صفحات الناسعلا عباس

حقد وخوف يتصارعان/ علا عباس

 

 

حين تنتهي الحرب في سورية ستنجلي عن كل أمراضنا وعيوبنا، أفرادا وجماعات. أمراض خبأناها نصف قرن تحت ستار الديكتاتورية والفساد، وحين خرجت، خرجت دفعة واحدة بشكل انفجاري أعمى القلوب والعقول

أما وقد تمت أركان المؤامرة، فلنتأهب إذاً لسنوات -وربما عقود- من التراشق بالقذائف، والقذائف (حرفية ومجازية) ستستمر بالهطول على رؤوس السوريين، من كل صوب ولكل صوب. الانقسام يكاد يصبح نهائياً، والآخر أصبح الشر المطلق، وصار لكل مظلوميته ولكل خوفه ولكل ثأره.

وفي سورية اليوم تتصارع أحط الغرائز البشرية وأشرسها، وهي الحقد والخوف، وهاتان غريزتان لا يغلبهما منطق، ولا يسكّنهما عقل، وهما قادرتان على إيقاظ شهوة الدم دون حدود ودون ارتواء. أقليات مذعورة تجاوزت حد الخوف من الموت، وصارت مقتنعة أنها تواجه الفناء، ونظام يوظف هذا الخوف -بعد أن صنعه بإتقان وأسهم معه ضيق أفق بعض المعارضة- يوظفه في استمرار آلة الموت وبضخ الدماء فيها دون انقطاع.

أكثرية غلبها الشعور بالظلم والحقد، وصار لكل فرد ولكل عائلة ولكل قرية ثأرها الشخصي، والذي لا يتوجه بالضرورة إلى وجهته الصحيحة، وهو حقد صنعه النظام أيضاً بأفعاله الدموية منذ اليوم الأول للثورة.

ومع استمرار القتال ودوران عجلة الموت دون توقف، تبادل الطرفان الغرائز، فصار للخائف حقده، وللحاقد خوفه، وبذلك تمت أركان المستنقع، وغاصت البلاد في الطين.

لم تستطع آلاف النداءات والتصريحات التي أطلقها ناشطون وسياسيون معارضون من طمأنة أو تهدئة خوف الأقليات -لا سيما العلويين- وإقناعهم أن أكلة القلوب هم أقلية في الأكثرية، وبالمقابل لم يستطع مئات المعارضين العلويين وآلاف العقلاء منهم إقناع السنّة بأنهم أمام مجموعة بشرية تشبه أي مجموعة بشرية في العالم، متباينة، مختلفة، متنوعة، لا تتطابق مع بعضها، ولا تمتلك الرأي نفسه والموقف نفسه، وأن رماة البراميل وداعسي الرؤوس ليسوا الأقلية كلها.

وبذلك أصبح كل طرف يقف بكامل حقده وخوفه وسلاحه في مواجهة مجموعة من الشياطين، لا استثناء منهم، ولا أحد يستحق الحياة، ومحاربة الشياطين تعني فيما تعني إبقاء الإصبع على الزناد، وهذا ما جرى حرفياً في سورية، فالأصابع -كل الأصابع- مشدودة منذ أربع سنوات على زناد البنادق ـ على تنوع هذه البنادق.

في الأشهر الأولى للثورة السورية أطلق المعارض عبدالعزيز الخيّر نداء قال فيه: “لا تدعوا كرهكم للنظام يغلب حبكم لبلدكم”، كان يعلم أن النظام سيوغل في العنف كي يخمد الثورة كما كان يرى في وقت مبكر استيقاظ هذه الغرائز ويحذر مما ستصل إليه، فالحقد، حتى لو كان مبرَرا، لم يكن يوماً قادراً على صنع شيء سوى المزيد من الحقد.

غلب الحقد الجميع وغلب الخوف الجميع، وتمكن كلا الشعورين -الغريزتين- من بناء جدار سميك بين أبناء الشعب الواحد، يزداد ارتفاعاً كل يوم ويزداد سماكة كل يوم، وفي كل يوم وفي كل تصريح لسياسي وكل مقال لكاتب وحتى كل بوست لناشط، يُغلق باب آخر في هذا الجدار السميك، وتضيق نوافذ المستقبل.

المجتمع إذًا قد تهدم، وما مشهد الدمار الذي نراه لمدن سورية وقراها وبيوتها ومآذنها سوى التعبير المباشر لحالة الدمار والخراب العميقة التي أصابت النفوس والعقول، وكذلك البنية الاجتماعية وإمكانية التعايش مستقبلاً، وهذا ما يجب أن يكون أولى أولويات إعادة الإعمار، إذا كان في يوم ما إعادة إعمار.

فهذه الحرب حين تنتهي – ولا بد أن تنتهي – ستنجلي عن كل أمراضنا وعيوبنا، أفرادا وجماعات، أمراض خبأناها نصف قرن تحت ستار الديكتاتورية والفساد، وحين خرجت، خرجت دفعة واحدة بشكل انفجاري أعمى القلوب والعقول، وأيقظ النوازع والغرائز المنحطة، فصرنا في نظر بعضنا شياطين، وصار قتلانا نحن السوريين “فطايس” وقتلانا نحن السوريين “شهداء”، وأي فصام سيصيب السوري حين يسمع هذه الأوصاف بحق من كان يعتبره أخاه وشريكه في الوطن؟ فوصف “الفطيسة” الذي يخرج من كل الأفواه “الوطنية” يصبح مأزقاً أخلاقياً ووطنياً لسوري حقيقي خرج ذات يوم ليهتف مؤمناً صادقاً “واحد واحد واحد. الشعب السوري واحد” و”يللي بيقتل شعبه خاين”.

قبل عامين حين بدأ الحديث عن إمكانية إيجاد حل سياسي في سورية عبر المفاوضات أو الحوار، ارتفع شعار “من لم تتلوث أيديهم بالدماء”، وجاء هذا الشعار في إطار قبول المعارضة بالتفاوض والتشارك لإيجاد مخرج من المازق الذي وصلت إليه البلاد، ولكنها اشترطت أن يكون ذلك مع من لم تتلوث أيديهم بالدماء من أركان النظام، والذي أيضاً رفع شعارا مقابلاً “من لم يتورطوا في دعم الإرهاب”. وشعار “من لم تتلوث أيديهم بالدماء” كان شعاراً مقبولاً من غالبية السوريين الباحثين عن خلاص لبلدهم.

ولكن أمام التداعيات التي حصلت في المشهد، وأمام هذه الغرائز المنفلتة، وأمام الشيطنة النهائية المطلقة التي تبادلها السوريون، هل ما زال بإمكاننا أن نكرر هذا الشعار بشكل واقعي، هل يمكننا أن نجد فعلاً سوريّا لم تتلوث يداه بالدماء؟

الخوف والحقد يتشاركان تلويثنا جميعاً، وتلويث أيدينا بدماء بعضنا. وهما حين يتصارعان فرذاذ الدماء سيصيب الجميع، حتى من لم يمد يده بسكين أو ببندقية، ستكون يداه ملوثتان بدماء جثة يحاول إنقاذها، كما نفعل حين نكتب كلمات كهذه.

الوطن السعودية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى