صفحات الثقافة

حضيض تانيا صالح/ رشا الأطرش

 

 

قد لا تكون “ستاتوسات” وتعليقات الفنانة اللبنانية تانيا صالح، في صفحتها في “فايسبوك” اليوم، عملاً فنياً بالمعنى التقليدي المعروف. لكن تانيا مُشتغلة بالفن والموسيقى. وفضاء التواصل الاجتماعي غيّر مفاهيم كثيرة، خلق معانيَ إضافية لما يُقدّم ويتم التفاعل معه في صفحاته. والمعاني هذه قد تتشارك مع الفن في خصائص شتى، من دون ادعاء ماهية الإبداع الموصوف: الرمزية، الاختزان، الاحتشاد، الدلالة الثقافية او الاجتماعية او السياسية الخ، تمثيل واقع ما، إدراكه وإعادة إنتاجه بشكل ما… كما أن “جمهور” تانيا، الافتراضي ههنا، مُشارِك. ليس بالتعليق الكلامي والكتابة فحسب، بل بفنون رديفة، صور مولّفة وملصقات الكترونية للردّ عليها، وهي التي كتبت: “إلى قائد الجيش.. إيدنا بصباطك” (بوحي من التعبير اللبناني الدارج “إيدنا بزنارك” طلباً للغَوث ممّن لا نملك سواه مُعيناً أو بطلاً). وكتبت أيضاً: “مع الجيش اللبناني حتى الموت.. واللي ما عجبو يدق راسو بالحيط”.

داخَلَ الحذاء (الصُبّاط، الصرماية، الجزمة..) أدبيات الشفاهة اللبنانية، وخيالها السياسي خصوصاً، منذ “فداء صرماية السيد (حسن نصرالله)” التي درّجتها وسائل إعلام الممانعة وفي طليعتها “حزب الله”، على ألسنة أمهات “زفَفن” أبناءهن شهداء، وأرباب عائلات فقدت بيوتها وتشردت خلال “حرب تموز” 2006 التي فرضت على لبنان من أرضه. ثم مقولة النائب وئام وهاب عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان: “المحكمة وصرمايتي سوا”. وعلا شأن الحذاء العسكري تحديداً في المُتَداوَل الالكتروني، عبر صُور من مصر ظهر فيها مواطنون يضعونه فوق رؤوسهم غداة تظاهرات 30 يونيو، لينتشر مصطلح “لاعقي البيادة”. وكذلك، طوّب الحذاء العسكري صرحاً مجيداً في اللاذقية. فيما قد تُردُّ “الريادة” البصرية والمعنوية للحذاء العربي المسيّس، إلى الصحافي العراقي منتظر الزيدي، الذي رمى به الرئيس الأميركي جورج بوش، ما جعل الصورة “أيقونة” جدلية، بين مَن هلَّل وانتشى بالغريزة والزجل، ومَن نعى آخِر حسٍّ عربي للمبادرة السياسية والثقافية والإعلامية، إذ دلَّ الحذاء الطائر – إن دَلّ – على إفلاس وخواء عام ممثلاً في فرد.. وفردة حذاء.

قد لا يكون “ستاتوس” تانيا صالح عملاً فنياً. لكنه، كالعمل الفني في نظر هايدغر، لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق العام الذي يحضر فيه. ومن دون فهم الكلّ، لا مجال لتفنيد الجزيئات، والعكس أيضاً صحيح.

السياق العام اللبناني مأزوم في أمنه، واستقراره السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لبنان المفلسة مؤسساته، برلمانه المعوق بتمديده، وحكومته العاجزة عن مفاوضة “جبهة النصرة” لاسترداد جنود لبنانيين مخطوفين يتناقصون ذبحاً، كعجزها عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة اليومية من مياه وكهرباء واتصالات. سدّة الرئاسه والجمهورية مفرغتان ممّن يتولاهما بعدما تولى اتفاق الطائف إفراغهما من المعنى والفاعلية والصلاحيات. لبنان الجريح في عرسال وفي عموم البقاع المتقلّب على صفيح الصراع السنّي-الشيعي الساخن. لبنان المكلوم في صنوه ولبّه بالحدث السوري الذي يشارك فيه ويذهب إليه عنوة. لبنان الملتفّ – نظرياً – حول جيشه الوطني، لكن بفولكلورية يبدو أنها تسير بالجميع إلى ثقافة “وطنية” مرقطة بلا برنامج سوى أنها قد تُستغل في انتخابات وسياسة وأمن، وقد تكون غطاء جماعات لبنانية تتفرد بالفعل وتعمّم ردود الأفعال على البلد بأسره، بأثر من أجنداتها الطائفية والإقليمية.

كل هذا، وأكثر، يكرّس الحذاء العسكري وعبادته، ولا يبدو أن فنانة مثل تانيا صالح (ملتزمة؟ يسارية؟ مثقفة؟ ابنة نخبة؟ مغنّية تقدمية للشعوب والتحرر؟)، قد أعفت نفسها من الانجرار إلى هذا العبث، هذا العدم، هذا التدني إلى نعل مقدس.. يدعس، يقصر النقاش والعقل، لا أفق له سوى الأسفلت.. نعل العسكر، لا تضحياتهم، ولا خواء السياق العام من رافد سياسي او اجتماعي او مدني لانتشالهم والوطن من مأزق مقفل.

“أنا مع كل جندي بالجيش، ومع قائد الجيش يدعوس كل صرصور بهالبلد.. بعدين أنا لا مع الحرية ولا مع الديموقراطية.. بعد بكّير كتير علينا”.. علّقت تانيا في صفحتها.

المفارقة أن هايدغر اشتغل على لوحة “حذاء المزارع” الشهيرة لفنسنت فان غوخ، ليدفع باتجاه التفكير في الأعمال الفنية كـ”أشياء”: أشياء ذات خصائص وحاملة سمات، أشياء تشعّب الإدراك الحسّي، وأشياء تتشكّل من مادة. على عاتق الناظر تقع مسؤولية الأسئلة: ليس عمّا صُنع منه “حذاء المزارع”، أو حتى عمّا صنعت منه لوحة فان غوخ. بل عمّا يخوض فيه الحذاء، استخداماته، الهدف من وجوده.. أي عالم يفتح الحذاء بابه؟ إلى أي عالم ينتمي؟ وأمام اللوحة الذهنية التي طالعتنا بها تانيا أخيراً، نجدنا نفكّر في العالم الذي قررت، وهي الفنانة، أن تفتح بابه.

للفن تلك القدرة البديعة على خلق صراع حيوي بين “الأرضية” و”العالم”، بحسب هايدغر.

العالم بما هو المعنى الذي يُكشَف ويُكتشَف بالإبداع، أي إبداع. رسم أو صور لطاولة، مثلاً، يحيل إلى شبكة من الدلالات: الأشخاص الذين قد يجلسون حولها، الحوارات الممكن غزلها فوق سطحها، النجّار الذي صنعها.. وكل دلالة تُفضي إلى دلالات، والتشعّبات تكتسب حيواتها الخاصة.

.. وردّ أيضاً بملصق

أما الأرضية فهي الحاملة لانبثاق كلٍّ من عوالم المعنى هذه: لون طلاء، ملمس رخام منحوت، كثافة لغة.. وربما فضاء تواصل اجتماعي. تلك العناصر التي لا وجود مفهوماً لها بالمطلق أو بأساسها الأول. لا مفهوم لها بلا العوالم المنسوجة فيها وبها. فكيف يُرى الحذاء الذي تنبري، لوضع يدها فيه، صاحبة أغنية “الجيل الجديد”؟

“نحن الجيل الجديد، سمعتنا بالحضيض، ما في شي طالع بإيدو، عارف كل المسائل، عن حالو منّو سائل، طالع لبيّو عاقل، جيبلو هدية ع عيده.. تاريخه عم يعيده”، غنّت تانيا صالح. ونجدنا نفكّر في دلالات يدها كـ”شيء” هايدغري، وفي الحذاء العسكري أيضاً. اليد التي، بعد نقد اللاشيء الذي تحوزه وسخريتها من التاريخ الذي تُعيده بلا أسئلة ولا مسألة، تختار الآن عجزها المدقع، بل تمجّده وتكرّسه، وتستسهل انزلاقها إلى ما دون الدولة والسياسة وحتى العقل الفردي، حتى “طلع بإيدها” هذا الحذاء. الحذاء العسكري المرفوع، باليد المتحامقة ذاتها، من القدمين إلى مستوى رأس مُلغى. الحذاء المَعليّ بيد مستسلمة لاستغاثة بدائية، دفعت بالعبارة الشعبية قُدُماً في شعبويتها (بل نزولاً)، من الحزام إلى الجزمة. فتتوالى استخدامات الأيدي والأحذية في “أعمال فنية” الكترونية – ابنة اللحظة وجمهورها – لمساجلة/تقريع تانيا، بألعاب اللغة والصورة والتوليف الكاريكاتوري.

ثمة حقيقة ينتجها صراع “العالم” و”الأرضية”.

هنا، هي حقيقة مألوفة منذ مقذوف منتظر الزيدي، وصولاً إلى حضيض تانيا صالح… التي، بالمناسبة، ليست وحدها، لكنها ليست الكلّ.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى