صفحات الناسغالية شاهين

حضن الوطن… شرق البيادر/ غالية شاهين

 

إنه موسم الحصاد لسنابل هذي البلاد التي أنضجتها الثورة سريعاً، كما لو كان نيسان لاهباً متقد الشمس. واليوم نحصد قمحه ونحمله إلى البيادر. وهناك.. في البيادر التي تخبئ رائحة البلاد وتشهد قسوة عجلة الدرس التي تدوس القمح، لتفصله عن القش والشوائب، قد بدأت عملية الفرز الحقيقي.

من يعرف بيادر القمح يعرف معنى “المذراة”، تلك التي تقذف بالحبوب إلى الهواء، لينفصل عنها القش الخفيف، ويطير إلى شرق البيدر، فالرياح غربية دائما في سورية.

ينتظر السوريون دائما أيام الرياح، ليقوموا بتذرية قمحهم، وكلما ازدادت سرعة الريح كانت أقدر على فصل القش والشعير وحبات القمح المصابة والخفيفة عن حبات القمح الناضجة السليمة، فترتفع معها كومة الغثّ التي تتراكم شرق البيدر.

كانت الثورة السورية حصادنا، وما زلنا اليوم في البيادر. وتماماً شرق بيادرنا يقبع “حضن الوطن”.

ربما كانت رياح السنوات الماضية أخفّ من أن ترمي كل الحبوب الفارغة جانباً، لكن ما وصلت إليه البلاد اليوم ليس أكثر من اشتدادٍ في الريح لم يستطع أن يجبر القمح الحقيقي المليء على أن يطير بعيداً عن ساحات الثورة، لكنه بالتأكيد بدأ يزيح عنا تلك الحبوب المريضة التي سبق أن امتصّ النظام خيرها، وحشاها بالسم، فأصبحت خفيفةً تذروها الريح الآن، لتعود إلى “حضن الوطن”.

بدا من الواضح الآن أننا سنخسر بعضاً من الكم الذي اعتقدنا أننا نملكه في صفوف الثورة. ذلك الكم الذي توهمنا يوماً أننا بحاجته، فأعطيناه قيمةً ليست له، وتواطأنا عن وعي، أو لا وعي، مع وجوده بيننا. لكننا جميعا بدأنا نتلمّس أقدامنا على الأرض أكثر، وبتنا ندرك أننا نواجه اليوم زمن الحقيقة الكاشف أكثر من أي وقت مضى، ولا أقنعة بعد اليوم يخفي فيها هذا “الكم” وجوهه المشوهة.

صفوف العائدين اليوم إلى حضن بشار الأسد تنظّف الثورة وتنقيّها من أكبر شوائبها، بعد أن عرّت المحن كل المنضوين تحت رايتها الشريفة. فليس العميد مصطفى الشيخ، أو الشيخ نواف البشير، أو غيرهما ممن سبقهم أو سيتبعهم، إلا أغماداً كانت قد زُرعت في جسد الثورة، وهي تُقتلع منها الآن؛ ليست إلا حبوب قمح فارغة لن يضيرنا أن تعود إلى شرق بيدر الثورة، لتكون في مكانها الصحيح مع القشّ الذي سيحرقه بشار الأسد، ليدفئ قدميه، أو قد يرميه علفاً لحيوانات مزرعته، فهذا تماما ما يُصنع بكومة القش شرق البيادر.

ولكي تكتمل المقارنة، لا بد من معرفة أن ما يصنع هذا القمح الفارغ هو داءٌ يصيب السنابل من حشراتٍ دخيلة، تهاجمها حين الامتلاء، ولا تُصاب بها إلا الحبّات الضعيفة، وهو تماماً ما قامت به أجهزة النظام الأمنية، حين حاولت مهاجمة الثورة قُبيل النضج، فكان هؤلاء العائدون اليوم هم المتلقي.

ليس الأمر بالتأكيد انتقالاً من ضفةٍ إلى أخرى فحسب، فلم نعد في زمن الاختيار اليوم، وهو كذلك ليس إحساساً مفاجئاً أو حديثاً بأن سفينة الثورة قد شارفت على الغرق، فلا أحد من الثوار الحقيقيين يُصدق ذلك أو يقبله. بل هو، برأيي، انتهاء لمهمة موكلة مسبقا، قام عشرات أو مئات ويقومون بها حتى اللحظة، لكن زمن انتهائها يختلف تبعا للشخص ومكانه المهمة الخاصة به وطبيعتها.

لم ننكر يوماً أن كل مفاصل معارضتنا ومؤسساتها وهيئاتها كانت مخترقة منذ اليوم الأول، لكننا كنا نكابر بأننا قادرون على المسير حتى بوجود تلك الاختراقات. أما اليوم فقد باتت المراجعة لكل مفصل ضرورة، وكشف كل عيبٍ واجبا، كما بات التستر على الخطأ، حتى ولو بحسن نية، مقتلا يجب أن لا يُهمل أبدا.

هي ثورة السوريين الشرفاء الذين سيحصدون غلالها يوماً، ويجمعوه زوادة للبلاد القادمة، ويبذروا أرضهم من جديد، وهم من سيخبزون طحينهم على تنّورٍ يوقدونه مما تراكم شرق البيدر أو “حضن الوطن”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى