صفحات الرأي

“حصوننا مهددة من الداخل”:تحليل المادة التربوية لجماعة الإخوان المسلمين/ ساري حنفي

 

 

 

في إحدى جلساتي مع أحد قياديي حركة حماس، بُحْتُ له أن حركة حماس التي تفاعلت مع الديمقراطية كنظام سياسي من حيث التجربة في الأراضي الفلسطينية والخطاب، لم ينعكس تفاعلها على قناعات مريديها بتطوير خطابهم السياسي باتجاه تبنّي هذا المفهوم، وربطه بالمفهوم الإسلامي الشورى بدلاً من النظر إليه بريبة. وعندما دافع هذا القيادي عن وضوح الرؤية على كل المستويات في الحركة، بينت له أن ذلك لا يظهر في بعض نتائج تحليلي لوسائط الإعلام الاجتماعية، حيث تظهر مواقف مؤيدي حركة حماس فقط وليس من القيادات. سأنتقل من هذه القصة إلى التساؤل عن إمكانية تفسير هذه المُفَارَقَة؟ قد يسارع يساري بالقول إن هناك تقية في خطاب الإسلاميين: فهم يتظاهرون بتبني الديمقراطية بينما لا يؤمنون بها.

أعتقد أن الخطاب السياسي، عربياً وعالمياً، مليء بالتقية، ولا يوجد استثناء للحركات السياسية ذات البعد الديني. دعوني في هذه الدراسة أقتراح افتراضاً آخر، وهو اختلاف بين براغماتية خطاب القيادات من جهة، وصرامة التنشئة الفكرية للقاعدة الحركية من جهة أخرى. لفحص ذلك سأقوم هنا بتحليل مضمون المنهاج الفكري الذي تتدارسه حركة الإخوان المسلمين في الكويت وأصدرته اللجنة العلمية بمؤسسة الكلمة 2008، تحت عنوان “زاد الأخيار”.

سأبدأ أوّلاً بتوصيف هذا العمل التجميعي، ثم أشرح الدلالات وأبني الأبعاد الفكرية بشكل نقدي، مستخدماً مقاطع سردية من هذا النص المرجعي.

وصف زاد الأخيار

يتجاوز زاد الأخيار 2400 صفحة، وهو مؤلف من أربعة مجلدات: في كل مجلد مجموعة فصول (بحدود 23 فصلاً)، يتراوح كل فصل بين 20 إلى 40 صفحة. ويتكون كل فصل من: أولاً، مادة ملخصة من مؤلفات كتبها مفكرون كانت لهم علاقة بالإخوان (الشيخ القرضاوي ومحمد قطب ومحمد الغزالي، وغيرهم) إلى كتاب إسلاميين وفقهاء، وكتاب آخرين، وخاصة في ما يتعلق بالقسم العلمي وكيفية التعامل معه (القسم الخامس). ثانياً، أمثلة في أغلبيتها الساحقة هي من زمن الرسول (ص) والصحابة والتابعين الأوائل. ثالثاً، عوضاً عن خاتمة، تمت إضافة “ما يستفاد من الموضوع”. وأخيراً المراجع التي لخصت مادة الفصل منها. هذا ولم يضف أي اتساق منهجي في التبويب. وقد برر المحررون أن ذلك قد يسرب الملل للقارئ. (ج 1 ص 9).

ومع أن هذه المجلدات موجهة إلى دعاة الإسلام الشباب، فهي تباع للعموم، إضافة إلى أنها منهاج موجه على نحو أساسي لأعضاء الإخوان المسلمين في الكويت، حيث هناك تكويت (جعله كويتياً) لبعض الفصول كما في فصل “حركة المرابطين”، التي نشأت بعد احتلال العراق للكويت. وليس من نافل القول أن أؤكد شفافية هذه الحركة، التي تضع منهاجها التربوي للعامة والخاصة في مكاتب يستطيع الاطلاع عليها من يشاء، وهذا تقليد يفتقده كثير من الأحزاب السياسية العربية.

وإذا أردنا التبويب المعرفي للموضوعات بالشكل المتعارف عليه في الكتب العلمية يمكن تقسيمها إلى ستة أقسام:

القسم الأول الحركي الإخواني: وفيه كل ما يتعلق بفكر الشيخ حسن البنا، مؤسس الجماعة، والأصول العشرين التي كتبها (عرضها وشرحها)، ونشاط حركة المرابطين في الكويت، والإنفاق في الدعوة، والأخوة في العمل الإسلامي، وشرعية العمل الجماعي، والأمن الدعوي، والثبات، واتقاء الشبهات، والدعوة الفردية، والنصيحة، والدعوة في الأسرة، وجور الداعي في مكافحة الفساد الأخلاقي، والوعظ العام، والعمل المؤسسي، وحول دعوة الإخوان (النشأة، الأهداف والخصائص)، وفقه الابتلاء، وتقييد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمصلحة ودرء المفسدة، والجوانب الإنسانية في المسؤولية القيادية. وكلها عناوين لفصول في هذه المجلدات.

القسم الثاني يتعلق بالعقيدة الإسلامية: حقيقة التوحيد، والوسطية، مبشرات بانتصار الإسلام، مدخل لفهم عقيدة السلف، حركة التجديد.

القسم الثالث يتناول بعض مظاهر التعبد والمظهر الفقهي: العبادة، صلاة الجمعة والجماعة، قراءة القرآن الكريم وحفظه، الإنفاق في سبيل الله، الطاعة، إحياء السنة، التقوى، الذكر، مدخل إلى تاريخ الفقه الإسلامي، الرخصة والعزيمة، منهج الرسول في التربية، الحكمة.

القسم الرابع، يتناول الجانب الأخلاقي: الأدب في جانبه السلوكي، الأمانة، الصدق، الاستشارة، الحماس، فن التعامل مع الناس، اللباس والزينة، الإيثار، التفريط في العمل اليوم والليلة، بر الوالدين، الثقة، الإخلاص، العفة والاستعفاف، أهمية الوقت، المحاسبة، علو الهمة، حسن معاملة الأهل والأولاد، أدب التنازع، الحوار أصوله وآدابه وفنونه، قوة الإرادة، الصبر، الشجاعة، التضحية.

القسم الخامس يتناول العلاقة مع العلم والتفكر: العلم فضله وآدابه، منهجية التفكير الموضوعي، فن القراءة، التفكر الإبداعي، الحق: معرفته وطرق الوصول له، أدب النقد.

القسم السادس مفاهيم نفسية، اجتماعية وسياسية: الشخصية الإسلامية، نفسية المراهق، الأسرة المسلمة، القوة والأمانة في الوِلايات، الولاء والبراء في الإسلام، الغزو الفكري، معركتنا مع اليهود، تطبيق الشريعة، الشورى.

كما نرى يشكل “زاد الأخيار” زاداً غنياً يمد أعضاء الإخوان بمادة معرفية ومعيارية تلمس كافة جوانب الحياة اليومية والفعل الاجتماعي والدعوي والسياسي الممكن. وغلبت العناية بالجانب الأخلاقي (الفصل 23) على كل الجوانب الأخرى، بما فيها الجانب الدعوي الحركي أو التعبدي والفقهي.

تحليل مضمون “زاد الأخيار”

يظهر واضحاً أن تنوع المفاهيم وغنى المادة ناتجان من عملية انتقائية مدروسة ومتقنة لأهم أدبيات المكتبة الإسلامية عبر تاريخ الحركة منذ نشوئها في مصر في عام 1928 وحتى 2008 (تاريخ الطبعة الأخيرة من الكتاب). وهذا التأثر عبر التاريخ والجغرافيا خلق نوعاً من تنوع التوجهات مع تعدد الفصول والمواضيع، فهناك تأثير سلفي واضح، وتأثير لإسلام كلاسيكي محافظ، ونفحات تجديدية ووسطية مهمة. ويظهر أن هناك غموضاً والتباساً وحتى تناقضات في بعض المفاهيم المتناولة في هذه المجلدات الأربعة.

التجديد والوسطية

أولاً، هناك تأكيد على الدعوة الوسطية، وهي دعوة مأخوذة من أدبيات القرضاوي. وينادي “زاد الأخيار” بتحقيق التوازن في شخصية المسلم بين الفردية والجماعية. والاستفادة من المنطق العلمي ونتائجه وربط الحقائق العلمية بالحقائق الشرعية الصريحة، فهذا، بحسب البنا، سبيل من سبل زيادة الإيمان. كما ينادي “زاد الأخيار” بالابتعاد عن الحماس غير المتزن في تقديس الأشخاص، وفي الانتماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هناك تجديد هام وتفصيلي بأهمية العمل الجماعي وشريعته، وشرعنة الانتماء للأحزاب والجماعات، كذلك رد على من هم ضد ذلك. كما أن هناك اجتهاداً في تقييد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمصلحة ودرء المفسدة، وتبني فكرة تدرّج تطبيق الشريعة الإسلامية واعتماد فقه الأوليات للشيخ القرضاوي. وقد استفاض “زاد الأخيار” بفصلين حول تاريخ حركة التجديد الإسلامي وتطورها وأهم أعلامها من عمر بن عبد العزيز إلى حسن البنا، مروراً بابن تيمية وولي الله الدهلوي (من الهند) ومحمد بن عبد الوهاب.

الإسلام الكلاسيكي

يمكن اعتبار كثير من آراء الفكر الإسلامي لحسن البنا كلاسيكية من حيث تناوله الإسلام، فهو يتناول كل مظاهر الحياة جميعاً ومن دون رسم حدود بينها وبين المجالات الأخرى التي يمكن أن تتولاها السلطة الزمنية. يقول البنا: “الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء” (ج 1 ص 117)، ولكن هذه الكلية فيها مجالات في الالتباس بين الديني والزمني. فإذا كان التشريع “في الحكومة الإسلامية مقصوراً على الأمور التي لم ترد فيها نصوص من الكتاب والسنة، وتسمية هذا التشريع “اجتهاداً” أفضل من أن يسمى تشريعاً، لأن المشرّع على وجه الحقيقة هو الله”، فهل يمكن استخدام كلمة القوانين؟ ويكرر “زاد الأخيار” أن الكتاب والسنة معصومان (مثلا، ج 2 ص 562)، من دون شرح ما معنى العصمة واعتبار أن فهم النصوص جلي. إذا، هذه المفاهيم مخالفة لمنهج مقاصد الشريعة الذي يعتبر ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة خارج الكليات، ويخضع لأسباب نزوله. وبشكل عام هناك اقتصار في تعاليم حسن البنا على الكتاب والسنة فهو لم يذكر بقية أدلة الأحكام كالإجماع والقياس والاستحسان. (ج 1 ص 498).

وربما من مواصفات هذا الإسلام الكلاسيكي نبذه للفرقة بين المسلمين، وخاصة الشيعة. فالشيخ البنا يعتبر أن “الخلاف الفقهي في الفروع ليس سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل حب الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب” (ج 1 ص 118)، بل إن الخلاف في الفرعيات “أمر ضروري لاختلاف العقول البشرية التي هي الطريق لفهم النصوص” (ج 1 ص 213). وضمن سياق نبذ الفرقة، ذكر “زاد الأخيار” دعوة المرشد الثالث للإخوان الشيخ عمر التلمساني “بوحدة فكرية إسلامية”.

ويتسم هذا الإسلام الكلاسيكي بعدم تعامله مع الواقع ومفاهيمه الجديدة. ففي عصر المواطنة يستعيد “زاد الأخيار” الأصول العشرين للبنا من دون تعليق على كيفية استخدامها في قرننا الواحد والعشرين. فالوطن “بالنسبة للمسلمين هو دار الإسلام” والجيش هو “الجيش الإسلامي الذي يرد عن الأمة المسلمة أعداءها الطامعين فيها والمعتدين عليها”. ودعوة الإخوان، حسب البنا، هي دعوة سلفية، صحيح أنها طريقة سنية وحقيقة صوفية، ولكنها صارمة وتكفيرية ضد من “أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذَّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال من الأحوال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر”.

وتشكل موضوعة “تطبيق الشريعة” حيزاً هاماً في الإسلام الكلاسيكي، وتتم معالجتها من دون إيضاح الحدود بين ما هو شرعي وما هو سياسي. وهكذا يصبح القانون الوضعي نقيض ما هو تشريع إلهي. ولتعميق هذه الثنائية يستشهد “زاد الأخيار” بفقيه فرنسي “زيس” الذي يعتبر القانون الوضعي معتمداً على العقل البشري، بينا تقوم الشريعة الإسلامية على الوحي الإلهي.

وهنا يتم نسف كل جهود العلماء والمجتهدين المستخدمين عقولهم في تأويل وتفسير النصوص الدينية واستخدام مقاصد الشريعة. ومع هذا، نجد انفتاحاً في “زاد الأخيار” إلى القبول بفكرة التدرّج في تطبيق الأحكام الشرعية، وقد سبقوا بذلك الشيخ الزحيلي الذي كان يرفض ذلك قبل أن يراجع نفسه وينشر كتابه حول هذا الموضوع في عام 2010. وكذلك هناك تأكيد على عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، مستفيدين من تلخيص كتاب القرضاوي حول هذا الموضوع “عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية”، فنجد بعض النفحات الاجتهادية هنا (ج4، ص 204-2010).

إلا أنني أتفق مع العضو السابق في جماعة الإخوان في الكويت د. إسماعيل الشطي في كتابه المهم “الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة” (الشطي 2013)، في نقد بعض المفاهيم الإخوانية حول تطبيق الشريعة، فالإخوان لم يقدموا مشروعاً عملياً لتطبيق الشريعة الإسلامية على أرض الواقع، إذ رفعوا شعار تطبيق الشريعة الإسلامية وما زالوا يلبدون خلفه، حتى لا ينكشف الغطاء عن الأزمة الحقيقية وراء تطبيق الشريعة الإسلامية. فبمجرد الانتقال من الشعار إلى المشروع ينكشف حجم الخلاف حول تحديد مفهوم الشريعة وكيفية تطبيقها، فلا يوجد هناك اتفاق موحد حول مفهوم الشريعة، هل هي فهم بشري ثابت لأحكام الدين؟ أم فهم متغير؟ وما الثابت فيها وما المتغير؟ وما المقدس فيها وما اللامقدس؟ (طلحا 2014)، وربما تشكل التجارب السياسية التركية والمغربية والمصرية الإسلامية مادة غزيرة للتفكّر في هذه القضايا، وهذا ما لم يعكسه “زاد الأخيار”، سواء بخصوص الجدل أو الدروس المستفادة من النجاح والفشل النسبيين لمثل هذه التجارب.

ويتبنى “زاد الأخيار” نظام الشورى، ويناقش مطولاً إلزامية الشورى، كما ينتهي إلى تبني ذلك رغم الاختلاف الفقهي حولها وذلك بحكم “تجربة الحركات الإسلامية”. ويبين مدى اختلافها مع مفهوم الديمقراطية. فهم يبدأون أولاً بأن التشريع لله وليس للشعب، ومن ثم أن اختيار أهل الشورى يكون من أصحاب العلم ومن يختارهم الشعب. وينتقدون الديمقراطية كونها تعتبر رئيس البلاد معصوماً وغير مسؤول، بينما في الفقه الإسلامي هو المسؤول الأول في الدولة، مستندين إلى الخليفة عمر بن الخطاب “لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها” (ج 4، ص 461).

ويتسم هذا الإسلام الكلاسيكي بأنه محافظ ويخشى من التغيير والانفتاح. ففي فصل العفة والاستعفاف، يعتبر “زاد الأخيار” السينما والمسارح ودور الرقص والغناء أماكن فساد ولهو يجب تجنبها، لأن “الغناء والمعازف من الأمور التي تثير الشهوات وتسبب انتشار الفواحش”، مستشهدين بقول لشيخ الإسلام ابن تيمية (ج 2، ص 209). فهل هذا صحيح أن السينما والمسارح تقدم المجون فقط؟

التسلف

يظهر تأثير واضح للشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أفكار “زاد الأخيار” في فصل حقيقة التوحيد، وخاصة في التأكيد أن “دعاء الموتى والمقبورين وأصحاب الأضرحة والمقامات والاستعانة بهم وطلب الحوائج منهم من شفاء المرضى وتفريج الكربات، وإغاثة الملهوف والنصر على العدو… هي من الشرك الأكبر من النوع الخفي” (ج 1، ص 68). وعرف الشرك الأكبر بأنه “الذي لا يغفره الله ولا يدخل صاحبه الجنة أبداً” (ج 1، ص 85). أما الحلف بغير الله، ولبس الحلقة والخيط، وتعليق التمائم والرقى (كلمات وتمتمات يعتقد قائلها بأنها تدفع عنهم الآفات)، النذر أو الذبح لغير الله أو الطيرة (التشاؤم من بعض الأصوات المسموعة أو الأشياء المرئية، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كسفر أو زواج أو تجارة) فهي من الشرك الأصغر (ج 1 ص 89-99). وهناك تفصيل كبير ضد التوسل لغير الله، مستشهدين بالشيخين محمد بن عبد الوهاب وناصر الدين الألباني (ج 2، ص 236-237).

ويُعرف المؤلفون الشرك الأصغر بأنه “من كبائر الذنوب التي يخشى على من اقترفها وأصر عليها أن يموت كافرا، إن لم يتداركه الله برحمته فيتوب قبل موته” (ج 1، ص 85). يُظهر هذا العنف التصنيفي، على غياب كلي للقراءة الفنومينولوجية لما يعنيه المؤمن عندما يلجأ إلى الدعاء والتمسح بأصحاب الأضرحة والمقامات أو النذر لهم، التي بينتها كثير من الدراسات السوسيولوجية، على أنها مجرد وسائط للتقرب لله عز وجل. فلا يعني بها المسلم بأية حال إشراك الإيمان بالله بالإيمان بهم. تشكل مثل هذه الاتهامات عنفاً رمزياً من النوع الفكري والنظري ضد كثير من المتصوفة. ولا عجب في “صفاء” هذه المادة المعرفية من كل فهم سوسيولوجي لتمثلات إيمان المسلم فهي مأخوذة ملخصة من كتاب “العقيدة الصافية للفرقة الناجية” للشيخ سيد سعيد عبد الغني، وهو من كبار السلفيين السعوديين.

ومن سمات التسلّف الشرح للقارئ ما هو الولاء والبراءة في الإسلام. فالبراء العملي “يكون بإظهار العداوة للكافرين والوقوف في وجههم، والتصدي لمغرياتهم، والبعد عن تقليدهم في أخلاقهم وأفعالهم وأعيادهم، واستحضار المفاصلة الشعورية بينه وبينهم، فلا يتأثر المسلم بأعرافهم أو تصوراتهم أو عاداتهم، ولا ينخدع بثقافتهم وأفكارهم وإلى غير ذلك من صور البراء” (ج 3، ص 497). والبراء من الكافرين، يكون في البراءة من اتخاذهم أنصارا وأعوانا من دون المؤمنين، والركون إليهم والاطمئنان لهم ومودتهم، و”الانخراط في الأحزاب: العلمانية أو الإلحادية كالشيوعية أو الاشتراكية والقومية والماسونية وبذل الحب والولاء لها”(ج 3، ص 510).

إذاً تتحول الطريقة التي يفهم بها “زاد الاخيار” البراءة إلى براديغم مناهض لمبدأ الإنسانية، وحتى المواطنة. وهناك اتهام بأن أي حزب ينادي بفصل الدين عن الدولة، أو أي حزب قومي، هو من الأحزاب التي ينبغي التبرؤ منها. يدفعنا هذا للتساؤل، كيف يمكن أن يكون هناك نائب كويتي في البرلمان من الحركة الدستورية، وهو يعتبر زميله الجالس إلى جانبه من حزب قومي كائناً يجب التبرؤ منه؟

هذا التنظير المأزوم للنظرة إلى الآخر في داخل المجتمع الإسلامي نجده أيضاً في فصل آخر حول الجاهلية، وكيف أنها ما زالت مستمرة في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا. ولكن للإنصاف فقد شدد “زاد الأخيار” على أن هناك انحرافاً في فهم وتطبيق مفهوم الجاهلية، ونتج ذلك عن وجود حركيين قد تعرضوا لكافة ألوان القهر والإذلال والتنكيل، مما جعلهم يكفرون مجتمعاتهم. ويبين “زاد الأخيار” كيف اضطر مرشد الإخوان المسلمين المستشار حسن الهضيبي لإصدار كتابه “دعاة لا قضاة” للرد على إسقاط مفهوم الجاهلية على المجتمع الحالي(ج 4، ص 287).

وفي عصر العولمة وتطور الشرائع الإنسانية (بخيرها وشرها)، ينتهي فصل الولاء والبراءة بفقرة حول العولمة: “يسود في العالم تيار العولمة الذي يقوم على انفتاح المجتمعات في جميع النواحي، ومنها الدعوة إلى تذويب الفوارق بين الشعوب، وإشاعة مبدأ التسامح بين الديانات، إلا أن الخطورة في سيادة هذا المبدأ ما يقع فيه من الخلل في قضية الولاء والبراء، عندما يصبح للكافرين مكانة في قلوب المسلمين، وقد يحدث التعاون معهم في غير مصالح المسلمين، وهذا مما ينافي مبدأ الولاء والبراء، وما انتشار العادات والثقافة الغربية بين شباب المسلمين إلا مظهر ضعف الولاء والبراء” (ج3، ص 514).

تؤسس هذه المفاهيم للآخَرِّية التي تنظر إلى غير المسلم بشكل ينافي إمكانية تلاقي الحضارات والاستفادة من بعضها البعض. ومن المفيد معرفة أن هذا الفصل اعتمد على كتاب “الولاء والبراء في الإسلام” لمحمد بن سعيد القحطاني، أستاذ العقيدة في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، وكذلك “في ظلال القرآن” لسيد قطب. ونتساءل هنا، كيف يمكن أن يشرح لنا هذا التفسير للولاء والبراء، لماذا استقبلت بعض الدول الغربية (ألمانيا والسويد) اللاجئين السوريين وهم في أشد محنتهم، ولم تفعل ذلك الدول الخليجية، بما فيها الكويت؟

وضمن هذا السياق يأتي فصل حول “الغزو الفكري” الذي يؤطر به النظرة إلى كل ما يأتي من الغرب على أنه مشروع مؤامرة لتدمير الإسلام، وهذه رؤية لا تاريخية للنتاج الغربي حول الإسلام واستخدام مفرط لمفهوم الاستشراق لإدوارد سعيد. فالنص يخلط منتجات بعض المستشرقين في القرون السابقة مع الكتاب المعاصرين ويضع الجميع في سلة واحدة. ومن ركائز الغزو الفكري “المبادئ والنظريات المعادية للإسلام مثل الديمقراطية العلمانية، والشيوعية والاشتراكية، والقوميات بأنواعها العديدة”، وكذلك الفلسفات مثل الوجودية والفوضوية، ليصبح من يتأثر بذلك غربياً. ومادة هذا الفصل هي ملخص لكتاب “الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام”، وهو نتاج البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1976 (ج3، ص 573).

وأخيرا، تتوج هذه إشكالية الآخرية في فصل كامل بعنوان “معركتنا مع اليهود” التي تظهر صراعاً غير تاريخي مع اليهود، أي أننا أمام سلسلة من الصراعات في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن هنا “خطورة السلام معهم” (ج4، ص 535). وبالتالي لا يوجد أي تمييز بين ما هو يهودي وما هو صهيوني.

الخاتمة

أظهر “زاد الأخيار” مخاضاً وتوترات بين ثلاثة اتجاهات فكرية وحركية: السلفية، والفكر الإسلامي الكلاسيكي، والفكر التجديدي الوسطي، ويظهر واضحاً التأثر الكبير بالسلفية والوهابية مقارنة بالاتجاهين الآخرين. وربما هذا ما يشكل “خصوصية الإخوانية” في دول الخليج، مقارنة بالبلدان الأخرى العربية والإسلامية. وحسب علي الزميع (الزميع 2018) يرجع ذلك إلى زمن بعيد، فقد دعا عبد الرحمن عبد الخالق (مؤسس الاتجاه السلفي في الكويت) السلفيين في بداية السبعينيات من القرن الماضي للانضمام إلى الإخوان. هذا وقد تَفعَّل التشابك والالتقاء الفكري والفقهي الواضح بعد لجوء الكويتيين إلى السعودية بعد الاحتلال العراقي لأرض الكويت. وفي مقابلة مع أحد قيادات “الحركة الدستورية”، يبين أن حركة الإصلاح (الإخوان) قد تطبعوا بطابعين: الطابع الكويتي الذي بنى ثقافة حوارية من خلال الدواوين، وطابع المجتمع الخليجي، عموماً، وهو مجتمع سلفي، والمركب فيه توفيقية غريبة. وفيما يلي سألخص أهم ملاحظاتي على “زاد الأخيار” بالنقاط الآتية:

– رغم أن هناك إشارات لإحياء الجهادية والموت في سبيل لله (ج 3، ص 52)، إلا أن “زاد الأخيار” قد تجنب الدعوة إلى العنف داخل المجتمع والنظام السياسي. وقلة الاستشهاد بسيد قطب، تبين أن حركة الإخوان تنفتح على أفكار مؤسسي الإخوان الأقل راديكالية من سيد قطب. وهذا يظهر توجهاً استراتيجياً لدى إخوان الكويت لتبني الطرق السلمية والحكيمة في نشاطهم الدعوي والاجتماعي والسياسي.

– يكاد يكون القسم الأكثر شمولاً وتفصيلاً هو أبواب الأخلاق. فهناك تشديد مهم على أهمية التحلي بالخلق الحسن. وربما يكون هذا أهم جانب من دعوة الإخوان. لكن هنا تكمن إشكاليتان في هذا الطرح: الأولى، أن الدعوة الأخلاقية فيها من القيم الإسلامية ذات الطبيعة الكونية (الصبر، الشجاعة، الإنفاق على المحتاجين، أدب النزاع)، وفيها ما هو تفسير ديني لقيم عاكسة لبيئة المجتمع المحافظ الكويتي وطبيعة الاقتصاد السياسي والنظام السياسي هناك. ففي الجانب الثاني، نلاحظ أن هناك أخلاقاً محافظة متشددة. أما الإشكالية الثانية، فهي تتعلق بتناول الأخلاق الإسلامية وكأنها معادية لأخلاق أخرى جاءت بها العولمة والثقافات المتعددة داخل المجتمع الواحد. وقد شكَّل ذلك تنافراً معرفياً يجعل من إمكانية إقناع المريدين أمراً صعباً، وربما يفسر ذلك الهوة بين التنظير والتطبيق. ففي هذا النص المرجعي تنشئة اجتماعية وتربوية نقشت في ذهنهم صورة سلبية عن الحداثة والغرب، لدرجة تجريم العلاقة بهما.

– هناك الكثير مما جاء به “زاد الأخيار” يظهر فقدان التفكير في أهمية تحيين بعض المفاهيم التي جاء بها أوائل مفكري الإخوان المسلمين وحتى الفقهاء. وتكاد تكون كل الأمثلة من عهد النبوة والصحابة والتابعين. وحتى السلسلة الزمنية لتأريخ جماعة الإخوان المسلمين قد توقفت في 1966، وهي سنة إعدام الشهداء سيد قطب ومحمد الهواش وعبد الفتاح إسماعيل. وإحدى فرضيات التوقف هنا اعتبار هذه الإعدامات بأنها لحظات تدشينية للمظلومية الإخوانية. وبدلاً من التفكر والتأمل في الأخطاء التي تم ارتكابها في تاريخهم الحركي (وهي أخطاء يمكن أن ترتكبها أي جمعية حركية أو حزب سياسي مهما كانت أيديولوجيته) هم يعتبرون أن ما حصل شيء طبيعي مرتبط، ببساطة، بالمحن والابتلاء. وهذا قد يشبه مفاهيم الانتصارات الإلهية لدى “حزب الله” التي منعته من التفكر في مآلات معاركه وعلاقته بالمحيط الذي يعيش فيه.

– العلاقة مع السياسي: هناك حذر شديد في النصوص من المسّ ببعض القوانين والأعراف المطبقة في مجتمع يحكمه نظام أميري. فمثلاً ضبط النهي عن المنكر باستخدام “اليد” في الأمور العامة هو لصاحب السلطة، “فليس لأحد من الرعية أن يقيم الحد على زانٍ أو سارق”. (ج 3، ص 417)، ويستجلب “زاد الأخيار” بعض الأمثلة عن كيفية تطبيق عملية إنكار المنكر في مناهج المدرسة والجامعة وذلك من طريق اتحاد الطلبة أو بتجميع تواقيع كثيرة.

– هناك موقف سلبي من الفلسفة ومن علم الكلام والنظر إليهما على أنهما مبعث للفتنة “بسبب استخدام المصطلحات الكلامية التي لم يأت بها الكتاب والسنّة إذ لم يدع الرسول (ص) الناس في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر” (ج 3، ص 443)، وكأن الفلسفة تختزل بذلك فقط.

عنونت هذه الدراسة من منهاج “زاد الأخيار” بـ “حصوننا مهددة من الداخل”، مستذكراً عنوان كتاب كنت قد قرأته، وأنا في أيام الصبا، لمحمد محمد حسين (1981). وإذا كان هذا الكاتب يشير إلى تهديد “العلمانيين” للمجتمع المسلم، فأنا أقصد كيف أن أداة التنشئة التربوية للإخوان في الكويت (زاد الأخيار) قد خلقت اغتراباً حقيقياً بين الواقع الذي يعيشونه اليوم، وأدبيات دينية عجزت بشكل أساسي عن مواكبة هذا الواقع، على الرغم من وجود تنظير على أهمية الاجتهاد والوسطية وإرساء أصول فقه الواقع. هذا الاغتراب ليس سببه الغرب و”غزوه الفكري” على حد تعبير “زاد الأخيار”، وإنما ما فعلته أيديهم. فالمسكوت عنه واللامحكي، في طي (2400 ورقة) التي تضمنتها المجلدات الأربعة أهم بكثير من المحكي. والسؤال الذي يطرحه كثير من المهتمين بصيرورة الانتفاضات العربية، هو كيف سيكون سلوك التيارات الإسلامية القريبة من الاتجاه الحركي الإخواني؟ فمثلاً، تكمن أهم تبعات الانتفاضات العربية على التيارات والحركات الإسلامية، في توضيح مواقفهم من مفهوم الديمقراطية كفلسفة وآليات. وفعلاً ظهرت وثائق وبيانات جلية بتبني النظام السياسي الديمقراطي (حزب النهضة التونسي، حزب العدالة والتنمية المغربي، حزب الحرية والعدالة المصري، حزب الإصلاح الجزائري واليمني، حركة حماس، البيان الختامي لجماعة الإخوان المسلمين السوريين في 2015، وثيقة الأزهر 2012، وغيرها). وظهرت تنظيرات وفتاوى جلية من بعض الرموز الإسلامية المؤثرة كالشيخ يوسف القرضاوي، رغم أنه لم يقم بأي نقد ذاتي لكتاباته السابقة المنددة بالليبرالية الديمقراطية (في كتابيه: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، أو الحل الإسلامي فريضة وضرورة). وما أجده هنا هو عدم قدرة هذا الانفتاح الفكري على ترجمته لأدبيات تربوية لمريديه. كنت أظن أن ثمة استثناءً لهذا التطور المهم، وهو المراوحة بين الالتباس إلى الرفض التام والتكفير لمفهوم الديمقراطية لدى الاتجاه السلفي (إضافة إلى الإسلامية الجهادية العنيفة – القاعدة وأخواتها). ولكنني أرى اليوم منهاجاً لحركة الإخوان في الكويت مليئاً بالالتباس والتناقضات والمسكوت عنه، يدعو إلى الاعتراف أننا أمام مستحقات مرحلة تتطلب جرأةً فكرية ونقداً أليماً لتجربة هذا التيار، والشجاعة في نقد بعض أطروحة الأيقونات الإخوانية، بمن فيهم مؤسساها الشيخان الجليلان حسن البنا وسيد قطب، بدلاً من التبني الكلي للأول والتهميش من دون نقد للثاني.

المطلوب وقف استجرار الماضي وأناقته وسماحة أخلاقيات أهله، والتوجه للشباب بإطار جديد يتعامل مع منتجات الحداثة والعولمة المفاهيمية: الوطن، المواطنة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، بما فيها ما يتعلق بالمرأة والطفل، الآخر غير المسلم في المجتمع المسلم، فصل الدعوي عن السياسي، الخ. يجب أن تفكر اللجنة العلمية في “مؤسسة الكلمة”، التي كتبت ولخصت التراث المعرفي الغني الإخواني والإسلامي، في ما إذا كان خطاب “زاد الأخيار” ينفع شباب اليوم الذين يمتلكون بصيرة عميقة للتدبير والنقاش السياسي، المؤهلين لخوض غمار الفعل السياسي على قاعدة من الإنتاجية الخلّاقة، والبحث عن أفق اجتماعي رحب وغني بالعدالة والديمقراطية. والتساؤل حول أهلية الخطاب لشباب أثَّرت عليه الانتفاضات العربية، وأغواهُم التغيير الديمقراطي والاجتماعي؟ وهل هذه المادة المعرفية المهمة تولد العقل السجالي الذي بشر به غاستون باشلار في مواجهة العقل “التكديسي”، حسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي. العقل السجالي هذا، الذي يعترف بوجود الآخر داخل التراث، والذي يسعى إلى محاورته على أسس علمية واضحة، بحيث يتيح عملية الأخذ والرد، حسن الإصغاء، ثم دحض الحجة بالحجة، وتقوية البرهان بالبرهان.

*أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت.

المراجع

الزميع، علي فهد. 2018. الحركات الإسلامية السنية والشيعية في الكويت. 1950 – 1981 (الجزء الأول). بيروت: دار نهوض.

الشطي، إسماعيل. 2013. الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة. الكويت: مكتبة آفاق.

اللجنة العلمية بمؤسسة الكلمة. 2008. زاد الأخيار. الكويت: دار الكلمة.

حسين، محمد محمد. 1981. حصوننا مهددة من الداخل. السادسة. دمشق: مؤسسة الرسالة.

طلحا، فوزية. 2014. “مراجعة كتاب “الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة”. مركز نماء (blog). 2014. http://www.nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=20474.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى