مراجعات كتب

حسن طارق: مثقّفون في عصر النهايات

 

 

الدار البيضاء – عبد المومن محو

هناك من يرى بأن المثقّف ينتعش عادةً في لحظات الالتباس والصراع. قد تتقاطع هذه الفكرة، إلى حد ما، مع عودة سؤال محوري عن دور المثقّف في ظلّ التباسات الفكر والواقع التي تطبع وظيفته ومهامه في المجتمعات العربية. إنها عودة إلى إشكالية مزمنة في الفكر العربي؛ هي إشكالية المثقّف والسياسة، خصوصاً مع التحوّلات السياسية التي عرفتها المنطقة بعد أحداث “الربيع العربي”، ابتداءً من 2011.

في هذا الخضمّ، تحدّث البعض عن عودة مفهوم الالتزام النقدي لوظيفة المثقّف، كما استعار آخرون، من جديد، مقولة استقالة المثقّف وغيابه عن قضايا المجتمع، فيما اعتبر البعض الآخر أن جزءاً من أدواره ومهامه أضحت موكولة إلى فاعلين جدد من قبيل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال الحديثة.

في كتابه: “المثقّف والثورة: الجدل المُلتبس. محاولة في التوصيف الثقافي لحدث الثورة”، الصادر مؤخّراً عن “منشورات دفاتر سياسية”، ضمن “سلسلة نقد السياسة”، يحاول الأكاديمي والسياسي المغربي، حسن طارق، رصد حضور الثقافي في دينامية “الثورات العربية”، عبر بحث علاقاتها المفترضة مع الفكر العربي المعاصر، ومع أفكار النهضة.

يتم ذلك، بحسب ما جاء في مقدّمة الكتاب، “من خلال تتبّع مخرجاتها الدستورية، في علاقة مع انفجار سؤال الهوية والانتماء الثقافي، ومن خلال تحوّلات الأبعاد الثقافية للثورات بين لحظة الساحات العمومية والميادين، وبين لحظة اليوم التالي للثورة. ثم من خلال انشغالات المثقّفين بأسئلة ما بعد الانفجار الكبير لعام 2011”.

انطلقت الدراسة من فرضية قابلية “الثورات العربية” للقراءة الثقافية باعتماد عدّة مداخل أساسية؛ يتعلّق الأول بمفارقات ثقافية يستدعيها سؤال المثقّف والثورة، ويتعلّق المدخل الثاني برصد تقاطعات الثورة مع قضايا الفكر العربي، بينما يرتبط الثالث بالبحث عن الأثر الثقافي للثورات، فيما يتّجه الرابع نحو قراءة ثقافية للمخرجات الدستورية التي أُنتجت في سياق الثورة. أما المدخل الأخير فيتعلّق بتتبّع الأسئلة الثقافية لما بعد الثورات، كما برزت، على الأقل، من خلال إنتاجات مثقّفين غربِيين.

يشدّد الكاتب على أن تمثُّل حدث الثورة كمفاجأة إستراتيجية تقع خارج أفق انتظارات الفكر العربي بمختلف تياراته، ولّد سلسلة من المفارقات المتعلّقة بالموضوع، أوّلها ارتباط الثورة بغياب “المثقّف الثوري”.

ويذهب إلى أن التفكير في سؤال المثقّف والثورة يفرض تجاوز صورتين جاهزتين ومتكاملتين، تفرضان نفسيهما كجوابين حاسمين عند استحضار السؤال المذكور؛ الأولى تتعلّق بصورة متخيَّلة لمثقّف مخلِّص يتقمّص روح الأمة وبطولتها، والثانية ترتبط بفكرة عامّة وسهلة سائدة حول انسحاب المثقّف. ثم إن المفارقة الثانية تمثّلت في مجيء الثورات في سياق سادت فيه فكرة الإصلاح داخل الفكر العربي المعاصر، لأن “مسار تطوّر الأفكار السياسية العربية، إلى حدود زمن الربيع العربي، ظلّ يوحي بأن الثورة قد آلت إلى الإخفاق؛ إخفاق في فهم ذاتها، وتاريخها، ومجتمعها الخاص”.

في هذه الحالة، تخلّت النخب العربية بيسارييها وقومييها وإسلامييها، في الغالب، عن تصوّرات التغيير الثوري، وأصبحت أميْل إلى تبني مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني والانتقال الديمقراطي.

أمّا المفارقة الثالثة، فتتجلّى في قدوم الموجة الثورية العربية، في زمن أرخت على مناخه الأيديولوجي فكرة النهايات؛ منها نهاية المثقّف نفسه، انطلاقاً من تأثير التوجّهات الكبرى التي ميزت فكر ما بعد الحداثة القائل بأن زمن السرديات الكبرى (التقدّم، التنوير، الثورة… ) قد أفل.

يرى المؤلف بأن حديث النهايات هو خطابات لا يمكن النظر إليها إلا كدعوة أيديولوجية متجدّدة، فهي من أي موقع انطلقت تعبّر عن أيديولوجيا، وتتطلّع تطلعاً أيديولوجياً. وهذا يعني أن تلك الثورات لم تكن بعيدة عن الأيديولوجيا بالمعنى الذي تحمله هذه الأخيرة كمنظومة من الأفكار والقيم والتمثّلات المشتركة نحو العالم.

الثورات العربية، وإن حدثت في زمن المفارقات التي أشار إليها الكاتب، فإنها مع ذلك لم تنبثق “انطلاقاً من قطيعة مع كل التراث النهضوي العربي، بمشاريعه الإصلاحية وتراكماته التاريخية ومرجعياته المتعدّدة، وأسئلته الحرجة حول تجاوز التأخّر التاريخي للمجتمعات والدول العربية”. لكن هذا لا يجب بالقطع أن يغيِّب ضرورة التساؤل عن كيفية إعادة النظر النقدي في تحديد وتجديد مفاهيم مشروع النهوض الحضاري العربي، مثل: الأمة، الدولة، الوطن، الديمقراطية، الهوية.

اشتغل المؤلّف، أيضاً، على الأسئلة الثقافية لما بعد الثورات، من خلال استعراض سؤال استكمال معارك الإصلاح والتحديث في كتابات المفكّر المغربي كمال عبد اللطيف، كما تطرّق إلى سؤال استئناف مشروع نقد الأيديولوجيا العربية المعاصرة في كتابات المفكر التونسي سهيل الحبيب.

على أن حسن طارق ذيّل كتابه بالدعوة “إلى استحضار الدرس الأول للمفكّر عبد الله العروي؛ من خلال التفكير في الحاجة المستمرة والضرورية إلى الثورة الثقافية، التي وحدها يمكن أن تسند أقوى حالات التحوّل السياسي، حتى لو اتّخذت صيغة ثورات عاصفة، أطاحت بالأنظمة والمؤسّسات”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى