صفحات الرأي

حصاد نصف قرن من بناء الدولة القومية المقاومة والمجتمع القاصر والمتصدّع

 

الحرب الأهلية السورية الواحدة… مُهمة أخفقت وأمل طوي

وضاح شرارة

عشية انقضاء سنتين كاملتين على ظهور حركة الاحتجاج السورية وخطوتها الأولى بدرعا ودمشق، ينفجر عنف متعاظم على جبهات قتال وطني عام استقر على خنادق ملتوية، جغرافية وأهلية، تصل الاراضي السورية من أدناها الى أقصاها تقريباً. وتحبط الخندقة والجبهات نازع القتال والحرب “الحديثة” أي التقليدية التي تخوضها دول مركزية، والشعبية التي تتقاتل فيها جموع وجماهير من الطبقات والجماعات كلها وتزج فيها بموارد الدولة والأمة – الى اللقاء الكبير الحاسم أو المنازلة العظمى وأم المعارك، وهو اسمها العربي القح الذي أحياه صدام حسين وبعثه. فتستقر الحرب، إذا جاز الكلام على استقرار وعلى حرب واحدة، على ما لا يحصى من الاشتباكات اليومية وأعمال الهجوم والمدافعة والكمائن وقطع الطرق والقصف والاستيلاء على حواجز وأجزاء قواعد وغزوات تأديبية وانتقامية ومجازر وخطف… وتتولى حروبَ الخنادق والجبهات المحلية والأهلية قوى وجماعات توحدها وتجمعها وتفرقها وتقطع روابطها، معاً وفي آن، مصالح وعداوات وأحوال مشتركة، على جبهتي خطوط القتال، ومقيدة بمواضعها ومحالها ودوائرها في المرتبة الأولى.

و”الاستقرار” الظاهر، وهو تعصف تحته معارك وصراعات واجتياحات طاحنة، إنما يحمل على هذا المعنى قياساً على حسم قاطع يقلب الدولة والمجتمع السوريين رأساً على عقب، انتصر النظام العشائري البيروقراطي أم انتصرت “الحركات” التي قامت عليه وبدت في أول أمرها (وكانت ربما) حركة مدنية ووطنية وديموقراطية جامعة. ومنذ خطوات الحركة الأولى استعجل أصحابها، ومعهم النظام وكثرة المعلقين والمراقبين، خاتمتها ونهايتها الواضحة والباهرة. فأصحاب الحركة، والمبادرون إليها عفواً او عمداً، لم يشكوا لحظة في دلالة قيامها السياسية والتاريخية القاطعة بعد نصف قرن من إناخة الليل البعثي والأسدي الحالك على السوريين وصدورهم وعقولهم وإرادتهم ولغاتهم. فحسبوا، وحسب معهم كثر في سوريا وخارج سوريا، أن مجرد المبادرة الى التظاهر والاحتجاج عَرّى، من غير شك أو تردد، الدمية المتسلطنة من خرقها ومرقعتها وأصباغها الفاقعة. وظن رأس النظام، وهو جسده المتقمص، أن الأجهزة المتشابكة والمتراكبة التي صرف نصف قرن على إنشائها، وتعطيل تعارف السوريين المتنازعي الأهواء والمصالح واللحمات من غير واسطتها، هذه الاجهزة لن تعدم الصمود في وجه الريح الخفيفة التي تهب على غير توقع، وحرفها عن قصدها، وقصرها على حادثة أمنية على غرار حوادث لا تحصى صبغها النظام الملتبس والمعقد بصبغته المحيرة والمضللة.

وأما المعلقون والمراقبون، ومنصاتهم الاعلامية والاخبارية والخطابية والاتصالية، فأيقنوا، في ضوء الاجتهادات العربية القريبة، أن وتيرة انقلاب الانظمة وسقوطها هي مرآة وربما ثمرة عامل إعلامي واتصالي محموم أو صداه المحكوم باللحاق به وترديده. وبعض من مالوا الى حركة السوريين غلبت عليهم خشية ترجحها وارتكاسها، وانفضاض الناس عنها، إذا هي لم تبدد النظام فجأة ومرة واحدة على نحو خروجها من “العدم” السياسي الذي سبقها، وقيد خطواتها الاولى ولا يزال يحول بينها وبين التماسك. ومعظم من مالوا الى النظام العشائري والبوليسي حملوا ترجح الحركة على عجز مزمن، ولا شفاء منه، عن مدافعة النظام المتين والقوي والمتماسك. وهؤلاء طعنوا في اعتداد الحركة بنفسها، وطلبها فوق طاقتها، قبل طعنهم على فوضاها وتبعيتها لـ”خارج” هو “إله” الشر والضلال، على رغم التوحيد والتعبد به.

عقيدة التوازن

وسرعان ما تبلورت عقيدة التوازن المطمئنة. وصار القول ان النظام عاجز عن الحسم شأن المعارضة، لازمة لا تستقيم مقالة في المسألة السورية إلا بالتعريج عليها، والإقامة بين ظهرانيها. وانعطف منها قائلون أن التبعة عن المراوحة أو الترجح إنما تقع على عاتق القوى الغربية، وانتظارها ومراقبتها، أو على عاتق القوى “الشرقية” (روسيا والصين وإيران) المتواطئة والضالعة في الأزمة، أو على السلاح، كثيرة على ما يرى النظام وقليله على قول المعارضين. وليس التعليل بقوة النظام العسكرية ونواته المرصوصة، وبتشرذم المعارضة المسلحة والسياسية وتناحر “مكوناتها”، بحسب المصطلح العراقي الذي يغزو لغة تخاطب السوريين السياسية، أقل التعليلات رواجاً ونفوذاً.

ولا تتستر التعليلات، وهي أو عملها ليس التستر بل التسويغ، وتقريب الفظائع الى العقل والمنطق والمشاعر، وإعدادها (العقل…) لقبول الفظائع الآتية لا محالة. ومع ارتقاء العنف الظاهر- وهو يوزن في كفة أعداد القتلى (50 ألفاً قبل تشرين الثاني، في 60 ألفاً طوال الاشهر الثلاثة التالية، و70 ألفاً منذ اسبوعين أو ثلاثة…) والجرحى والنازحين على عدّاد الأرقام الدولية “المدورة” يوقَّع الكلام في السياسة، أو الدعوة الى اقتراح “الحلول” السياسية، الانقلاب من رقم كبير وفظيع الى رقم أكبر وأفظع. فقول فاروق الشرع قبل نحو الشهرين أن الحل سياسي وليس عسكرياً، ويقتضي تسوية تاريخية ركنها طي صفحة الماضي الاسدي طياً محكماً، هذا القول كانت مناسبته أو ذريعته بلوغ عدد القتلى خمسين ألفاً. و(بعض) مناسبة اقتراح معاذ الخطيب مفاوضة أركان “دولة” بشار الاسد، والشرع على وجه التخصيص، على الخروج من بحر الدماء السورية الى بر السياسة، إعلان العدَّاد الدولي بلوغ الـ60 ألف قتيل. وقول وليد المعلم، وزير خارجية بشار الاسد، في موسكو أن الحوار لا يستثني “من يحمل السلاح في يده” (كيف “يحمل” السلاح؟) ربما يخفف من هول الـ70 ألف قتيل.

وفي كل مرة يفشل فيها التلويح بـ”الحل” السياسي يستعر القتال، ويرتقي مستوى أو صعيداً أعلى من القتل والدمار والتهجير والحصار قبيل قصف حلب بصواريخ أرض أرض سكود ب في 21 شباط المنصرم اضطرت قوات بشار وماهر حافظ الأسد الى إخلاء قاعدة تفتناز والطبقة (مركز التحكم في السد الكبير على الفرات) وجزء من دير الزور وجزء من قاعدة عسكرية كبيرة بين حلب وإدلب، وحاولت “تأمين” داريا الوشيك للمرة المئة في أقل من شهر واحد، وخسرت السيطرة على طريق مطار دمشق، وغداة قصفها انفجرت السيارة المفخخة بنحو طن وبعض الطن من المتفجرات قرب مكاتب الحزب الحاكم والسفارة الروسية بدمشق. فقصفت حلب مرة ثانية، وقصفت أحياء شرق دمشق وجنوبها، ومستشفى في درعا.

والوقائع العسكرية والسياسية السورية تنم منذا بداياتها الحركية، وعلى الاخص منذ الاشهر السبعة أو الثمانية الاخيرة التي كانت “معركة” حلب فاتحتها ثم محاولتا توحيد فصائل الجيش الحر في الداخل وتمثيل المعارضة السياسية في الخارج، ببعثرة أو شرذمة تضرب عللها ومسوغاتها في طبقات التاريخ الاهلي والاجتماعي السوري العميقة والقريبة معاً. فخرجت الى علانية الحوادث والنزاعات صدوع الكيان السوري الكثيرة والفاغرة. وهي صدوع استفرغ حافظ الاسد وخالفه السلالي، وجهازهما المتصل والمتناسل، وسعيهم وجهدهم في إلباسها ظاهر حلة الدولة القومية والمرصوصة والمتصدرة الحربَ على الصهيونية وأميركا بينما هم (حافظ الاسد…) يذكون انكفاء الجماعات والطبقات والاجهزة والمناطق على كتلها وأهوائها ومصالحها الأنانية. فخالفت علانية الحكم والسياسة المتماسكة والمستقرة والقوية، “بواطن” المجتمع المتصدعة والمتنازعة والمتداعية. ولكن هذه المخالفة اندرجت في مراوغة وتشبيه عربيين كبيرين وثقيلين أخرجا المنازعة والخلاف من الاجتماع السياسي والوطني وأوكلا الى السلطة المستولية التمثيل على وحدة (معنى) الأمة وروحها ووجدانها. وأطلقا يد السلطة في مكافحة النزاعات واستئصال تظاهراتها وعباراتها وقواها، ونفيها من مادة العلاقات السياسية والاجتماعية وقسرها على صمت لا قاع له.

وغذى الميراثُ الناصري، الشعبي أو الجماهيري فوق السياسي والرسمي، واتصالُ “الكفاح” الفلسطيني في المهد (الى الهرم) بأسطورة خلاصية هزيلة ومحصنة من الفحص، وتربصُ الإحياء الاسلامي بالروابط السياسية والاجتماعية الحديثة، غذت هذه المراوغةَ والتشبيه العربيين والعروبيين. فأرسيا الدولة، وكيانها الحقوقي والسياسي، على رأس قومي وعصبي آلي وأفرغ “الرأس” الدولة، وكيانها الاجتماعي، من غددها الحيوية، وصبَّرها مومياء “الى الابد”، لا تفعل بديهة إلا ما “يصنعه الله”. ولا تزال جماعات عريضة من السوريين، “نخباً” و”عامة”، أسيرة المراوغة والتشبيه العروبيين ومضمراتهما وقيودهما.

حرب الدولة

ولعل الجمع بين علانية “الدولة” القومية العصبية وبين البواطن السياسية والاجتماعية المتصدعة، والتستر على هذه بتلك، هما (الجمع والتستر) ما أدى دوراً أو أدواراً راجحة في عسر تعرف السوريين، أفراداً وجماعات أهلية و”أحزاباً” سياسية واجتماعية وإيديولوجية، على محاور مشتركة ومتصلة. فصدور حركة السوريين (أو حركاتهم) القسري والملزم عن مباني الاجتماع السياسي الاسدية، وقطباها علانية عصبية واحدة ودواخل متصدعة ومخلعة، هذا الصدور جدد إواليات عمل المباني ومفاعيلها. ومن القرائن على انبعاث الاواليات حمل التدخل الخارجي على انتهاك السيادة الوطنية “المطلقة” (على خلاف حمل المجلس الانتقالي الليبي طلب التدخل العسكري والاجنبي على قرار سيادي وسياسي حر)، وإيجاب شعب سوري عربي متجانس والطعن على الروابط الائتلافية والفيديرالية ومحاكاة قيادة سياسية واحدة وآمرة حيث البعثرة المحلية والأهلية والقومية والايديولوجية هي القائمة والغالبة، واستعجال المركزية الوطنية الصورية، وتوهم جواز معركة حاسمة قريبة، وغيرها مثلها. واشتراك الطرفين، الحكم والمعارضة، في بعض هذه القرائن قد يكون برهاناً على صدورهما عن أحوال واحدة، على رغم افتراقهما على معايير العمل وأحكامه وغاياته.

ولم يتخلف النظام البيروقراطي والعشائري الاسدي، طوال العقود الاربعة الى نصف القرن من الاستيلاء، مرة واحدة عن إثبات توأمته الوثيقة والحميمة مع العنف المعنوي والمادي. وهو أنزل تفريق “الصديق”، أي الولاء الاعمى والاصم والاخرس، من “العدو”، وهو غير المولى على هذا النحو اضطراراً في احيان كثيرة، منزلة المعيار السياسي والاعتقادي غير المنازع. فمزج السلم الاهلي بالحرب الاهلية والخارجية، وسعى في دمجهما المعنوي ان لم يكن المادي. وعلى هذا، فخروجه الارادي الى الحرب الفعلية الاهلية، وهي حربه المتاحة الوحيدة الى الآن، احتذى على شاكلة سياسته وسيطرته في وقت السلم. وجاءت حربه مجيء امتداد سياسته العصبية واستئنافها بـ”وسائل عنفية” قد لا يصح القول فيها انها “وسائل اخرى”، على قول المعادلة المشهورة. وتمردت حربه على (ظاهر) دولته وسيطرته المستتبتين والمدنيتن. وخرج، هو الحاكم المطلق اليد في رعيته، على رعيته شاهراً مدفعيته الثقيلة وقنصه وسلاح جوه وعصاباته المسلحة وحصاره على السوريين غير الآمنين، وعلى الجوار القريب. وشن على كيان الدولة السورية المادي والمعنوي والاهلي حرباً أرادها صاعقة، على المثال الهتلري، وأحالتها يقظة السوريين وعصبياتهم حرب خنادق ملتوية وطويلة الامد.

وعلى مثال “حرب الشعب الطويلة الامد”، الصينية الماوية أو الفيتنامية الجيابية (من جياب “زميل” هوشي منه العسكري)، وعلى خلافها ونقيضها، يخوض الاسد الثاني ورهطه الأقربون حرب دولة نظامية ورعاعية طويلة الأمد على السوريين وجماعاتهم وأريافهم ومدنهم ومواصلاتهم ومرافقهم ومواردهم. وعلى المثال المعكوس نفسه، تتوالى الحملات وفصولها على مناطق وبلاد يثور فيها أهاليها وينضمون الى “الثورة” ويوالونها، ويحاولون إدارتها قبل ان يضطرهم القصف الميداني والجوي الى إخلائها والجلاء عنها أو تدخلها جماعات مسلحة وتستولي عليها، وتقتسمها، قبل أن تكرر حرب الدولة النظامية سيرتها فيها، فيخليها أهلها ويهجرونها الى “لجا”، على ما يسمى المعزل الدرزي الحوراني في الجنوب السوري، هو من مخلفات أراضي الاقليم الوطني السابق. ويؤدي هذا الضرب من حروب الخنادق والجزر الملتفة والمتقطعة، والمتصلة على صورة الارخبيلات الداخل بعضها في (أجزاء) بعض، الى ما لا يحصى من الاشتباكات والهجمات والمدافعات والاحتلالات والجلاءات الموضعية والمحلية الجزئية. وشيئاً فشيئاً توارى أفق الحرب الواحدة، ولو أهلية، وتبدد شظايا غارات كثيرة لا تحصرها سياسة مشتركة أو متضافرة. وقوات النظام نفسها، على رغم القوام البيروقراطي المركزي والهرمي المفترض، انحلت “ألوية”، على ما تسمي قوات المعارضة المسلحة نفسها، وجيوشاً وفرقاً، بعضها أهلي خالص، وبعضها مختلط، وبعضها “جلب” إما من دولة أو من طائفة مذهبية، ومقترض ومستعار، وبعضها يخوض حرباً تقليدية، وبعضها الآخر حرب غوار، وبعضها الثالث حرب سلب وفتح، وبعضها الرابع حرب مطامير ومدافعة في ركن حصين من قاعدة عسكرية…

واتصلت الاعمال الحربية، والقوى أو “الألوية” والكتائب التي تخوضها في دوائرها وجزرها وارخبيلاتها المضطربة والمتحركة، بجوار اقليمي كثير الادوار والوجوه بدوره. والجوار الكثير أرض نزوح ولجوء، ومصدر سلاح ومال ومقاتلين، وحصن حمايات، وأنفاق إنعامات ومصارف تسديد. وتحقق هذه الحال مثالاً اختبرته الحروب “الاهلية” والثورات العربية قبل الحرب الثانية وبعدها: فهي حروب طويلة تلابس فصولها ومسارحها وقواها الاقاليم العربية المتفرقة، والجماعات الاهلية، وتستمدها شطراً غالباً من مواردها، وتضطر الى موازنة سياساتها وميولها ومصالحها، وتعصى الجمع والتوحيد والتركيب. فلا سبيل بهذه الحال الى التعويل على الاستنزاف و”مزيج العنف والصبر المرهق” الذي وصف به فرانسوا ميتران الفرنسي نهج حافظ الاسد في المرآة اللبنانية يومذاك. ففي وسع المقاتلين، الى أي “حزب” أو صلب انتسبوا، انتظار المدد، غير الصوفي، من مصادر قد يحتسبونها وقد لا يحتسبون. ويطيل هذا آماد الغارات والغزوات، ويستنزف قوى ويجددها، ويبعث أو يسّوي قوى غير متوقعة. ويخرج الى الملأ وعلى الملأ “أحشاء” الاجتماع والجماعات، على قول جان جينيه في ضحايا صبرا وشاتيلا الفلسطينيين واللبنانيين في أيلول 1982. فالحرب الاهلية السورية الواحدة على جهتي جبهة متصلة شأنها، اليوم، شأن الدولة العربية والعروبية الاسدية: طيف علانية متوهمة، ورداء مزركش ترميه السياسات الدولية ومصطلحها الكاذب على أشلاء “جسد” سوري فقد صورته وتعريفه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى