صفحات الناسمحمد أبي سمرا

حقول القتل في حلب/ محمد أبي سمرا

 

 

في الصحف والمحطات التلفزيونية، صارت روتينية واعتيادية أخبار إسقاط المروحيات العسكرية البراميل المتفجرة على أحياء المدن السورية الخارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد، لتقتل عشوائياً بقايا الأهالي المحاصرين فيها بين الحياة والموت البطيء، أو المفاجئ بانفجار برميل يسقط من السماء محشواً بالمتفجرات والشظايا المعدنية. غالباً ما لا يقول الخبر شيئاً سوى إحصاء عدد الجرحى والضحايا، ويترك لنا، نحن القراء والمشاهدين، تخيّل كيف تتمزق الأجسام البشرية وتتطاير أشلاء في فضاء المكان وتتساقط على الردم والركام.

أحياناً تُنشر أو تُبثّ صور بشر يظهرون، عقب انفجار البراميل، مكسوين بغبار كوني، كأنهم في مشهد قيامي لبدايات الخلق أو نهاياته. وهو يذكّر بمشاهد البشر التائهين في بعض شوارع نيويورك في 11 أيلول 2001.

والصور المبثوثة على صفحات الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي والشاشات التلفزيونية، تترك أثراً قوياً، لكنه آني. إذ سرعان ما تنطوي الصور أو تنطفئ. أما الخبر الذي غالباً ما يحدّد ويسمي أماكن سقوط البراميل وانفجارها، ويحصي أعداد الضحايا، فأقل حضوراً وأثراً، ولا يخلّف في الحواس والمخيلة سوى كلمات بكماء عن قتلى – أرقام في خبرٍ ميت يتكرر ليصير مادة تتراكم في الأرشيف.

*****

الصحافية غارانس لوكين، مراسلة مجلة “لونوفيل أو بسرفاتور” الفرنسية، كتبت في 21 آب/ أغسطس 2014، تحقيقاً ميدانياً عما تفعله البراميل المتفجرة التي تلقيها مروحيات نظام بشار الأسد على بقايا الأحياء وسكانها في مدينة حلب، فترجمت التحقيق منال نحاس ونشرته “الحياة” في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري. هذا في وقت بثّ تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” شريطي فيديو متتاليين خلال أسبوع، يصوران عنصرين من عناصره يذبحان صحافيين أميركيين، قبل تهديد التنظيم نفسه بذبح صحافي ثالث، بريطاني، كان “داعش” اختطفهم واحتجزهم، وربما اشتراهم من منظمات أخرى تشبهه وتماثله، لكنها قد تكون أقل منه افتتاناً بالذبح، وأكثر حاجة الى المال.

التزامن هذا يحمل على التساؤل عما فعلته وشعرت به وفكرت فيه مراسلة صحافية فرنسية، أثناء وجودها في حلب لتشهد على تمزيق البراميل المتفجرة أجسام بشر وتحويلها أشلاء، في وقت مشاهدتها شريطين يصوران “داعشيين” يذبحان صحافيين أجنبيين مثلها؟ ربما تحسّست عنقها. ربما غادرت حلب فوراً هاربة في اتجاه الحدود التركية. وقد تكون تخيلت مشاهد سبي رجال “داعش” نساءً أيزيديات، واغتصابهن وقتلهن. ولا بد أنها تذكرت صحافيين وصحافيات من أوروبا وأميركا، ماتوا أو قتلوا في حمص قبل سنتين، حينما كتب منها وعنها الروائي – الصحافي جوناثان ليتل، مشاهداته المروعة في حي بابا عمرو.

أما نحن فلنا أن نتساءل: لماذا لم يكتب صحافي عربي واحد تحقيقاً ميدانياً عما حدث ويحدث في سوريا؟ نحن؟! هيهات أن نحتاج الى مثل هذين الجهد والمخاطرة، ما دام لنا الصدْرُ وللعالمين، بعدنا، العجز، أي السفاسف والنوافل والترهات.

*****

كتبت لوكين عن شاب شاهدته يعتمر خوذة، ويلتقط قطع لحم بشرية عن الأرض، ويرفعها بيديه الى السماء. لم تكتب أنه بحركته هذه يشير الى جبهة الحرب التي صار الفضاء مساحتها، على ما يقول رجل يعمل في المشرحة المرتجلة في حي السكري الحلبي، حيث تُجمع أشلاء القتلى في اكياس توضع على أرض غرفة يحاول مكيفان جاهِدَيْن إبقاء حرارتها 20 درجة في صيف حلب اللاهب. كانت المشرحة مدرسة للبنات على جدرانها رُسمت وجوه نسائية يغطيها دهان أسود، ما يشي بأن “جهاديي الدولة الإسلامية” كانوا هنا قبل أن تطردهم جماعات الثوار في أواخر الشتاء الماضي. المدرسة – المشرحة تذكّر الكاتبة بمدرسة ثانوية في بنوم بنه بكمبوديا حقول قتل الجنرال بول بوت في العام 1975. وإذا كانت الصحافية قد زارت العاصمة الكمبودية قبل حوالى 40 سنة، فكم يبلغ عمرها اليوم، إذاً، فيما هي تشاهد حقول القتل في حلب؟ وكيف تعيش صحافية نهاراتها ولياليها، بعد أن تمضي سنين طويلة من حياتها، وهي تراسل العلم من حقول القتل؟

لم تشبّه بشار الأسد بجنرال حقول القتل الكمبودية. ولا تساءلت عن الفرق بين طياري وأطقم مروحياته الذين يدفعون بأيديهم وأرجلهم براميل الإبادة الجماعية على بقايا الأحياء في حلب، وبين جزاري “داعش” الذين ساهمو، باستمتاعهم بالذبح المشهدي أمام عدسات التصوير، في صرف أنظار العالم السادرة أصلاً، عما تصفه الصحافية المتسللة الى حلب: بعد سقوط برميل متفجر صباحاً على حي كرم الميسَّر، فحصد 20 شخصاً، صادفتْ قدمان وساقاً في آنية من حديد على الرصيف. غير بعيد من الآنية أُلقي غطاء على بقايا امرأة، قربها يقف رجل أبيض الشعر، هو زوجها، رافعاً عصاه الى السماء وصوته راجياً: “الله يهدم بيتك يا ب…”. طبيب أمراض عصبية من العاملين في المشرحة، يقول: السلاح الكيماوي يقتل المصاب ويبقي جسمه متماسكاً، أما بقايا هذه الأجساد فكيف يتعرف اليها أهلها الذين أحبوا أصحابها وأحاطوهم بحنانهم؟

لقارئ ما تصفه الصحافية الأوروبية الكاتبة أن يتساءل: أي نوع من البشر أولئك الطيارون وأطقم المروحيات الذين يقذفون البراميل المتفجرة على أحياء حلب؟ الجواب قاله عميد في أجهزة الاستخبارات في دمشق لشاب من أقاربه كان يشارك في تظاهرات ربيع 2011: “سنحوّلكم سماداً للتربة”. وها هي البراميل التي يصنعها أمثال العميد ويقذفونها على بقايا المعارضين، تقطّع أجسامهم، تجعلها أشلاء، تسحقها وتخلطها، فتصير عجيناً في حقول القتل.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى