صفحات مميزةياسين الحاج صالح

حقوق الأقلّيات أم جمهورية المواطنين؟


ياسين الحاج صالح

توارد غير مرة في شهور الثورة السورية كلام عن “حقوق الأقليات” في سورية على ألسنة مسؤولين غربيين، فرنسيين وأميركيين بخاصة. سياق الكلام يحيل إلى حث المعارضة السورية على مزيد من الاهتمام بهذه الحقوق أو إظهار حرص أكبر على رعايتها، ويبطنه قلق غير موضّح من إهدار هذه الحقوق.

بيد أن لتعبير حقوق الأقليات تاريخا وتضمينات يوجبان حذرا أشد في استعماله، إن لم يكن التخلي عنه تماماً.

كانت “حماية الأقليات” شعاراً أساسياً من شعارات القوى الغربية في مواجهة السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر وحتى سقوطها في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويضمر الشعار أن المضطِهد أو من تجب الحماية منه هو “الإسلام”، الذي هو في آن دين المسلمين، وهو السلطة في ديار المسلمين. وهو بطبيعة الحال دين متعصب وعدواني وعنيف، ويفرض بالقوة على غير المسلمين التحول عليه.

ليس هنا مجال النقاش عما إذا كان غير المسلمين، وغير المسلمين السنيين، مضطهدين على نحو نسقي في المجال العربي التركي، أم أنهم مخفضو المكانة عموما، مع تفاوت (حال المسلمين غير السنيين أدنى من حال غير المسلمين، مسيحيين ويهوداً) يتعرضون لحملات قمعية حين يتمردون على السلطة المركزية، على نحو ما كانت تفعل الامبراطوريات كلها، وعلى نحو كان يصيب تمردات ولاة وقبائل سنيي المذهب؛ لا مجال للتساؤل أيضاً عما إذا كان إفراد الإسلام (ديناً وعالماً ثقافياً وسياسياً)، يعكس خصوصية حقيقية له، على ما كان يصور أدب غربي غزير له اسم معلوم، وله مستهلكون من العرب المعاصرين لأسباب مقاربة، أم هو متصل باستراتيجيات السيطرة السياسية والثقافية العلمية للقوى الغربية الصاعدة في القرن الثامن عشر وبعده، ثم من جديد بعد نهاية الحرب الباردة. لكننا نتشكك في كل عقيدة خصوصية، وسنكون في أسوأ وضع معرفي وأخلاقي وسياسي ممكن لنقد عقيدة الخصوصية الإيجابية الخاصة بالإسلاميين (الإسلام متفوق على غيره)، بينما نحن نتبنى عقيدة خصوصية سلبية تجعل من الإسلام أسوأ من غيره، عقيدة وتاريخا وسياسة.

معلوم أن الدول الغربية الأساسية تقاسمت “حماية الأقليات” في المشرق، فكان الكاثوليك من نصيب فرنسا، والأرثوذكس من نصيب روسيا، وخصت بريطانيا نفسها بحماية الدروز. وقد عمت بركات الحماية الدروز، المتحدرين من أرومة إسلامية، إثر الصراع الماروني الدرزي عام 1860 في لبنان، بعد أن كان المقصود بالأقليات أساساً مسيحيي المشرق من “الإسلام”، وما كان لأحد أن ينافس فرنسا على “حماية” الموارنة.

في عصر التنظيمات العثمانية، وهو أيضا زمن “المسألة الشرقية” و”حماية الأقليات”، صار مسيحيون يحظون بحماية القنصليات الأوروبية، وينالون أفضليات تجارية، يدرجها مؤرخون في خلفية ما تعرض له مسيحيو دمشق من مذبحة عام 1860.

وحين انطوت السلطنة في نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يكن قد بقي من السيادة الإسلامية غير رموزها. لكن ما حل مكانها في سورية ليس جمهورية المواطنين، بل انتداب فرنسي تمركز تفكيره كثيرا جدا حول الدين والمذهب في حكمه لسورية ولبنان. كان الانتداب الفرنسي يرى خيال الإسلام والجامعة الإسلامية وراء أية مقاومة تواجهه، ويرد القومية العربية إلى مجرد قناع جديد للإسلام. وعرفت عنه محاباة لغير المسلمين وللمسلمين غير السنيين، حتى أنه قسم سورية غير مرة إلى دويلات على أسس مذهبية (وجهوية).

ليس هذا المآل غريبا على فكرة “حماية الأقليات”. ففي “برنامجها الوراثي” تحمل هذه الفكرة ثلاثة أشياء: نظرة دينية إلى مجتمعاتنا، أو تعريفاً حصرياً لها بالدين والمذهب؛ وحكم إدانة مبرم على “الإسلام”، موروث من القرون الوسطى، ولم يضطر الأوروبيون عموما إلى تعديله (ولا تعدل الثقافات أحكامها إلا مضطرة)؛ ثم منح القوى الغربية نفسها دور الطبيب المعالج.

وبفظاظة مميزة لورثة “سجن الشعوب”، تظهر عناصر هذا البرنامج اليوم في تصريحات السياسيين الروس، التي تجمع بين تحذير جلف صريح من حكم سني في سورية، وبين انتحال صفة حامي الأقليات، المسيحيين والعلويين بخاصة. يوم 16/7 تحدث وزير الخارجية الروسي لافروف عن أن بلده لا يمكن إلا أن يهتم بمصير المسيحيين في سورية، قبل أن يضيف شيئا عن انتشار منظمة القاعدة في سورية. وفي لقائه مع وفد من “المنبر الديمقراطي” السوري المعارض قبل ذلك بأسبوع، نسب أحد أعضاء الوفد إلى الوزير المتعجرف قوله: “هناك اتصالات بين المسيحيين في سوريا وروسيا ومن مصالحنا الحفاظ على هذه الاتصالات”. وهذا في سياق يتضمن أيضا التالي: “في حمص حرب أهلية حقيقية والبعض يسميها ستالينغراد”؛ “أعلن بان كي مون عن النزاع الطائفي ويتم قتل المواطنين حسب الطائفة”؛ “يقلقنا أخبار عن وجود تنظيم “القاعدة” في سوريا ومقاتلين من ليبيا مثل كتيبة الفاروق”، فضلاً عن اغتياب المجلس الوطني السوري. هذا السياق يظهر درجة تمركز مقاربة الروس للشأن السوري حول الدين وتصويرهم الثورة صراعا طائفيا، وعداءهم الفظ للإسلام. وأسس الموقف الروسي هذه هي ما تجعله لا يغتفر أكثر من مضمون الموقف نفسه.

وهذا البرنامج مستبطن بكامله في عقيدة “حقوق الأقليات” اليوم.

وهو يغفل الواقع الجوهري المتمثل في أن ما نواجهه في سورية اليوم ليس الاستبداد السلطاني القديم، وأنه بقدر ما نُعرِّف الأقليات تعريفا دينيا أو مذهبيا، وهذا ما تضمره سياسة الأقليات، سواء كان عنوانها مبدأ “حماية الأقليات” القديم أم “حقوق الأقليات” اليوم، فإن هذه الأقليات كانت تشغل في ظل الحكم الأسدي موقعا في النظام أقرب إلى الحظوة منه إلى التمييز ضدها (وهذا واقع لم تأت على ذكره أو تستنكره قوة غربية يوماً)، وإن من الخرق على الأقل الدفع بمبدأ “حقوق الأقليات” في وجه ثورة لم تنطلق لأسباب دينية أو مذهبية، ويواجهها نظام امتيازي بوحشية قل نظيرها، وينتحل هو لنفسه عقيدة “حماية الأقليات” (حمايتها من أكثرية معرّفة دينياً، وتبدو عدوانيتها طبيعة متأصلة).

النظام الأسدي ليس وريثاً للسلطنة العثمانية، بل للانتداب الفرنسي. فهو مثله متمركز التفكير في شأن المجتمع الذي يحكمه حول الدين والمذهب، وهو مثله لا يُكن عواطف إيجابية (كي نستخدم لغة معتدلة) حيال قطاع واسع من محكوميه، الأكثرية الدينية، وهو أكثر منه بارع في سياسة الأقليات، محليا وإقليمياً.

وغاية ما تتطلع إليه هذه السياسة هو إحلال سلطان محل سلطان، وتبديل القاعدة الاجتماعية الثقافية للحكم السلطاني، مع بقاء بنى السياسة والدولة السلطانية على حالها، ومع تجديد تخارج المجموعات الثقافية. ليس مصادفة ان أورث حافظ الأسد الحكم في أسرته. كل شيء سلطاني في “سورية الأسد”، والتوريث لا يأتي غريبا عليها.

وقد تكون هذه الدولة السلطانية الجديدة دولة امتيازات استبدادية مثل النظام الأسدي، أو استعمارية مثل الانتداب الفرنسي، لكنها يمكن أن تكون ديمقراطية من نوع خاص، “الديموقراطية التوافقية”. أي نظام سياسي تتحول بموجبه المجموعة الثقافية إلى وحدات سياسية ثابتة، وتتخذ القرارات المهمة فيه بالإجماع، مع منح أي جماعة الفيتو على ما لا يناسبها، ويتميز بقدر واسع من اللامركزية وإدارة الجماعات لشؤونها على نحو يذكر بالدولة السلطانية التقليدية. “الديموقراطية التوافقية” دولة سلطانية بلا سلطان. وهي أقصى ما يؤول إليه كلام القوى الغربية عن حقوق الأقليات. ندع جانبا إن حال الأقلية المسلمة ليس مثاليا في أكثرها، أما كان أولى بتلك القوى أن تكلمنا على المساواة والمواطنة والديموقراطية وسيادة القانون؟

وبينما تزداد الحاجة في سورية إلى نقاش سياسي وحقوقي في هذه الشؤون، فإن من المهم أن نكون على بينة مما يتداول من شعارات وأفكار. “حقوق الأقليات” التي تثابر قوى غربية على إقحامها في النقاش حول المستقبل السوري تحيل في أحسن أحوالها إلى ديموقراطية توافقية. وفي سياقاتنا المشرقية، المتميزة بهشاشة الدول، كيانات ومؤسسات، وافتقار الإقليم إلى نظام أمن مشترك فعال، والتخلف الاقتصادي، تبدو الديموقراطية التوافقية قرينة لضعف الاستقرار الداخلي والخارجي معاً.

إن كان لنا أن نتجاوز البنى السلطانية، فليس المخرج إبدال سلطان بسلطان على ما فعل الانتداب الفرنسي والنظام الأسدي، وما قد يفضل الإسلاميون اليوم، ولا هو دولة سلطانية بلا سلطان على ما هو الحال في لبنان، بل جمهورية مواطنين قائمة على أسس علمانية منفتحة.

دون هذه، الكثير من المشاق، منها عقابيل السلطانية الجديدة، ومنها ضعف العنصر التجريبي في تفكيرنا السياسي، لكن جمهورية المواطنين تعيّن الاتجاه الذي ينبغي أن نسير فيه.

المستقبل

الصورة للمصور
Alessio Romenzi
أليسيو رومنزي
صور هذا العدد الرئيسية كلها لهذا المصور بمثابة تحية من “صفحات سورية” له، ولأعماله المميزة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى