صفحات الرأيمحمد حيان السمان

“حقوقُ الخِدْمة… و حُدودُ الحِشمة…”: السّلطةُ والجسدُ في دار الخلافة العباسية/ محمد حيّان السمّان

 

 

“والحكّامُ، لكيْ يشاهدوا كيفية عملِ الانضباطاتِ الكاملة، فإنهم يحلمون بحالة الطاعون”

– ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة –

يتحدّد معنى الجسد في السياق الفقهي الإسلاميّ، كما في سياق الآداب والرسوم السلطانية، بوصفه موضوعاً للضبط و السيطرة والإخضاع، على خلفية متطلبات نزوعٍ كبير، داخل السياقين المشار إليهما، إلى السلطة والتحكم وتنظيم العمران والتاريخ.

بناءً عليه، وفيما يشبه عملية استمرارٍ وتكاملٍ وتساندٍ، أنجزت كلٌ من تعاليم الشريعة الإسلامية أولاً، ثم رسومُ (قوانين) الاقتراب من السلطان والدخول عليه ثانياً، وضعَ تنظيمٍ صارم دقيقٍ لشؤون الجسد وأحواله في المجتمعات الإسلامية الكلاسية، تضاءلتْ معه إلى حد كبير ملامحُ الشخص، ونمتْ نمطية عامة ومنظومة متكاملة من الاشتراطات والطقوس الضابطة للجسد، تحقق متطلبات السيادتين العليا ( المقدسة) والسياسية في آن معاً.

و إذا كانت تعاليم الشريعة قد فقدت بالتدريج جزءاً من قدرتها على ضبط الأجساد، في الجانب العمليّ اليوميّ على الأقل، فإن قوانين الإدارة والرسوم المتعلقة بآداب الخدمة والاقتراب من مجال السلطة السياسية المركزي، كانت تكسب المزيدَ من الهيمنة والتأثير والقدرة الملموسة على الضبط و السيطرة. كأنّ الجسد، وقد تحرّر جزئياً من التزامات – المقدس الدينيّ – وتحديداته الضابطة، يستأنف طقوسَ التبجيل والإذعان من جديد ولكن إزاء – المقدّس السياسي – هذه المرة.

على سبيل المثال: كان يجري التسامحُ وغضّ النظر فيما يخص بعض المتطلبات الجسدية المتعلقة بآداب الذهاب إلى المسجد، والوقوف بين يديّ الله في الصلاة. بينما عوقب مباشرة وبكل قسوة وحَسْم، أولئك الذين خالفوا آداب وتعاليم الدخول على السلطان والوقوف بين يديه، ولو تعلق الأمر بأبسط التفاصيل، كما سنوضّح بعد قليل.

إن دراسة التساند والإمداد المتبادَليْن بين فقه الجسد عبر تراكماته المستمرة، وبين تحديدات وتمثيلات الرسوم السلطانية لأحوال الجسد، وهيئات الأعوان والزواّر داخل دار الخلافة العباسية ببغداد ( ترسيمات الطواعية بتعبير فوكو)؛ يمكنها – أي الدراسة – كشف المزيد من جوانب بنية المماثلة بين الله والسلطان في العقل العربي.

* * *

نوّهتُ في دراسة سابقة ( القدس العربي – ع 7423 – 1 أيار 2013 : الحاجب في دار الخلافة…) بأهمية كتاب هلال الصابئ :- رسوم دار الخلافة – من حيث أنه يتيح لنا فرصة نادرة للاقتراب من مجال السلطة المركزي، و الاطلاع على الإجراءات الإدارية والتمثلات الرمزية الصارمة التي يتوفر عليها المجال، فيما يخص الآداب وقواعد السلوك التي يتبعها الداخلون إلى دار الخلافة العباسية ببغداد، و مهامّ الموظفين وأدوارهم في حفظ هذه الآداب والسهر على تطبيقها وإلزام الكلّ بها.

و يمكننا الآن إضاءة عمل السلطة على الأجساد، و موقع الجسد على شبكة الضبط والتنظيم والمراقبة، داخل دار الخلافة المشتملة على “الحضرة المقدسة” و الأبهة الملوكية، و خلاصة ما تمخّضت عنه سيرورة التمثلات المتعلقة بقداسة السلطة، وتأمين تعاليها المَهيب المسيطر.

* * *

لقد عمل الصابئ في ديوان الإنشاء فترة طويلة، حيث تلتقي هنا ذروة البلاغة اللغوية، مع المعرفة الدقيقة “في ترتيب الألقاب والرسوم”. و من الواضح أن ملازمة الصابئ – بحكم عمله هذا- لدار الخلافة ( حضن السلطة) سنواتٍ، مكنته من اختبار مباشر يوميّ لطقوس الضبط والإذعان التي كانت تقوم على قدم وساق داخل الدار. بكلام آخر يمكن القول: إن المشهدية التي طالما تملاها الصابئ، لأحوال الجسد و مقاماته في الحضرة المقدسة، تبدو حاضرة بقوة في سرده، ابتداء من المقدمة التي تزخر بعبارات التبجيل والتصاغر واستنهاض الأجساد لتشارك في مهرجان الانصياع هذا :

“الصدور بموالاته مترعة، و الألسن بالثناء عليه مجتمعة، و الأيدي بالدعاء له مرتفعة”.

إن تسابيح الجسد بحمد السلطان، التي يبثها هلال الصابئ في مطلع الكتاب، تأتي بمثابة تأطير لغوي- بصري لتلك المشهدية. و نلاحظ هنا أن الصابئ يستدعي الجسدَ مجزأ، ليخص كل جزء منه بنوع يناسبه من المهام الضرورية في تقديم فروض الطاعة والتبجيل.

إن دار الخلافة، كما يعرضها هلال الصابئ، تتوفر على ما أطلق عليه – ميشيل فوكو- تعبير : الفضاء الانضباطي، حيث لا شيء، من هيئات وحركات وأوضاع أجساد الحاضرين، إلا ويخضع للتنظيم والمراقبة والإدماج في نظام الإذعان للسلطة. وتسهر الرسومُ الموكلة بتنظيم هذا الحضور على مراقبة وقمع أي بادرة للوعي ب “الجسد الشخصي”، والتعبير عن هذا الوعي عبر الحركة أو الصوت أو اللباس…الخ.

ثمة آلة هائلة من المراقبة والضبط تعمل بدأب و صرامة وقسوة، على مدار الساعة و في كل مكان داخل دار الخلافة، كي لا يضلّ الجسدُ طريقه وسط حقل من المحظورات والالتزامات. وهذا الأمر ينطبق على الحواشي والموظفين في الدار، وعلى الزوار الوالجين رحابَ الحضرة أيضاً.

ففي حكاية جعفر بن ورقاء الشيباني المقيم في دار الخلافة “على رسم الخدمة”، ما يشير إلى أن تحرير الجسد من التزاماته الطقوسية الصارمة، ولو خلال الاستراحة القصيرة “بعد انقضاء الخدمة وانصراف الموكب” يعتبر بمثابة خرْق لنظام الانضباط الجسدي، يُرفع خبرُه إلى الخليفة الذي يأمر فوراً بمعاقبة أولئك الذين “نزعوا خفافهم، و وضعوا عمائمهم عن رؤوسهم” في حجرة الاستراحة. و هكذا يقوم الحاجب باستدعاء “مَنْ كان في النوبة – من المخالفين- فضرب كل واحد منهم عدة مقارع” . وتنتهي الحكاية بإعلان حاسم عن عودة الأجساد إلى صراطها المقرر “فما رُئي بعد ذلك إلا لازم للتوفر على الخدمة، متجنبٌ للتبذل”.

أحد موظفي الدار، وهو الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، يلقى كذلك عقاباً سريعاً مباغتاً بسبب مخالفته التعاليم الخاصة بانضباطية الجسد في الدار :

“كنت أجلس في دهليز باب الخاصة الذي يلي دجلة من دار السلطان…فإني لجالسٌ…إذ جعلتُ إحدى رجليّ على الأخرى، و كان بإزائي صديق لي من خلفاء الحجاب يودّني ودّاً شديداً، فوثب إليّ و ضرب رجلي ضربة مؤلمة بعصاً كانت في يده، فقمتُ مذعوراً…الخ”. و في تبرير هذه الهجمة المباغتة على الكاتب يقول صديقه الحاجب:

“نحن مأمورون إذا رأينا أحداً من الناس كلهم قد جلس في دار السلطان هذه الجلسة التي جلستها، و وضع إحدى رجليه على الأخرى، بأن تُجرّ رجله من موضعه حتى نخرجُه من حريم الدار”. و قد مَنّ الحاجب على صديقه أنه سامحه، ولم يطبق العقاب المقرر في مثل هذه المخالفات “و والله لو أن هاهنا مَنْ أتخوف أن يرفع الخبر لما قدرتُ على مسامحتك !”.

و يطال العقابُ الداخلين إلى الدار أيضاً، في حال بدرتْ منهم أية مخالفة تتعلق بالأجساد، أو بما أطلق عليه- فريد الزاهي- “إستراتيجية المظهر”، من لباسٍ أو هيئة أو أي تصرف يعكس تخففاً للجسد من منظومة الضبط و الانصياع :

“اتفق أن دخل ابنُ أبي الشوارب القاضي دارَ المطيع لله بخف أحمر، و رآه أبو الحسن بن أبي عمرو الشرابي الحاجب…فقال له : تأتي أيها القاضي إلى خليفة آبائك في العناد والمباينة. يا غلام انزع خفه واعلُ به رأسه ! وتناولَه من المكروه قولاً و فعلاً بما أسرف فيه. و عرف المطيع لله ذلك فلم ينكره…” . و في واقعة أخرى “أن المكنى أبا الهيثم حضر يوماً في دار عضد الدولة، و أخذ عمامته من رأسه و وضعها بين يديه، و رآه بعض أصحاب الأخبار فكتب بما كان منه، و خرج أستاذ دار… فشتمه و أخذ العمامة و ضرب بها رأسه حتى تقطعت قطعاً، و وكل به واعتقله…”.

إن – إستراتيجية المظهر- داخل دار الخلافة مسألة مقررة سلفاً، و مرسومة بكل تفاصيلها من خلال منظومة دلالية رمزية تطال الألوان والأشكال والهيئات و التصرفات. و على الداخلين إلى هذا الفضاء الانصياع الكامل لما هو مقرر مرسوم، والتخلي عن أي إستراتيجية خاصة أو اجتهاد شخصيّ .

* * *

يغدو نظامُ الإخضاع، و منظومة الإجراءات الضابطة للجسد في دار الخلافة، أكثر صرامة وتضييقاً و تطلباً، كلما اقتربت الأجسادُ من بؤرة السلطة و مركزها الأبهى : الذات السلطانية. إن الاشتراطات على الجسد المسموح له بولوج البلاط، و معايير الجسد/ النموذج في التواصل مع السلطان ( آداب صحبة السلطان) تتصاعد وتشتدّ في سرد الصابئ وصولاً إلى النموذج الأفضل و الأجلّ : أن يكون “شخصاً صَمَتاً، و جسماً صدىً ( أي لا حياة فيه. و الصدى : بدنُ الإنسان و هو ميت)، لا يخرج منه شيء كالبصاق والمخاط، و لا يدخل إليه شيء كالطعام والشراب. و متى استرسل في ذاك مع سلطانه ذهبت بهجته من عينه وقلبه، و ظهرت نبْوته في طرْفه و لفظه”.

يستبطن هذا التمثيل الثنائية الناظمة لموضوع الجسد في الفكر الإسلامي، أعني ثنائية الجسد/ الروح، أو الجسد/ النفس. لكن السياق هنا يستبدل بموت الجسد في سبيل نجاة النفس/ الروح، موتَ الجسد من أجل الحصول على رضا وقبول السلطان.

لقد لاحظ –عز الدين علام– خلال استعراض صورة السلطان في ( الآداب السلطانية ) أن “الرعايا واضحة في وضعيتها الدونية المبنية على الطاعة والخضوع واستسلام الجسد أمام جبروت – الذات السلطانية –”. و لكن من الهام الإشارة هنا إلى أن استسلام الجسد أمام جبروت الذات السلطانية، يخضع للمراتبية الصارمة أيضاً، بحيث يغدو الاستسلام بحد ذاته ميزة ليست متاحة للجميع. فالوزراء والأمراء وأصحاب المراتب ممن يحضرون مجلس الخليفة و كبار الضيوف..الخ، هؤلاء– فقط – يُمنَحون فرصة ( ميزة و حظوة ؟!) التعبير عن استسلام الجسد أمام الذات السلطانية. أما من هُمْ دون هذه الطبقة فلا يحظون حتى بفرصة التعبير عن استسلام أجسادهم ( منزلتهم تقصُر عن ذلك بحسب تعبير الصابئ). من هنا يجب أن نلاحظ أن التعليمات الصارمة حول تصرّفات و تعبيرات الجسد المستسلم لجبروت السلطان تتجه إلى هذه الطبقة، و تخصها – حصرياً- بالخطاب :

“مِنْ أولى الأفعال بالوزراء و من هو في طبقتهم أنْ يدخلَ إلى حضرة الخليفة نظيفاً في بزته و هيئته، وقوراً في خطوه و مشيته…

و سبيله أن يقلّ الالتفات إلى جانبيه و ورائه، والتحريك ليده أو شيء من أعضائه، أو رفع رِجْلٍ للاستراحة عند إعيائه، و أن يغض طرْفَه عن كل مرأى إلا شخص الخليفة و حده…” .

هذه الطبقة كانت تظفر أيضاً بميزة تقبيل يد الخليفة، قبل أن يُعدَل عن ذلك إلى تقبيل الأرض بين يدي الخليفة :

“و أما أوساط الجند و مَنْ دونهم و عوام الناس و مَنْ لا رتبة له منهم، فمنكر منهم تقبيل الأرض، لأن منزلتهم تقصر عن ذلك” !.

* * *

إن حدوداً صارمة و مراقَبة ترتفع بين جسد السلطان بحدوده اللحمية و محيط تفاعله الحواسيّ ( من شمّ و نظر و سَمْع…الخ)، و بين الأجساد التي تقترب منه. فالتعبيرات المسموعة و المرئية والمشمومة التي تطلقها الأجساد في حضرة السلطان، يجب أن تتطابق مع المعايير المقررة سلفاً، والتي تؤهلها للعبور نحو حواس السلطان، بحيث يستقبلها الأخير بالرضا والقبول. و أي تعبير جسدي مخالف لتلك المعايير والضوابط، يتقاطع مع المحيط الحواسيّ لجسد السلطان، سيلقى مرسله عقاباً صارماً و سريعاً.

فسَمْعُ السلطان يصانُ بأن يُخفضَ محدثه الصوتَ في حديثه و محاورته “و لا يرفعه إلا بقدر السماع الذي لا يحتاج معه إلى استفهامه و استعادته”. و على الداخل إلى حضرة الخليفة أن يتبخّر “بالبخور الذي تفوح روائحه منه، و ينفح طيبه من أردانه و أعطافه، و أن يتجنب منه ما يعلم أن السلطان يكرهه و يأبى شمّه”. و أن “يجعل بين ثيابه شتاءً و صيفاً جبة فيها قطن يمنع من ظهور العرق”.

حتى عملية التنفس ذاتها، التي اعتبرها – سبّير Saphir – بحق، واقعة ثقافية لا فرق بينها وبين أي نظام سياسي أو ديني؛ فقد تم الالتفات إليها في مهرجان الانضباط الجسديّ هذا : “أنْ يواصل – جليسُ السلطان- السواكَ، و يحفظ لهواته عند المناجاة والمحاورة…”.

و لكن التراتبية الاجتماعية التي تتيح تقاطع حقول الحواس بين أجساد – الخاصة – وبين الذات السلطانية، ضمن المعايير المشار إليها، لا تلبث أن تقف عاجزة عند الحدود – اللحمية- للجسد، وتتعطل نهائياً. إن – تفريد – جسد السلطان يغدو نهائياً كاملاً في المستوى اللحمي. و إذا كان ممكناً للأبواب الصفيقة على محيط حقل الحواس السلطانية، أن تفتح في شروط معينة لتعبر خلالها التعبيرات المقطرة والمحسوبة لأجساد الخاصة؛ فإن الجسد – اللحمي – للسلطان مصمت مغلق و بعيد المنال :

“و ربما تقدّم الوزيرُ أو الأميرُ فأعطاه الخليفة يده مغشّاة بكمه إكراماً له بتقبيلها، و اختصاصاً بهذه الحال الكبير محلها. و العلّة في أن يغشيها بكمه لئلا يباشرها فمٌ أو شفة” .

محمد حيّان السمّان: باحث من سوريا

موقع الآوان

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى