدية وجديدة في البلد، ومن الشروط التي وضعها قانون الأحزاب ألا يقبل وجود حزب ذي خلفية دينية أو قومية، وأرتأت قيادة الحزب السرية أن نشترك في حزب علماني لكننا سننفذ سياساتنا القومية من خلفه، وفي هذا مصلحة شعبنا القومية. وافقت على الأمر، ورحت أتخيل اجتماع حزبنا الجديد هذا، رغم يقيني أن لا حزب ولا فكر ولا عقل مرّ على هذه البلاد يوماً.

قال الرجل ذو الشارب اللصيق إن الحزب يحتاج حتى يتأسس لعضوين من مدينتنا، وقد وقع الاختيار عليّ لأكون أحدهما. لم أرفض، كنت ولم أزل متردداً لكني لم أرفض. بعد الظهر ندمت على حضوري الاجتماع، فأنا لا أعرف أي شيء عن الرجل، رغم أن الذي صحبه واحد من مقاتلي الحزب القدماء، وقد شجعني حضوره على الموافقة، أو إنني بالأحرى خجلت من الرفض بسب وجود هذا الشخص بالذات.

على هذا النحو المتعجل المضحك تم اختياري لتأسيس حزب علماني جديد في البلاد. الآن أطلق الصوت الخائب، لكن الحقيقي الذي يمثل خوفي وضعفي: نسيان الانتماء واجب الإنسان. أعلم أنني ضد هذه الخلاصة اليائسة، لكن الانطلاق من غير احترام العقول اليائسة نوع من الغرق في جهد لن يكون سوى الإحباط نهايته الوشيكة.

على المرء ألا ينسى أن العزلة صنعت من الأوهام ما لم تصنعه قرون من الكذب، أن العزلة إذ تتمكن من قلب المرء يغدو التنقل خارجهاً ضرباً من الموت العام، الموت الذي لم يعد مخيفاً أبداً، ذلك أنه الخلاص الوحيد لمن فقد الثقة بنفسه قبل أن يفقدها بسواه. يبدو أن المجتمع في حاجة إلى التنظيم، بحيث أن أي فرد لا يمكنه البقاء خارج التنظيم.

لكن قوة الفوضى القادمة من يأس امتد لعقود ثقيلة، هي التي تدفعنا إلى بذل جهود خرافية، نحن أبناء هذه البلدة الصغيرة التي يخفي أهلها وجوههم في جيوبهم الفارغة، نحن من ينبغي عليهم دفع ثمن أشياء إجبارية ما كانت لنا بالحسبان: التنظيم، والتعاون. حياتنا قبل التنظيم كانت أفضل وأيسر؛ فقد أدار الناس شؤونهم دون الغرق في التفكير بأمور مجردة، مبهمة: العلمانية واحدة منها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى