صفحات الثقافةمنذر مصري

حقل الفخّاري/ منذر مصري

1- صباح يوم عادي

لا أدري إن كان ما سأرويه قد حدث سابقاً، أم إنه يحدث اليوم، هذه الساعة، الآن، هذه اللحظة. أم أنه سيحدث لاحقاً، في يوم قادم، قريب أو بعيد. لكنه، أعلم، يحدث مراراً.

أين؟ في العالم، هنا وهناك وفي كل مكان، ولكن ما يهمني أنه قد يحدث هنا في بلدي، وفي المدينة التي لم أستطع أن أغادرها، لأسباب لا تحصى. المدينة التي لا أستطيع الحياة ولا الموت بعيداً عنها.

مع من؟ معي، هو الجواب الأول، لأنه معروف عني، لا أكتب إلاّ عن نفسي، أو حدث مع شخص آخر أعرفه جيداً، أو ربما مع شخص أعرفه معرفة بسيطة، أو مع شخص صنعته من خليط أشخاص، أو شخص اختلقته كلياً. ولكن، كحل فني لهذه المعضلة، أرى أنه هذه المرة، حدث معك أنت بالتحديد، أنت الذي تقرأ الآن ما أكتبه وتشك أنه عنك، ثم شيئاً فشيئاً تعلم أنه عنك. لأنه حرفياً أو تقريباً حرفياً حدث معك، وينطبق عليك أنت بالذات.

في ذلك الصباح، بعد نوم قصير. أقرر عنك أنه نوم قصير، لأني أعلم أنه ما عاد يأتيك النوم إلا بعد الساعة الثالثة أو الرابعة. بعد أن تشبع نكداً وقهراً، متتبعاً كل كبيرة وصغيرة تجري في العالم، إما من خلال شبكة العنكبوتية، التي بت تشعر وكأنك عالق بها، كحشرة استسلمت لمصيرها، بعد أن يئست من الإفلات والنجاة بنفسها. وإما من خلال الأقنية التلفزيونية التي باتت لا تعدّ ولا تحصى، والتي عاهدت نفسك مراراً أن تبطل التبسمر أمامها، والشعور بما يشبه التلاشي وأنت تحملق بها.

نوم قصير لم يخلُ من عدة كوابيس باتت، على غرابتها، مألوفة لديك، أغلبها، لا علاقة مباشرة لك به، ترى بها نفسك شخصاً آخر، يصاحب أناساً لا تعرفهم أدنى معرفة، رغم أنهم يأخذون في كوابيسك هذه أدوار الأخوة والأصهار وأبناء العم، يقومون بمهام غامضة في أماكن لا تعرفها إلا في أحلامك المتكررة. أما الكابوس الأخير لهذه الليلة، والذي ظل عالقاً في رأسك وفي أحاسيسك، وكأنك ما زلت نائماً وتحلم به، أو كأنه هو نفسه ما زال مستمراً وأنت مستيقظ، وتقوم بطقوسك الصباحية المعتادة التي تحرص ألا تخرج من البيت إلا بعد القيام بها جميعها. فقد كنت تمضي وإياهم، وكأنكم جماعة مسلحة غير نظامية، في أحياء مهدمة ومهجورة، هاربين من أناس آخرين يبحثون عنكم، أو باحثين عن أناس آخرين هاربين منكم. ولكن ما إن رشفت على عجل شيئاً من فنجان قهوتك الكبير، حتى صدحت في الهواء مقدمة تلك الأغنية، أغنية زياد رحباني التي اخترتها كرنين لهاتفك النقال: (غيرلو النظام) كدليل، ولو كان ساخراً، على أنه، عكس ما يفهم من حواراتك مع الأصدقاء، أو ما تكتبه أحياناً على صفحتك في الفيس البوك، ليس لديك مانع من تغيير هذا النظام أو أي نظام آخر في العالم، ما دمت من قبل الأحداث ومن بعدها، تتباهى بأنك لا تؤمن بأي نظام سياسي مهما يكن. كما لا تؤمن بأي أيديولوجيا، أو حزب أو منظمة أو حتى فكرة فلسفية محددة عن الحياة، لا بل أنت تؤمن بفلسفة اللامبالاة، اللا مبالاة المطلقة، سوى بما يؤمّن العيش اللائق ما أمكن، لأسرتك، أولاً وثانياً وثالثاً، زوجتك الرقيقة وابنتيك، وأخيراً، أخيراً لك. لأنك حقيقة ما عدت تبالي كثيراً بنفسك، ما عادت تهمك ثيابك، ولا تصفيفة شعرك الذي راح خلال هاتين السنتين يتسارع بالتساقط، ولا أن تلفت نظر أي فتاة، فقد أخبرتني، بعد ابنتك الثانية، بأنك قد هجرت الفتيات وملاحقة الفتيات وكتابة الشعر للفتيات، حتى إنك ما عدت تلتفت مجرد التفاتة ولو مرت بجانبك إحدى صاحبات المؤخرات الهائلة، نوعك المفضل من المؤخرات. كان الرقم المتصل يخصّ شخصاً يمتّ لك بصلة قرابة، لذا يحمل اسميكما اسم العائلة ذاته، يعمل في أحد فروع الأمن، ولكن في مدينة أخرى. مباشرة أصابك شيء من الانزعاج، ليس من عادة يوسف أن يتصل إلاّ عند الضرورة القصوى، وغالباً عندما يتعلق الأمر بالوضع الأمني لفرد من أفراد العائلة. لا يمكن لعائلة، كعائلتك، وإن كانت صغيرة العدد نسبياً، أإاّ أن يكون لها احتكاكات بالأمن، سلبية أم إيجابية. يوسف هو الوحيد في عائلتكم، الذي يعمل في الأمن، وقد ساعدكم، حسب قدرته، أكثر من مرة.

2 – المكالمة

أنت: أهلاً يوسف، أيوجد شيء؟

يوسف: نعم، ولكن لا تقلق، أخبروني في فرعنا باللاذقية، بأنك مطلوب لعندهم.

أنت: أنا مطلوب!! لماذا؟

يوسف: قلت لك لا تقلق، الأمر لا يخصك شخصياً. وكي يطمئنوك أكثر، طلبوا مني أنا أن أبلغك، فقد عرفوا أنك قريبي. المهم، حمدان، اليوم الساعة الثانية عشرة، أي بعد ثلاث ساعات تماماً، تكون عند بوابة الفرع في حي الرمانية، سيضعون اسمك عند الاستعلامات، وسيسمحون لك بالدخول. إسأل عن النقيب عساف، سيكون بانتظارك. قل له إنك حمدان سقريوتي، قريبي. هل هذا واضح؟

أنت: لا بأس، ولكن اليوم لدي موعد هام في العمل.

يوسف: هذا أهم يا حمدان، تستطيع أن ترجئ موعدك مهما يكن للغد، أو لأي يوم آخر. اذهب الساعة الثانية عشرة، كما قلت لك. ولا داعي لأن تخبر سلمى، أو أي من أخوتك أو أصدقائك، وبخاصة أصدقاءك، لا قبل ولا بعد، أ فهمت؟ ستعود بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر، سأتفقدك وسأكون على الخط معك.

أنت: النقيب عساف ماذا؟

يوسف: النقيب عساف، يكفي، لا يوجد في الفرع عساف سواه.

أنت: طيب، سأتصل بك عند السماح لي بالدخول مباشرة. لا أظنهم سيسمحون لي بالاتصال بك من داخل الفرع.

يوسف: ليس من الضروري، لا يمكن لي أن أنساك من الآن لثلاث ساعات، مهما كانت مشاغلي. المهم، أن تكون متفهماً ومتعاوناً معهم. الأمر لا يخصّك، لا من قريب أو بعيد، ولا تسألني الآن ما هو. سلام، حمدان.

أنت: سلام، يوسف، شكراً.

3 – الزيارة

غرفة ضيقة، تحتوي على مكتب يجلس وراءه النقيب عساف. على يساره يوجد شخص يجلس ملتصقاً بالمكتب، يكتب ما يبدو أنه محضر الجلسة، وهناك شخص ثالث يجلس على الكنبة اليمينية. يدخل حمدان ويقف أمامهم وجلاً.

النقيب عساف، يشير إلى الكنبة الشاغرة على يسار المكتب: تفضل بالجلوس.. نعتذر من جعلك تنتظر كل هذا الوقت، تعلم كم نحن مشغولون هذه الأيام.

أنت: لا بأس، ليست مشكلة.

النقيب عساف: عندما ورد اسمك أمامنا أول مرة، عرفنا مباشرة أنك قريب أخينا يوسف سقريوتي. من اسم العائلة أقصد، هل هو ابن عمك؟

أنت: ابن عم أبي.

النقيب عساف: يوسف أخونا، عمل معنا خمس سنوات قبل أن ينتقل. ولكنه يوماً لم يذكرك أمامنا. مع أنك شاعر معروف في البلد.

أنت: لا أظنني شاعراً معروفاً لهذه الدرجة، ولكن نعم، لدي ثلاث مجموعات شعرية، الأولى والثانية من إصدارات وزارة الثقافة السورية، والثالثة صدرت لي في بيروت منذ أيام.

النقيب عساف، يشير إلى كاتب المحضر على يساره أن يقوم ويغلق الباب.

الشخص الثالث: إذن نحن نجلس الآن مع شاعر، له مكانته بين الأدباء والمثقفين. كان على يوسف أن يعرفنا عليك منذ سنوات. أظنه قصّر معنا في هذا.

النقيب عساف: أستاذ حمدان، بصراحة نحن لم نطلب منك أن تأتي إلينا بخصوص أي شيء له علاقة مباشرة بك، فنحن بعد اطّلاعنا على ملفك، لم نجد فيه أي شيء نأخذه عليك، إلاّ بما يتعلق بعلاقاتك مع بعض الأشخاص الذين يشكلون لنا علامات استفهام، نعلم أنك تصاحبهم لكونهم شعراء وفنانين، ولكنهم ليسوا فقط كذلك، فبعضهم له مواقف ونشاطات سياسية.

أنت: لا علاقة لي بمواقفهم هذه. كما قلت، سيدي النقيب، علاقتي معهم تقتصر على الحديث عن الشعر والفن والسينما.

النقيب عساف: نعلم أنه لا علاقة لك بمواقفهم السياسية، بل إننا نعلم أيضاً، أنه عندما تثار بينكم هكذا نقاشات، فأنت كثيراً ما تخالفهم في آرائهم، وأظنك تذكر النقاشات والجدالات التي حدثت بينهم بحضورك، أكثر من مرة، آخرها ذاك الذي جرى في مقهى (آميجوز) وخرج منه زياد سعيد غاضباً. وقد حاولت أنت وقتها ثنيه عن المغادرة لكنه لم يأبه لك. وصلتنا هذه المعلومات عن طريق صديق لكم كان يجلس على الطاولة المجاورة.

أنت: نعم.. حصل ذلك. لم أكن أريد أن تصل خلافاتنا لهذه الدرجة. لكن زياد كان سكراناً، وكذلك كل الجالسين، حسن ويحيى وعدنان وأنا، ولكن ليس بقدره.

الشخص الثالث: ولكن لم يكن موضوع حديثكم من المواضيع التي يتحدث بها سكارى على الإطلاق، فقد كانت أصواتكم مرتفعة لدرجة أن جميع الموجودين سمعوا ما كنتم تقولونه. مع أن صاحب المقهى جاء لطاولتكم عدة مرات، وطلب منكم أن تخفضوا أصواتكم. كنتم تتكلمون عن الأحداث، وكانت تسمع كلمات مثل النظام وثورة والمعارضة طوال الوقت. ما نريد معرفته منك، هو ماذا كان يحيى يقول ليجعل زياد يفقد السيطرة على نفسه، حتى أنه أوقع عدة كراسي وهو يخرج من المقهى، دون أن يبالي بمحاولتك إعادته؟

أنت: سيدي. كان الجميع سكرانين، يحيى كان يحمّل المعارضة السياسية كل الكوارث التي أدت إليها الثورة، حسب تعبيره، فهو يرى المعارضة الخارجية قد ربطت نفسها بالخارج، الذي يمولها ويستخدمها. أما المعارضة الداخلية، فرأيه بها هو أنها أخطأت باللجوء للسلاح. وأخطأت أيضاً في التخلي عن أهداف الثورة الحقيقية، في الحرية والديموقراطية وقيام الدولة المدنية وما إلى ذلك.

النقيب عساف: كلام جميل.. ولكنه يقول الثورة، فهل هي ثورة برأيك؟

أنت: سيدي، قلتم أنكم تعرفون موقفي، بالنسبة لي، ثورة كانت أم لا، فأنا أساساً لا أؤمن بالثورات. الثورات والحروب برأيي كانت دائماً جالبة للخراب والدمار. كما أن يحيى يقول إن الثورة قد سرقت، سرقتها الأطراف الدولية التي مصلحتها اسقاط النظام، ولا تهمها مصلحة الشعب السوري بشيء. كما سرقها التيار الاسلامي الذي ليس في محل قبول لدى أغلب مكونات الشعب السوري. نعم هذا ماكان يقوله يحيى.

الشخص الثالث: وهل هذا ما أغضب زياد سعيد.

أنت: لا أدري تماماً، ولكن هذا ماكان يقال، وكان زياد قد شرب كثيراً.

الشخص الثالث: نحن نعلم أن زياد صديقك، ويزورك في بيتك أحياناً. ولكن ليس مهمتك الآن الدفاع عنه. نحن لا نتكلم عنه بصفته شاعراً على الإطلاق، مشكلتنا معه أنه يتصرف ويتكلم هنا وهناك وكأنه معارض سياسي. ونريد أن نعرف أي نوع من المعارضة هو، وإلى أي درجة هو متورط، وما إذا كانت له اتصالات مع أصدقاء له من المعارضة الخارجية.

النقيب عساف: تعلم أن هاني مراعب، وفواز سوري، وكذلك وائل حسنين، من أصدقائه، وهم جميعهم الآن في الخارج. وفي الحقيقة أننا سجلنا له عدة محاثات مع هاني مراعب، كان حريصاً بها على تكون أحاديث عائلية. إلا إذا كانوا يستخدمون رموزاً معينة.

أنت: سيدي، أعلم أنه صديق لهاني مراعب، وذلك منذ زمن بعيد. ولكنه يوماً لم يذكر لي أي شيء عن اتصالاته به ولا بغيره.

النقيب عساف: ولكن ماذا قال وقتها ليحيى. في سهرتكم تلك أقصد؟ أريد منك أن تذكر جيداً، فالكثير مما قاله متوفر لدينا في التقرير، ولكننا نحتاج لمصدر أكثر دقة لنتأكد.

أنت: أذكر أنه كان في البداية يحادثه بكل هدوء، ويمازحه أيضاً، وبعد ذلك ترك لحسن أن يكمل النقاش مع يحيى بدلا منه، مكتفياً بالنظر إليهما من حين لآخر وهو يتابع شرب البيرة، ثم راحت عيناه تحمران وتجحظان، ظننت وقتها أن سبب ذلك، كرعه دفعة واحدة زجاجة البيرة الرابعة خلال نصف ساعة. لكنه، فجأة، قام عن كرسيه، ورمى بالزجاجة على أرض المقهى، وهو يصيح بيحيى ما لم أفهم منه وقتها سوى كلمات لا رابط بينها. هذا كل ما أذكره.

الشخص الثالث: أخي حمدان، كما أوصانا يوسف بك، لا ريب أنه أوصاك بالتعاون معنا، أشعر وكأنك تحاول أن تتهرب من الأجوبة الصريحة. وفي هذا مضيعة لوقتنا ولوقتك، ولا تظنه يفيد أحداً، ولا حتى صديقك زياد سعيد، بل ربما العكس، لأنه إذا أخبرتنا الآن بما تعرفه عنه، فربما لن نضطر لإرسال دورية مسلحة إلى بيته وإعتقاله أمام زوجته وأولاده، ثم إبقائه عندنا بالقدر الذي يتطلبه التحقيق، ليس من قبلنا فقط، بل أيضاً من قبل من هو أقسى منّا، وأخيراً قد يضطرون لإرساله لدمشق لاستكمال التحقيق، وبعد هذا لا أحد يدري ماذا يحصل.

أنت: ولكنه كان سكراناً فعلاً.

الشخص الثالث: نفهم ذلك، ولكن ماذا قال؟

أنت: بالمختصر اتهم يحيى بأنه يدير ظهره للثورة. وبأنه يتركها للأصوليين والمتشددين والأغراب، يأخذونها إلى حيث يشاؤون ويصنعون منها ما يريدون، بدل أن يشارك هو وأمثاله، ويعملوا على جعلها ثورتهم أيضاً. ولما أجابه يحيى، أن ذلك كلام لا معنى له، وقد بات متأخراً دهراً، فقد مضت الثورة بعيداً على الطريق المعاكسة لكل تلك الأهداف التي أعلنتها في البداية، وصدق بها كل الشعب. بدا وكأن زياد لا يحتمل سماع المزيد، فوقف وصاح: (من قال لك إنه يوجد هدف آخر للثورة غير إسقاط النظام). وهذا شيء برأيي لا يمكن أن يعنيه لو لم يكن مهتاجاً وغاضباً لهذه الدرجة، فلطالما كان يقول خلافه.

النقيب عساف: أظن هذا يكفي بخصوص زياد، ولكن ماذا عن يحيى كمال؟

أنت: ذكرت لكم كل شيء.

النقيب عساف: يحيى شاعر أيضاً؟

أنت: نعم، شاعر وناقد ولكنه لم يطبع للآن أي كتاب.

النقيب عساف: وهل يكتب مقالات سياسية؟

أنت: أحياناً، قبل الثورة، قبل الأحداث أقصد، نشرت له الصحف اللبنانية بعض المقالات، وقد سمح لمقالاته جميعها بدخول سوريا. وما أعرفه أنه لم يتعرض لأي مساءلة.

النقيب عساف: وبعد الثورة، ألم يستمر في الكتابة.

أنت: لا أعلم، هو ليس صديقي كزياد، ولا يخبرني ماذا يكتب أو يفعل أبداً، أعرف أنه ليس لديه أولاد، وقد ترك زوجته مؤخراً. ويأخذ بصورة مكثفة أدوية إكتئاب.

النقيب عساف: سؤالي صديقي، هل تعلم إذا ما كان يكتب باسم مستعار؟ هاني شمس، أو جان عبود مثلاً، أم لا؟

أنت: لا أعرف، أذكر أنه في أول الأحداث تقريباً، أرسل لي على الأنترنيت، رابط مقالة على موقع صحيفة الصباح البيروتية، لكاتب لا أذكر اسمه، شعرت حينها أنه هو كاتبها، ولكني لم أستطع أن أتأكد، كما لست متأكداً الآن. هو لم يقل لي، ولم يقل أحد أمامي إنه كاتبها.

النقيب عساف: وهل تذكر عنوان تلك المقالة؟

أنت: أذكر أنها تدور حول فكرة سمعت يحيى يرددها على مسامعنا أكثر من مرة، وكأنها من اكتشافاته، وهي أن النظام عندما أعلن أن ليس أمامه إلا أن ينتصر، بأية وسيلة ومهما كان الثمن، لم يترك للطرف الآخر إلا وأن يواجهه بالمنطق نفسه، ويعلن أنه ليس أمامه سوى الانتصار، بأية وسيلة ومهما كان الثمن. وكان رأيه أن هذا هو ما أخذ البلد إلى الخراب.

الشخص الثالث: وماذا عن مقالته (نهاية الأبدية) هل قرأتها؟

أنت: نعم قرأتها، مقالة شبه دينية، وقد اختلفنا بسببها.

الشخص الثالث: ولكنها كانت منشورة باسم جان عبود.

أنت، مرتبكاً وبصوت متقطع: لا أذكر الاسم. ولكن.. نعم.. لم تكن منشورة باسمه.

النقيب عساف: ما بالك يبدو وكأنه يوجعك شيء.

أنت: لا شيء، معدتي تؤلمني قليلاً، فأنا لم آكل شيئاً اليوم.

النقيب عساف: أخي حمدان. نشكرك، ونعتذر منك إذا سببنا لك أي إزعاج، ومرة ثانية نعتذر منك لأننا اضطررنا لجعلك تنتظر، نحن نحترمك ونقدر تعاونك. وبحال تعرضك لأي مشكلة، تستطيع الاتصال بي شخصياً، مع أن يوسف باعتقادي يكفي ويوفي. أوصل له سلامنا، رجاء.

4 – العودة

سلمى: عادة تخبرني!

أنت: كنت ستقلقين وستخافين، وليس هناك حاجة لذلك.

سلمى: لماذا إذن اتصلت بي تسأل عن الفتاتين، وأنت تعلم أنهما عند أمي؟

أنت: أحببت أن أسمع صوتك قبل ذهابي، فذلك يشعرني بالطمأنينة.

سلمى: صدق، أنه بعد مكالمتك، وكنت في قاعة الصف أعطي درساً، إنتبهت طالباتي إلى شحوب وجهي. وأحضرت لي إحداهن كباية ماء.

أنت: كل هذا وأنا لم أخبرك! فكيف لو كنت أخبرتك.

سلمى: وماذا سيحدث لزياد الآن؟

أنت: لا أعرف، أظنهم سيحققون معه ولكن لن يعتقلوه. قلت لهم إنه كان سكراناً، ولا يدري ماذا يقول.

سلمى: وهل أخبرتهم ما يقوله عندنا؟

أنت: طبعاً لا. مجرد كونه في بيتنا يتكلم هكذا، يحمّلنا مسؤولية! حتى وإن كنا مختلفين معه، هكذا هم يفكرون.

سلمى: وماذا عن يحيى، سيحزنني كثيراً أن أعلم أنه اعتقل.

أنت: ماذا تريدينني أن أفعل، يعلمون كل شيء، أحضروني فقط ليتثبتوا من أشياء يعرفونها أصلاً. وكما قلت لك إنهم عندما شعروا بأني أتهرب من الأجوبة، هددوني.

سلمى: وهل ستخبر زياد ويحيى بما حدث؟

أنت: طبعاً لا. ماذا سأقول لهم؟

سلمى: قل لهم إنهم استدعوك وحققوا معك حول الجلسة تلك، وإنهم يعرفون كل شيء عنهما. هل نبهوك هناك أن لا تفعل.

أنت: نعم، نبهني يوسف، ولكن ماذا عسى يفيد؟

سلمى: قد يهربان، أو يتواريان لفترة قصيرة، أو يتصلان بأحد المسؤولين من أقاربهما، أظن يحيى له قريب في الأمن بدمشق، وربما يستطيع مساعدته كما ساعدك يوسف.

أنت: قريب يحيى ذو مرتبة عالية، وسوف يساعده بأية حال. ولماذا يهربان أو يتواريان؟ لا أظن أنه يجب أن نقلق عليهما كثيراً، فليست الاتهامات كبيرة لهذا الحد. ها أنا ذهبت وعدت.

سلمى: كيف ليست كبيرة!؟ أنت قلت إنهم يشكّون بأن زياد له اتصالات مع الخارج. وإن يحيى يكتب باسم مستعار مقالات معارضة للنظام. بينما أنت قريب يوسف، ويعرفون بأنك، وإن لم تكن مع النظام مئة بالمئة، فأنت ضد الثورة.

أنت: سلمى، أرجوك لا تزيدي الأمر صعوبة علي، كيف تريدين مني أن أخبر زياد ويحيى بما حصل؟ كل ما سألوني وكل ما أجبت؟ لن يفهموه إلا بكونه وشاية.

سلمى: ولكنك لا تعتبر نفسك وشيت بهم، أليس كذلك!؟

أنت: لا أعلم، لا أعلم ماذا يسمى هذا، إذا لم يكن وشاية؟ ما أعرفه هو أني خفت عليك وعلى منى ومنال، وعلى نفسي أيضاً، إذا لم أقل هذا لك فلمن أقوله. صدقي، ما إن خرجت حتى أصبت بحكة شديدة في جميع أنحاء جسمي، وتقيأت مرتين. أرجوك يكفي.

سلمى: لم أقصد والله، حسناً حبيبي، حاول أن تنام الآن.

5 – أرض القيء والدم

سلمى باكية: استيقظت في الليل، لا أدري ما الساعة، على صوت حشرجته، ولما أضأت النور، وجدته ملقى على وجهه فوق الأرض، يسبح في بركة من القيء والدم.

 (اللاذقية 18/9/2013)

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى