مراجعات كتب

“حقول الذرة” لسومر شحادة: رصد الجحيم السوري/ مناهل السهوي

 

 

في روايته الأولى “حقول الذرة”، “دار ممدوح عدوان” يسعى سومر شحادة إلى رصد الجحيم السوري عن طريق الأزمات الفردية لشخصيات تسعى للتغيير والانخراط في بناء وطن جديد. الرواية التي حصدت جائزة الطيب صالح (2016) تقدم شخصيات تتفاوت في الهشاشة والمصائر وطرائق السعي خلف أحلامها، ابتداءً من ملهم الأستاذ الجامعي الذي اضطر إلى أن يختبئ داخل ملحق بناية، بعد أن أصبح مطلوباً للأمن أو كما اعتقد هو. في هذا المكان السرّي ينكبّ على كتابة مذكراته وفقاً لما عاشه خلال الفترة الماضية، فيما تواظب حبيبته لمى على تزويده بما يحتاجه من دفاتر وطعام، وستكون هذه الدفاتر تقسيماً داخلياً أيضاً للرواية. سنتعرف تدريجياً إلى شخصيات أخرى وهم مجموعة أصدقاء ملهم: عدي، وغالية، ولمى، وموفق. هؤلاء كانوا يجتمعون في مكتبة الأخير مدفوعين بقوة الأمل لتحقيق تغيير سياسيّ واجتماعيّ، فيصدرون جريدة ويوزعونها سرّاً بين الأحياء، لكن الأمر لن يطول حتى يُكشف أمرهم وتداهمهم حملاتُ اعتقالٍ، لن يفلت منها موفق العنصر الأكثر حكمة لتتشتت بعده المجموعة في جهات مختلفة، مقدماً في ذلك صورة نموذجية للقمع من جهة، وقلة الوعي للمفاهيم الكبرى من جهة أخرى.

بعد حادثة الاعتقال يفرّ ملهم ويختبئ في ملحق معزول عن العالم ويحيا في مأزق يتعلق بموقفه أولاً مما يحدث ومن دوره الفعلي، فهل سيكون هذا الدور الكتابة وتدوين الألم من حوله وحسب؟ هكذا تتطور أحداث الرواية من خلال كشف كلّ من أفراد المجموعة عن تصوره في التغيير، وغالباً هذا التصور هو ردة فعل لفكرة أو لمفهوم أو لحدث مما جعل خيوط حيواتهم تتشابك بعد أن كانت واضحة حين كان موفق المرشد لهم، عبر سرد رشيق في معالجة الفكرة ذاتها التي تحكم الفرد وسط جماعة تسعى للتغيير، وليس العكس، أي تقديم مفهوم الجماعات، ففي سياق الرواية نملك شخصاً واحد استمر بذات التصور، وهو يونس القائد في أحد التنظيمات المتشددة، أمّا باقي عناصر الصراع فهم متقلبون يبحثون في اتجاهات متعددة ويسعون للوصول إلى حل يعلمون مدى تعقيده.

تكمن معاناة ملهم منذ البداية في بحثه عن صلة بالواقع، صلة تقلب موازين المكان وسلطته وتاريخه لكن المشكلة هي في الوعي لحقيقة هذا التغيير، من أستاذ جامعي لمفكر في جماعة مثقفة تسعى لدعم الثورة والحراك الشعبي، إلى متخفٍّ في أحد الملاحق، إلى رجل يسعى للالتحاق بأحد التنظيمات المتشددة، وينتهي به الأمر مرة أخرى لأستاذ جامعي يرافق كلّ يوم إحدى طالباته، في الحقيقة ليست المشكلة في تنقلاته الفكرية المتعددة إنما في طريقة وكيفية تعامله مع هذه الاختلافات “مثلما لم يكن الاستقلال شرطاً كافياً لنيل حريتنا، لن يكون إسقاط السلطة شرطاً كافياً لنيل حريتنا، المعركة التي أمامنا هي معركة أخلاقية في الدرجة الأولى، أضف إلى كونها معركة بناء وعي، وهي أصعب أنواع المعارك”.

**

بُنيت أحداث الرواية على خطين أساسيين، أحدهما نفسي يرافق البطل على طول الرواية والآخر حدثٌ طفولي يعود في نهاية الرواية ليثبت أن العنف هو فعل غير مجاني، وأنه يعود دوماً بشكل آخر، الخط الأول يتعلق بالفتاة التي خبأها ملهم في مكتبه في الجامعة بعيداً عن حملات الاعتقال ليعود ويجدها قد اختفت رغم أنه أغلق الباب بنفسه، ليلاحقه هاجسها في أكثر لحظاته ضعفاً، بحثاً عن إجابة عمّا حدث لها، وإن تمكنوا من القبض عليها وماذا حلّ بها؟ امتلك ملهم منذ البداية الرغبة في التغيير ووصل إلى حدودها في بعض الأحيان، لكنه دوماً كان عالقاً في كلّ ما يريده، عالقاً بطريقة تثير الشفقة، ليس نوعاً من الانهزامية إنما هي الهشاشة الحياتية وفي أدق تفاصيلها في بلد محكوم بالهشاشة الفكرية والمعرفية “هذا جنون. تريد من الجميع التحول إلى قتلة؟ كيف تكون مع قتل ضد قتل؟ هكذا يصنع الانتصار في بلد منهزم”.

الحدث الثاني الذي يستدعيه الروائي السوري الشاب يتعلّق بطفولة ملهم، وذلك حين حاول الدفاع عن صديقته في وجه يونس الذي هددها بإطلاق كلابه الشرسة عليه والذي فقد عينه بضربة مفك من ملهم، ليعود ويظهر في نهاية الرواية، فيونس عدو الطفولة المغدور بضربة مفكّ على عينه تحول إلى متشدد بعين زجاجية ثم إلى قائد في إحدى التنظيمات المتشددة التي ستداهم قرية ملهم وتبيد أهلها، وتالياً سيحاول الانتقام من ملهم بطريقته.

**

يشكّل غياب موفق صاحب المكتبة اختلالاً لتوازن الجماعة، فقدان موفق هو فقدان للفكر وللتوازن والقدرة على فهم حجم المأساة والدمار، فهم المصطلحات الكبرى للثورات والأوطان والحب، ربما تبدو الرواية للحظة الأولى تدويناً سياسياً لكنها تكشف شيئاً فشيئاً الاختلال المعرفي بكلّ ما نرتبط به فكرياً وعاطفياً، فعجزنا عن فهم الإنسان ومعنى الوطن يؤديان إلى العجز عن فهم الثورة كمادة أولى في النهوض بإنسانيتنا ولا بدّ أن اغتصاب ملهم لحبيبته لمى في نهاية الرواية وفقدان طفلها منه وهربه هو شكل أول وأهم للإنسان الذي عانى أزمة الانتماء والوعي لجوهر الشعارات الكبرى، وهذا الأمر لا ينطبق فقط على ملهم إنما يتعداه إلى عدي الذي خرج من عباءة السلطة وانخرط معهم في نشاطهم الثوري، عاد مرة أخرى إلى إحدى التنظيمات المقاتلة إلى جانب السلطة، وغالية التي أرادت دوماً الحب كمقابل بسيط للبشاعة، تزوجت رجلاً لا تحبه بحثاً عن المال وعن الملل المبكر للحياة، وهكذا تظهر أزمات المعرفة والوعي عند النخب التي تعتبر الداعم الأول لأي حراك شعبيّ وثوريّ. إذاً المشكلة ليست في الخيارات إنما في مدى إحاطتنا ومعرفتنا بهذه الخيارات وسط جحيم لا يتوقف عن التهام حياتنا، لننتهي بلمى، الفتاة الحالمة القوية والتي كانت دوماً الداعم الأول لملهم فهي تغادر البلاد عبر إحدى المنظمات كضحية حرب لتظهر المفارقة الأقوى والأكثر ألماً، فهي ضحية حرب للرجل الذي آمنت به، الرجل الذي طالما أغرقها بالنظريات الثورية، ليغتصبها ويفرّ تاركاً حبيبته غارقة في دمائها “وجد نفسه وبشكل تلقائي يخابر لمى كي ترشده على الخطوات التي يجب اتباعها، نهض وأشغل التلفاز ثمّ توجه إلى المطبخ كي يرى ما يمكن أن يقدم لرفيقة الدرب والذكريات، شريكة الوطن الذي فكرا ببنائه سوياً، توجه إلى البراد فوجده خاوياً حتى من الخبز!”

حقول الذرة التي أحاطت القرية، وعاش فيها ملهم الطفل، كانت الملجأ والمورد والحياة، لكنها تتحول في النهاية إلى معابر للغزاة الجدد، إلى كتل من النيران تلتهم الأحلام الكبرى، وكأن الأوطان والحقول تأكل أبناءها على الدوام.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى