صفحات سورية

حزب البعث والمادة الثامنة


خورشيد دلي

مع تواصل الأزمة السورية واشتداد حدة التظاهرات المعارضة للنظام وفي الوقت نفسه سعي النظام إلى إصلاحات تنقذه من الانهيار, برز إلى سدة المشهد السياسي السوري جدل كبير بشأن المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع, وهي المادة التي سمحت للحزب بممارسة الحكم والسلطة والإشراف على المؤسسات ووضع الإستراتيجيات العامة للبلاد منذ نحو أربعة عقود.

لعل ما زاد من الجدل بشأن هذه المادة تلك التصريحات التي أدلى بها الأمين القطري المساعد للحزب سعيد بختيان مؤخرا, والتي قال فيها إن المادة الثامنة خط أحمر وتأكيده بأنه لا إلغاء لهذه المادة إلا من خلال مجلس الشعب (البرلمان)، في حين أن الولاية الحالية للبرلمان انتهت.

كما أنه في ضوء القانون الانتخابي المعمول به حاليا لا يمكن إلغاء هذه المادة، نظرا لأن القانون يضمن 126 نائبا للبعث من أصل 250 أي أكثر من نصف أعضاء البرلمان بما يعني عدم إمكانية حصول أي مشروع قانون على نسبة ثلثي الأصوات المطلوبة لتمرير المشروع عبر البرلمان إلا إذا وقف البعث ضد نفسه.

المادة الثامنة والسلطة

لقد تحول حزب البعث العربي الاشتراكي بموجب المادة الثامنة من الدستور التي أقرت عام 1973 إلى حزب سلطوي, فقد انغمس في السلطة ومفاتنها، وتغلغل في مفاصل الدولة وتحكم بسياساتها وأشخاصها وهياكلها ومؤسساتها العامة, وتدريجيا بدأ يتحول من حزب قومي يتطلع إلى التحرر والوحدة العربية والاشتراكية وفق شعاره المعروف (الوحدة والحرية والاشتراكية) إلى حزب مسيطر على الدولة, يقوم بتأطير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية بالتعاون مع الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها.

ومع الزمن تحولت القيادة إلى نظام سياسي قائم على آليات محددة يقود الحزب من خلالها الدولة بدلا من تكون الأخيرة مؤسسة حضارية أكبر من أي حزب سياسي بغض النظر عن أيديولوجيته ومشروعه السياسي لا أن تكون تحت هيمنة الحزب وسيطرته أو أداة له.

وبسبب امتلاكه السلطة ومغانمها أصبح الانتساب للحزب للكثيرين جسرا لتحقيق المصالح الخاصة، طالما أن الطريق إلى الوظائف وشغل المناصب وحتى الحصول على فرص التعليم العالي بات مرتبطا بهذا الانتساب ويمر عبر العضوية في الحزب, إلى درجة أن البعض يرى أن هذه المادة أضرت بالحزب نفسه بعد أن أصبح مقياس اقتراب الفرد أو العضو منه هو المصالح الخاصة بدلا من الأفكار والسياسات والبرنامج السياسي.

تعليب الحياة العامة

في غمرة الأحداث الجارية, ثمة قناعة بأن الإصلاح لا يستقيم في ظل هذه المادة, فهي تحقق نوعا من الاحتكار السياسي الذي يتنافى مع مفاهيم المساواة في العمل السياسي والعلاقة بالجماهير والمؤسسات وفهم الدولة والنظر إليها كمفردة في السياق التاريخي لتطور المجتمعات ووعيها بالحرية وممارستها على أرض الواقع, وإلى جانب هذه القناعة ثمة تصور بأن بقاء هذه المادة لم يعد قضية إصلاح بقدر ما هو تعبير عن أزمة نظام بعد أن تم بناء الآليات السياسية الداخلية وقيادة مؤسسات الدولة انطلاقا منها.

في الواقع, في ظل مطالبة المعارضة وحتى العديد من الأوساط السورية بإلغاء هذه المادة, لا بد من التوقف عند النقاط التالية:

1- انطلاقا من قواعد العمل الديمقراطي في الحياة السياسية تقتضي المساواة في فرص المشاركة في الحياة العامة إلغاء هذه المادة, ويرى العديد أن عدم إلغائها يتناقض مع ما سبق ويقف في وجه الإصلاح والتغيير والانتقال إلى مرحلة جديدة لا احتكار سياسيا فيه لحزب, والبعض يستغرب رفض إلغاء هذه المادة طالما أن عدد أعضاء حزب البعث يقارب ثلاثة ملايين شخص, ومثل هذا الرقم كاف للفوز في أي انتخابات عبر صناديق الاقتراع, فلماذا الخوف من إلغاء هذه المادة؟

2- ثمة قناعة بأن قانون الأحزاب المنتظر لن يكون مقبولا وعصريا ويحقق الغاية المطلوبة في ظل هذه المادة أو حتى تعديلها, فالحياة السياسية والعامة في البلاد لم تعد تقبل هيمنة حزب على آخر مهما كانت الأسباب والمبررات, وليكن صندوق الاقتراع هو السبيل إلى السلطة والقيادة والتعبير عن الجماهيرية والوعي بالحرية وممارستها.

3- إن الإمكانية القانونية لإلغاء هذه المادة عبر مجلس الشعب تتطلب قانونا انتخابيا جديدا ينهي صيغة الحصص المسبقة ويتيح المجال للتنافس انطلاقا من البرنامج السياسي لكل حزب وسياساته وعلاقته بالجماهير وتطلعاتها ومطالبها وهمومها وخياراتها.

4- إن إلغاء هذه المادة بات يتطلب دستورا جديدا للبلاد, لا يلغي هذه المادة فقط بل جميع المواد المرتبطة بها، ولا سيما المادة 83 التي تعطي الحق الحصري للقيادة القطرية لحزب البعث بترشيح شخص ما إلى منصب رئاسة الجمهورية عبر مجلس الشعب، ليعلن الأخير موعد الاستفتاء عليه وليس الانتخاب كمفهوم يقوم على التنافس بين عدة مرشحين على أساس البرنامج السياسي لكل مرشح.

وقد برزت من خلال الممارسة العملية للحياة السياسية مجموعة من الآليات المرتبطة بالمادة الثامنة التي عملت جميعها على تفريغ مفهوم الانتخاب كمفهوم يتحدد من خلال الصندوق الانتخابي إلى حالة أشبه بالتعيين المسبق للأشخاص في المراكز القيادية لمؤسسات الدولة والمنظمات التابعة لها, كمنظات الطلائع والشبيبة والطلاب والعمال والفلاحين والأطباء والمحامين والصحفيين.

بل إن ممارسة النشاط في بعض هذه القطاعات (الشبيبة والطلاب) أضحت حقا حصريا لحزب البعث العربي الاشتراكي ومنظومته الثقافية والفكرية والسياسية, وهكذا طغى الحزب على الدولة ثقافة وتنظيما ومجتمعا, بينما بات الحزب يعتقد أن كل ذلك حق تاريخي مكتسب أو حتى إلهي له.

أزمة مادة أم أزمة نظام

في الواقع, أفضت الممارسة العملية الطويلة لهذه المادة في الحياة العامة لا إلى تعليب الحياة السياسية في البلاد وافتقادها إلى التعددية الحقيقية وحق الاختلاف وغياب الرأي الآخر فقط, بل أدت أيضا إلى تكلس مؤسسات الدولة والمنظمات المرتبطة بها أيضا.

فالمجتمع الذي يضم كل الأطياف والمشارب اختفى وراء الحزب, وبات الحزب سلطة يتماهى مع الدولة كمؤسسة ويتشابك معها إلى درجة أنه أصبح أقوى منها من خلال تدخله في تحديد تركيبة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي من المفترض أن تنظم الحياة العامة من خلال القانون والمواطنة كانتماء للدولة وليس الحزب.

فضلا عن أن الحزب هو من يحدد هرم الدولة عموديا وأفقيا, فأمين فرع الحزب في كل المحافظات السورية هو من يجسد السياسة العليا للدولة وليست المؤسسات الأخرى التي تمثل الدولة ومن المنوط بها إدارة الحياة العامة وتنظيمها وتحقيق التنمية ومشاركة المجتمع في مختلف النشاطات على أساس من التعايش السلمي لا إقصاء هذا المكون السياسي أو ذاك تحت مسميات وشعارات غلفت بالاشتراكية والقومية, وقد نتج عن هذه الممارسة تقههر المجتمع المدني وغيابه بل واختفاؤه من المشهد العام.

وهكذا فان الدولة كصيغة عقد اجتماعي متفق عليه بين سائر القوى السياسية الموجودة لم تعد قائمة فعليا, بل أضحت مؤطرة في الحزب وسلطته والمنظمات التابعة له بموجب المادة الثامنة ومفاعليها.

وعليه لا يمكن النظر إلى أزمة هذه المادة كمجرد مادة دستورية وجدت في ظرف أو مرحلة تاريخية ما وتحت مبررات سياسية محددة بقدر ما يمكن النظر إليها كأزمة نظام من منظار الأزمة الجارية حاليا, لأن المطلوب ليس إلغاء هذه المادة فحسب بل تداعياتها على الدولة كمؤسسة ومفهوم ووظيفية ودور.

وكذلك على المجتمع بتنوعه وتعدده وحركته وروحيته وهويته العامة, كي يتم الانتقال إلى مرحلة جديدة وعقد اجتماعي جديد ينظم الحياة العامة في البلاد على أسس عصرية وديمقراطية.

إن المادة الثامنة لم تكن مجرد مادة دستورية أعطت لحزب البعث سلطة أطرت الدولة والمجتمع فحسب بل مصدر منتج ومفرخ للأزمة الحالية طالما ألحقت الدولة والمجتمع بالحزب وليس العكس, فيما الدولة كمفهوم وسياق ونظام عام لا يستقيم مع هذه المادة ومفاعليها.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى