أكرم البنيصفحات سورية

حقيقة تفاهم واشنطن وموسكو حول سورية/ أكرم البني

 

 

 

لم تكن الهدنة الهشة لتصمد، أو تخفت حدة القصف والعمليات الحربية في حلب والغوطة الشرقية لولا ضغط أميركي- روسي مشترك، وقبلها لم يكن اتفاق فيينا ليرى النور وتستمر مفاوضات جنيف حول الشأن السوري لولا قوة التفاهم بين واشنطن وموسكو.

أمر مفهوم أن لا يقيم بعضهم وزناً لهذا التفاهم أو يعتبره طفرة موقتة خلقها انشغال السياسة الأميركية بالانتخابات، وأمر مفسر أن يتوقع آخرون حصول تبدل جذري في مواقف البيت الأبيض بعد رحيل أوباما يطيح هذا التفاهم، غافلين عن حقيقة وجود إستراتيجية ترسمها مؤسسات قوية تحدد هوامش أي رئيس، وأن سياسة أوباما السلبية تجاه تداعيات الربيع العربي ليست من بنات أفكاره، بل هي انقلاب على سياسة تدخلية نشطة دفع ثمنها الشعب الأميركي من عافيته! ولكن ما ليس مفهوماً هو الاحتكام إلى العقلية التآمرية وتفسير التفاهم بغض نظر أميركي مقصود، إن لاستخدام روسيا كشرطي في المنطقة يحد من تمدد الجهاديين وطموحات اقليمية غير مرغوبة، وإن لاستنزاف هذا الخصم وجره إلى مستنقع شبيه بالمستنقع الأفغاني، وهو تفسير راج كثيراً إبان تدخل موسكو العسكري، ثم خبا بعد قرارها وقف العمليات الحربية وسحب القسم الأكبر من قواتها من سورية، لكنه لا يزال حاضراً عند بعضهم تحدوه صعوبة تقبلهم تفاهماً بين خصمين لدودين تاريخياً، ولا تزال معارك التنافس على النفوذ تدور بينهما في غير بقعة!

ولكن، لمَ لا يصح اعتبار التفاهم المعلن بين موسكو وواشنطن لإطفاء بؤرة التوتر السورية، حقيقة تخلقها مصالح ودوافع مشتركة؟ حقيقة لا يضعفها تراشقهما بتصريحات توحي بالتعارض والعداء، ولا خلافاتهما حول طابع المرحلة الانتقالية العتيدة ودور بعض رموز النظام السوري فيها، وحول إدراج بعض فصائل المعارضة المسلحة على قائمة الإرهاب.

أوليسَ حقيقة توافقهما على أولوية صب الجهود لسحق تنظيم «داعش» وأمثاله، وتبادل الأدوار لتغطية العنف الموظف للنيل منها؟ أولا يخشى الجانبان احتمال تحول الوضع السوري في ظل سلطة إسلامية إلى بؤرة لتوليد الجهاديين وتصديرهم ليعيثوا أذى في أصقاع الأرض؟ وألا يجمعهما خوف، وإن تباينت شدته، من بديل لا يحافظ على وحدة البلاد ومؤسسات الدولة وعلى التنوع العرقي والديني في المجتمع ويضمن حقوق الأقليات ونمط عيشها؟ وأليس قلقهما مشتركاً من الأعباء التي بدأت تثقل كاهل الجميع مع اتساع موجات النزوح والهجرة، فكيف الحال مع تواتر معلومات عن عناصر إسلاموية تتسلل عبر هذه الموجات وتضمر هدف متابعة نشاطها السياسي والعسكري في بلدان الاغتراب؟

ثم أليست حقيقة تحسبهما معاً، من انفجار منطقة، كالمشرق العربي متداخلة بشرياً وديموغرافياً، نتيجة تصاعد العنف في سورية واتــخاذه أشـــكالاً قبلية وطائفـــــية وعرقية؟ ومن يستطيع إنكار أكثر من دلالة وتصريح يؤكدان فيه إصرارهما على التعاون لتفكيك متأنٍ للصراع الـــسوري ومحاصرة فرص تصديره الى بلدان الجوار، ويخلصان إلى أن الأسلم لاستقرار المنطقة تحكمهما بعملية التغيير في البلاد والسيطرة على مساراتها؟

أيضاً ألا تجمع الطرفين ضرورة الأخذ برؤية تل أبيب حول تأثير مستقبل سورية في أمنها الإستراتيجي؟ وأليس بينهما قاسم مشترك يمثله لوبي صهيوني قوي في كلا البلدين، يُحسب لرأيه حساب في سياسات واشنطن وموسكو الشرق الأوسطية؟ وألا يصح النظر إلى بعض مواقفهما من قناة حسابات إسرائيلية تنوس بين بقاء نظام ضعيف حافظ لعقود على جبهة الجولان مستقرة، وبين تغذية الصراع لإحداث مزيد من الخراب، كي تأمن جانب هذا البلد عشرات مقبلة من السنين؟

ومع الاعتراف بأن ثمة دوافع قوية لبناء التفاهم بين موسكو وواشنطن لمعالجة الصراع السوري، علينا الاعتراف بأن نجاحه يرتهن بقدراتهما في التأثير في الأطراف المتصارعة وإرغامها على تنفيذ ما يريدانه، وأيضاً في بعض الأطراف الإقليمية المعنية به، لمحاصرتها وتحييدها.

صحيح أن قدرة موسكو باتت ملموسة في تطويع مواقف النظام بعد المساعدة العسكرية النوعية التي قدمتها، بدليل ما يبديه من مرونة شكلية في الاستجابة لطلباتها، لكنه عملياً لا يزال يرفض تقديم التنازلات السياسية ويصر على الحسم العسكري، وربما منحته نتائج الضربات الروسية حافزاً جديداً للسير في هذا الاتجاه، بخاصة أنه ضليع في توظيف ما يمتلكه من خبرات لتمييع ما يوافق عليه، ولكسب الوقت والرهان على مزيد من العنف لتغيير المشهد على الأرض، مستنداً إلى ميل إيراني يدعم هذا الخيار، ما دامت طهران تعتقد بأن السير في طريق التهدئة والمعالجة السياسية في ظل التوازنات القائمة، سيضعها، شعبياً وسياسياً، في موقع لا تحسد عليه ويؤثر بشدة في نفوذها الإقليمي ومستوى دعمها «حزب الله» وحلفاءها العراقيين.

في المقابل ربما يسهل على الطرف الأميركي الضغط على المعارضة السياسية وحضها على التنازل والقبول بهدنة هشة وبخطة طريق انتقالية لا تحقق طموحاتها، ولكن يصعب عليه تطويع الجماعات العسكرية المتواجدة في الميدان، صاحبة القرار في استمرار الصراع وإنجاح أية مبادرة سياسية. يزيد الأمر تعقيداً تنوع مصادر الدعم الإقليمي لهذه الجماعات وتأثيره في قراراتها، بخاصة من تركيا التي ستبذل كل الجهود لإفشال أي حل سياسي لا يحقق مصالحها وطموحاتها، وأهمها إقامة منطقة حدودية آمنة تخفف حدة اللجوء إلى أراضيها وتمكنها من محاصرة الوجود الكردي وسحق تشكيلاته العسكرية.

والحال أن تفاقم معاناة السوريين وفظاعة ما يتعرضون له من فتك وتنكيل، وازدياد أخطار العنف والنزوح على استقرار المنطقة والعالم، وفشل التجارب المتكررة للخيار العسكري في تحقيق أي حسم، ثم إلحاح الحاجة إلى تشارك دولي وإقليمي ضد الجماعات الجهادية، هي عوامل متضافرة تعزز قوة التفاهم بين واشنطن وموسكو لإخماد هذه البؤرة من التوتر، تالياً قدراتهما لإجبار أطراف متصارعة تزداد ضعفاً، يوماً بعد يوم، على تقديم التنازلات والقبول بشروط ما كانت لتقبل بها ابتداء!

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى