بكر صدقيصفحات سورية

حضر الصحافي وغاب الأسد/ بكر صدقي

 

في أول كلام منقول عنه، بعد انتخابه الفضائحي، يبدو بشار الأسد رجل حوار، وإن اختلف معنى الكلمة عن مألوفها. فهو لا يكتفي بمحاورة زواره الروس «الكثر» ومنافسه السابق في الانتخابات حسان النوري، بل كذلك موفد جريدة الأخبار اللبنانية سامي كليب، زوج مستشارة الرئيس الإعلامية التي كانت سرقت الأضواء في مؤتمر جنيف2 بابتساماتها، من غير أن يتعرض أي من زواره إلى تفتيش أمني. فالرجل مطمئن وواثق من نفسه. هذه هي الرسالة الأولى التي أراد الصحافي اللبناني نقلها إلى الجمهور الموالي أو القاعدة الاجتماعية الضيقة للنظام، بعدما أخذت هذه تشعر بعمق الهوة التي اندفعت إليها، قاطعةً طريق الرجعة إلى المجتمع الوطني السوري.

نعم، الأسد يحاور بهدوء وحيوية، كما ينقل لنا كليب في مقالته التي سماها بالحوار، بعيداً عن أي قلق أمني، يستعرض اللوحة الاستراتيجية للصراع، على رغم معرفته بأدق التفاصيل، واثقاً من النصر القادم بلا ريب، وإن كان لا يحدد موعداً لنهاية الأزمة لكي لا يبتعد عن الواقعية.

يحمل سامي كليب معه إلى مخبأ الأسد السري همومه ولغته اللبنانية، فيجعل الشبح الذي يستنطقه يتحدث عن «ثلاثية سورية» تحاكي تلك اللبنانية الأثيرة لدى ممولي جريدة الأخبار (الجيش والشعب والمقاومة) لتصبح في نسختها الأسدية «القيادة والجيش والشعب». ومن يعرف لغة النظام السوري المعتمدة، يعرف أن «القيادة» تعني الدكتاتور الفرد الحاكم. وهكذا نرى سامي كليب ينقل علناً إلى قراء جريدته، ما كان يقرر سراً بين أربعة جدران في زمن الوصاية الأسدية على لبنان: اسم الرئيس القادم للبنان. إنها مفارقة مثيرة للرثاء أن يستقوي حزب الله بالرئيس السوري فاقد الشرعية لفرض رئيس «مقاوم» على لبنان، ما هو غير ميشيل عون، على صفحات الجرائد، في وقت بات فيه حاكم دمشق مديناً ببقائه للحزب الإيراني في الضاحية الجنوبية. وتزداد هزلية الترشيح الأسدي لميشيل عون، حين لا يستطيع المحاور الشبح لسامي كليب أن يذكر من «فضائل» زعيم الرابية غير أنه جاء إلى دمشق يعزي بوفاة مجد حافظ الأسد واغتنم المناسبة ليصالح ضابط مخابرات سوريا كان مسؤولاً في لبنان أيام الوصاية. نعم، هذا هو منطق الحوار ونموذج المصالحة لدى الطاغية: أن يأتي الضحية صاغراً إلى الجلاد و»يصالحه» بعدما كان تمرد عليه في بيروت الشرقية قبل عقود. بهذه الطريقة سبق و»صالحه» كل من رفيق الحريري ووليد جنبلاط في أعقاب غزو حزب الله وحلفائه لبيروت في أيار/مايو 2008.

لا يتحدث الأسد عن «مصالحة حمص» بالطريقة المهينة نفسها، بل يتحدث عن حوار جرى بين اللجان الشعبية والإرهابيين الذين يعرفون بعضهم بعضاً، كما يقول كليب على لسان الطاغية الشبح. لن نتوقف عند زلة اللسان هذه التي تعني أن مسلحي حمص القديمة ليسوا إرهابيين جاؤوا من الشيشان أو تونس أو فرنسا، بل هم أبناء حمص الذين يعرفهم شبيحة اللجان الشعبية في أحياء حمص الموالية. لكن كليب ومحاوره يعرفان جيداً أن الأمر لم يجر على النحو الذي قالاه في مقالتهما في «الأخبار». لا أبطال حمص ألقوا السلاح وخرجوا، كما يكذبان، ولا شبيحة حمص حاوروهم. الواقع الذي يعرفه الجميع هو أن ضابطاً إيرانياً قاد المفاوضات الناجحة التي انتهت بخروج ثوار حمص من المدينة بسلاحهم الفردي الذي لولاه لما أمنوا على حياتهم من غدر الشبيحة.

«أثبتت الانتخابات الرئاسية التي جرت أن الشعب لم يتغير» يقول كليب على لسان الأسد. هذه هي الرسالة المفتاحية في «الحوار». وهي أمنية الطاغية أكثر من كونها تقرير واقع. بعيداً عن كل اللغو عن العصابات الإرهابية المسلحة والمؤامرات الكونية التي تستهدف خط الممانعة، يعبر الطاغية عن هاجسه الأكبر في مواجهة ثورة الشعب السوري التواق إلى الحرية. الشعب لم يتغير، يعني أن العبيد لم يتحولوا إلى أحرار. يتمنى الشبح أن يعيد القطيع إلى بيت الطاعة، إلى ما قبل ربيع العام 2011، الأمر الذي يدرك في قرارة نفسه أنه لن يكون، على رغم كل النجاح الإعلامي الذي تم تصنيعه لمهزلة الانتخابات فوق الأرض الخراب. كيف يكون وهتاف الشعب الحقيقي في المظاهرات يرن في أذنيه لاعناً روح أبيه حافظ ومعزياً أخته بشرى بمصرع زوجها بطريقته الساخرة الشتامة (لا تهتمي يا بشرى، كلنا آصف شوكت!).

ينكر الطاغية ما يعرفه جيداً ليحلم بأمة من العبيد تهتف له. إلى درجة دفعت به إلى زلة لسان أخرى تحدث فيها عن انتفاضة السوريين التي طالبه مندوب سعودي، في بداية الأزمة، بـ»سحقها» كما ينقل لنا عنه زوج المستشارة الإعلامية. فالحقد العارم على السعودية أعمى بصر كليب ومحاوره الشبح إلى درجة الحديث عن انتفاضة مطلوب سحقها. اعرفوا أيها السوريون من هو عدوكم، يريدان القول. إنه السعودية التي طلبت مني سحقكم. هذا نوع من الدسيسة الرخيصة التي يلجأ إليها العاجزون للإيقاع بالعدو بمحاولة تأليب بعضه على بعضه. لطالما كرر إعلام النظام كلاماً يستنكر المفارقة الكامنة في دعم نظام منغلق لثورة تطلب الحرية والديموقراطية. وإذ لم يجد كل ذلك نفعاً، جاء كليب لينقل عن الدكتاتور الشبح هذه الدسيسة، فوقع هو والذي ينقل عنه في شر أعمالهما، فاعترفا بالانتفاضة التي دأبا على إنكارها طوال سنوات.

«يخرج بشوشاً حتى الباب. لا يوحي مطلقاً بقلق أمني. الداخل إليه لا يخضع لأي تفتيش، ولا يمر تحت أي بوابة الكترونية. يوحي الرئيس بشار الاسد، في مستهلّ ولايته الثالثة، وكأنه يتابع حياته اليومية كما لو أن البلاد لم تعرف الحرب أصلاً. لا شيء يذكّر بالحرب في مكتبه سوى أصوات مدفعية تنطلق بين حين وآخر صوب معاقل من باتوا يوصفون بالإرهابيين. يحافظ على رشاقته وأناقته كما في أحوال السلم. يهتم بالرياضة وبعائلته، رغم تكدس الملفات الامنية والسياسية التي يتابع تفاصيلها شخصياً طيلة النهار. يعترف كل من تابعه عن قرب، خلال سنوات الحرب، أنه كان الأكثر برودة للأعصاب. لم يهتز مرة واحدة».. هذه الصورة التي أراد كليب أن ينقلها لقرائه، أراد منها رفع المعنويات المنهارة لـ»شعبه» الذي انتخبه مطلع هذا الشهر. ولكن حين يشاهد القارئ براميل الموت التي تسقطها طائراته على المدنيين في حلب وغيرها، يفهم «برودة أعصاب» الدكتاتور على أنها انعدام إحساس القاتل وموت ضميره الأخلاقي.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى