صفحات الثقافة

تحقيق: أي تأثير على الشعر العربي في العالم الرقمي؟/  زياد عبد القادر

 

 

في مقال بعنوان “لماذا نقرأ الأدب؟”، يعبّر فيرغاس يوسا عن تحيزه لقراءة الكتب، ولا شكّ للورق عندما يتعلق الأمر بمحاولة الكتابة. يقول “على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الإنترنت، لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرا لجونجورا، رواية لأونيتي أو مقال لباز، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق” (1).

هذا الرأي قد يعبّر عن البنية السيكولوجية لجيل معين من الكتاب. ولكنّ الرد قد يأتي سريعا: وهل ثمة قضية أدبية واحدة ليست نتاج العاطفة؟

من بين الجميع، وبالدرجة الأولى، الشعراء معنيون بهذه المعضلة التي تثيرها علاقة الكتابة بالتقنية. ليس فقط لأسباب رومانسية تتعلق بتلاشي سحر الأفق الأنطولوجي الذي يصدر عنه الشاعر، لكن، وفي الأساس، لأن الشعر “مثل عشبة لا يحتاج أحد إليها نجت لأنها نبتت في صخر خلف الصخر”(2)، ثم إن أفضل الشعراء يبيعون في أفضل الأحوال بضع مئات من النسخ.

هذه النقطة تلخص المعضلة الأساسية مدار الجدل بين أنصار النشر في الإعلام الاجتماعي، وبين المتهيبين من أن يغادر الشعر منطقة الظل. المناصرون يميلون إلى وصف أزمة الشعر بأنها أزمة تواصلية. بأي حال، كم عدد الذين يقرأون كتبا بالمقارنة مع من يقرأون من اللابتوب؟ ليس على المرء إلّا أن يضحّي بيوم كامل يقضيه جالسا في حديقة عامة أو راكبا قطار ضواحٍ يجيء ويذهب، وسيكتشف الفرق بنفسه. بفضل الفايسبوك وتويتر واضح أن الشعر بات يتنفس بحرية أكبر، الجمهور صار أقرب، والقصائد باتت تقرأ جنبا لجنب مع أخبار الطقس وأخبار الرياضة، وفي النهاية هذا يجذب عددا أكبر من القراء.

الذين هم على الضفة الأخرى يدقون ناقوس الخطر. فعندما لا يعاني الشعر من مشكلة تواصلية تكون تلك هي المشكلة. عند هذه النقطة، ما تسميه الأغلبية انفصالا عن الواقع تسميه الأقلية قدَر الشعر، لأننا إذا “نزعنا عنه هذا المطمح الأصيل وحوّلناه إلى خطاب تواصِل لانهار تماما وأصبح عديم الجدوى” (3). بأي حال ليس واحدا من أهداف القصيدة أن تكون مقروءة. هدفها الأول هو أن تَقرأ. لقد بتنا نضع اللغة تحت مجهر أعداد متزايدة من الفضوليين بدل أن تكون هي المجهر، والنتيجة هي تلاشي الغياب كفعالية أساسية تضمن استمرارية حضور شيء منفصل وغامض في القصيدة. في النهاية، المشكلة أكبر من أن تلخَّص في ردة فعل عاطفية ذات ملمح رومانسي. المشكلة أعمق، إنها تتعلق بالتحول الجوهري في طبيعة الشعر بسبب حضوره المفرط. واضح أن ذلك الزمن الذي كانت فيه القصيدة تقدّم نفسها كشيء آخر لم نقابله من قبل قد ولّى. نحن لا ننتبه إلى أن الفرق بين الكتاب والعالم الرقمي ليس فرقا في درجة التطور، إنه فرق في طبيعة الزمن. فالكتاب يقوم بطيّ ونشر الزمن وفق عبارة موريس بلانشو، وهو بذلك ينفلت متيحا للقصيدة فرصة أن تقدّم نفسها كلغز يقع خارج دائرة الفهم. بفضل هذه الطبيعة المفارقة لا يملك القارئ إلا أن يتعايش مع هذا اللغز، رغم أنه يقع خارج نطاق فهمه وخبرته. اليوم هذا اللغز المفارق صار مرئيا على نحو مفرط، مرميا وسط إعلانات تجارية وأطنان من صور السلفي.

من الصعب أن يحدد الواحد موقعه وسط هذا الجدل، لكن نظن أنه ليس أسهل من ملاحظة تأثر الشعر بنية وأسلوبا بتغير فضاء النشر من الورقي إلى الرقمي. جملة من الأسئلة تثيرها هذه النقلة. في هذا الملف نحاور نخبة من الشعراء العرب حول ما إذا كان الانتقال من الكتابة الورقية إلى الكتابة لجمهور مباشر يؤثر في قصيدتهم، بنيةً ومعجمًا وحساسية.

أيّ مرجع للشاعر في لا متناهيات العالم الرقمي؟ ماذا عن الواقع بوصفه أحد أهم مصادره؟ هل تعرّض للتصفية؟

هل الشعر والكتابة عموما عملية تجري في الواقع الاجتماعي أو هو عابر للاجتماعي والتاريخي؟

ما الذي يزعج المتهيّبين من النشر في الشبكة الاجتماعية؟ بالأحرى من هم؟

محمد بنميلود (شاعر من المغرب)

–  أقتطف من نصك (نُشر على صفحتك بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول 2016) ما يلي:

“لو أردت أن أصير كاتبا له عشرون كتابا لكان لدي الآن عشرون كتابا وغليون وبيرية، لكن إلى حد الآن ليس لدي كتاب واحد، رغم أني كتبت على الفيسبوك ما يفوق خمسين كتابا من الترهات، وأعرف أنه رغم رداءة ما أكتب وسخافته واضطرابه فهو أفضل من مئات من الكتب التي تصدر في المغرب وفي العالم العربي، والتي يقدم أصحابها أنفسهم للقراء في هيئة كتاب كبار ومهمين فقط بتلك الجدية والانضباط والأغلفة الصارمة”.

هل أفهم من كلامك أن الفيسبوك فضّاح الكتّاب؟ أقصد هل أن أحد التحديات التي يثيرها الفيسبوك هي أنه على عكس الكتب لا يوفر لذوي الموهبة الضحلة فرصة أن يقدموا أنفسهم للقراء في هيئة كتاب كبار ومهمين؟

لا أومن بأي كتاب كبار ومهمين، كل الكتاب كبار ومهمون حين يكتبون نصوصا جيدة، وكلهم ذووا موهبة ضحلة حين يكتبون نصوصا ضحلة. ما يهمني صراحة هو النص، وليس كاتبه ومدى أهميته أو عظمته أو نياشينه. النص الجيد كما الأدب في جوهره في غالب الأمر بريء من أوهام العظمة والإيغو تلك. إنه يقدم نفسه بتواضع كل مرة كالخبز، مجردا من الألقاب الكبيرة، بنفس الحروف والكلمات تقريبا، سوى أنها كل مرة تأخذ ترتيبا جديدا، هذا كل ما في الأمر، وهذا أكبر وأهم في رأيي من أي كبر أو أهمية. للأسف في العالم العربي هناك كثير من الكتاب “الكبار” والكتاب “المهمين”، لكنْ هناك نصوص وتجارب جيدة قليلة.

حتى داخل الفيسبوك أفضّل الحديث عن نصوص وعن تجارب إبداعية حقيقية، أكثر من الحديث عن الفيسبوك كاختصاص أو كنوع مختلف أو كموضة. إنه ليس نقيضا للكتاب الورقي، بل هو شكل آخر له، ربما أكثر تطورا وربما أقل. ربما للفيسبوك بعض الإيجابيات التي لا يمنحها كتاب مطبوع، لكني رغم ذلك في قرارة نفسي أعتقد أن السلبيات التي يمنحها بالمقارنة مع كتاب مطبوع أكبر، وهذا هو ما يجعله خطيرا، وفضاحا، وكثير من الكتاب لا يجرؤون على النزول إليه.

قد تتميز نصوصك وتجربتك داخله وتشع، وهذا نادر، وقد تضيع وسط آلاف النصوص المتشابهة والتدوينات والأخبار والنكات دون أي تأثير يذكر أو إدهاش أو أثر، فتفقد بذلك البريق الوهمي اللذيذ الذي منحه لك غلاف كتاب.

– أحب أن أثير أسئلة انطلاقا من منشوراتك. تقول في منشور بتاريخ 19 سبتمبر 2016:

“اكتب وامسح ما كتبته، وأعد كتابته بطريقة أخرى، ثم بأخرى، ثم بأخرى، إلى ما لا نهاية، كلعبة نرد تُلعب بمتعة، ملايين المرات، بنفس النرد، ونفس الطاولة”.

المميَّز في الفيسبوك هو أنه عدا عن كونه يسمح بتلقي ردود فورية من القراء، فإنه يسمح للشاعر بتعديل منشوره وحتى بحذفه.

سؤالي هنا: هل تقصد باللعب القدرةَ على تعديل القصيدة بعد نشرها واختبارها في ضوء استجابة القراء؟ إذا كان الأمر على هذا النحو: ما الذي سيبقى من خبرة القصيدة، من تاريخها، في ختام هذه التعديلات والصياغات المتتابعة؟

– قصد ذلك وأقصد أيضا نصوصا جديدة. بمعنى أن كل نص في حد ذاته ليس سوى رمية نرد، أحيانا تربح فيها، وفي الغالب تخسر. بالنسبة للتعديل يطاول قصائدي ونصوصي باستمرار لأني لا أعتبر الفيسبوك جريدة أنشر فيها نصوصي بعد اكتمالها النهائي والأكيد في فرن الله، بل أعتبره مسودة أولية، لا أنشر فيها، بل بمعنى أدق: أكتب فيها. نصوص كثيرة أنشرها بعد أول كتابة مباشرة لها، ثم بعد النشر مباشرة أبدأ بتصحيحها والاشتغال عليها، وهي رهن القراءة. ثم أتركها منشورة أياما قبل أن أعود إليها لأشتغل عليها من جديد وأعيد نشرها. إنني كمن يعجن الخبز ويطهوه داخل فرن زجاجي بحيث كل شيء مرئي للجميع، كما يمكنك أيضا تذوق العجين إن أردت ذلك. القراء أيضا يساهمون في هذه العملية بطريقة غير مباشرة، وهذا هو امتياز الفيسبوك، عملية التفاعل تلك تضعني أمام فوهة النار، تدفعني للاشتغال على النص بأكبر طاقة ممكنة، تصحيح أخطائه، تشذيبه، قراءته عشرات المرات المتتابعة وتعديله عشرات المرات، التفرغ له بشكل كامل في عزلة كهرومغناطيسية كاملة عن كل ما هو حولي. ثم بعد أيام إعادة هذا العمل بأكمله من جديد. أحيانا تؤرقني كلمة واحدة فيكون مصير النص في النهاية بعد كل هذا الاشتغال هو الحذف الكامل.

–  كون النص أصبح عاريا ومقروءا ومقترنا باسمي أمام قراء لا أعرف عددهم ولا أعمارهم ولا قدراتهم التحليلية والنقدية للأدب، هو ما يجعلني مهموما أكثر ومدفوعا بقوة باطنية عجيبة للاشتغال عليه بأدرينالين أعلى. يصبح الأمر لعبة حقيقية مشفوعة بالتحدي. ربما لولا هذه العملية التفاعلية التي يمنحها الفيسبوك، المسلية والخطيرة والمتعبة في نفس الوقت، لما كتبت أي نص، فأنا كسول للغاية ومهمل وفاقد الأمل تقريبا في الكلمات وفي كل شيء.

–  لقد اعتدت على هذه الطريقة ولا يهمني كثيرا ما قد يقال أو يلاحظ عنها، فقد تحررت تقريبا من سلطة المراقبين السلبيين والملاحظين العابسين ومتقاعدي الأدب الذين تظل عيونهم مركزة على السطح فقط وليس الجوهر، بقدر ما يهمني أني أنتج نصوصا. طبعا ليس مصير كل النصوص التعديل وإعادة التعديل إلى ما لا نهاية، فالملل ينهي أخيرا هذه المهمة وليس الاكتمال، بحيث يصير من المستحيل علي القدرة على العودة حتى إلى قراءة بعض النصوص، فما بالك بتعديلها. تكون في حقيقة الأمر قد أصبحت أخيرا جاهزة لتصفف في كتاب أو لترمى في سطل المهملات الإلكتروني أو لتسرق. الحل الذي يفضل لمقاومة الملل من جديد، هو فتح الرقعة من جديد، تشتيت كلمات جديدة فوقها، واللعب من البداية، بحثا عن نص جديد وطازج يضخ داخلي أدرينالين الإثارة.

صبري الرحموني (شاعر من تونس)

بعد أن صرت تكتب على الفيسبوك يُلاحظ أن قصائدك باتت أقرب إلى الهايكو، جملك أصبحت قصيرة جدا، خاطفة ومشحونة بحساسية لكلمات معينة. أود أن أسأل ما إذا كان فهمك للشعر قد تأثر بهذه النقلة من فضاء كتابة نحو آخر؟ هل يمكن القول إن أصول اللعبة قد تغيرت بتغير فضاء النشر؟

–  من الناحية التقنية يعتبر النشر الجسر الرئيس الذي يصل ضفة الكاتب بضفة المتلقي. إنه السلك الذي يجعل هذا الديالكتيك قائما. لقد كان الإنسان عبر التاريخ بوعي أو تحت سلطة الحاجة منتصرا للنشر لمشاركة الآخر ما يرى وما يحب وفي ما يفكر. فبدأ بالنشر على الحجارة وألواح الطين وورق البردي وغيرها، إلى أن جاء مواطن صيني طيب في القرن الثاني ميلادي اسمه “تساي لون” واكتشف لنا الورق ثم جاءت الثورة الكبرى سنة 1455 حين اخترع الشاب يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة. ما أريد الوصول إليه هو أن عالم النشر الإلكتروني ليس قطيعة مع هذا التطور وليس انقلابا عليه، إنما هو تراكم آخر وتطور في حاجة الإنسان للنشر. ولعلّ تسمية أول مشروع للنشر الإلكتروني باسم صاحب اختراع آلة الطباعة هو دليل واضح على هذا الوعي. الآن إذا ركزت الزوم أكثر على سؤالك أقول إن الفيسبوك باعتباره فضاء ديمقراطيا كان خيارا مدروسا بالنسبة لي باعتبار ما يقدمه من إمكانية التواصل مع الآخر تفوق إمكانية التواصل عبر الكتاب، وهو أيضا مختبر واسع لتحليل ما كتبنا ويقدم لنا خدمة جليلة بخصوص تخلص الكاتب من وهج النص، ما أن تنقر على النشر حتى يصبح النص ملِكا لآخرين. وإن أردت تركيز الزوم أكثر وأكثر على سؤالك حتى يستحيل قطرة ماء صافية، أقول نعم لقد تغيرت أشياء كثيرة في نصي بعد تجربة النشر على الفيسبوك، أهمها ما ذكرتَ أنت من الإجازة في النصوص وقِصر الجملة وتسرب بعض المفردات التابعة لهذا الفضاء. الفيسبوك الذي نجلس أمامه هو في الحقيقة كون كامل يتحرك بسرعة رهيبة، وما إن تتلبس روحك بروح هذا الفضاء تصبح أنت الجالس مسرعا بقوة رهيبة. يبدو هذا خطابا في اللامتخيل ولكنه يحدث. الأمر أشبه بالجلوس في مركبة زمنية. أعتقد أنه بوعينا أو دونه وبإرادتنا أو دونها فإن شيئا من قوانين اللعبة يتغير بتغير فضاء النشر. ولننظر مثلا للشاعر العربي القادم من الصحراء حين امتدح الأمير بوفاء الكلب. ولما تفهم الأمير صلابة الصحراء في روحه أبقاه في جنان بغداد أشهرا، فقال الشاعر بيتا من أكثر الأبيات العربية رقة:

عيون المها بين الرصافة والجسر        جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري

أليس هذا تغيرا بتغير الفضاء؟

أشرف القرقني ( شاعر ومترجم من تونس )

–  صرنا نرصد تشابها كبيرا بين كثير من النصوص التي تنشر على الفيسبوك وتويتر. إذا اتفقنا على أن الأسلوب مشحون بذاكرة الشخص، بمزاجه وتاريخه، هل يكون هذا التشابه علامة على أن الواقع تعرّض للتصفية؟ هل تظن أنه شكل من القدَر الإلكتروني الذي تضيع في لا متناهياته الرقمية ذاكرة الشعر وخبرة القصيدة؟

–  يقترح سؤالك لعبا فنيا في الإجابة عنه، إذ يفتح آفاقا شاسعة ويستقدم محاولة تكثيف كمّ هائل من الأفكار التي تُقدح في هذا السياق. تقنيا، ينخرط الفيسبوك وتويتر في ما يسمّى ببرامج الواب، وهي برامج التواصل الاجتماعي. وإذ أستدعي هنا جون بودريار في تصوره عن عدول الأشياء عن وظيفتها المحددة، أفكّر من داخل إمكانات مشروعه قائلا إن مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها أحدث ما ابتدعته أيديولوجيا الاستهلاك، إنما هي نمط مخصوص من العلاقات بالأشياء والعالم يقدّم وهمَ التواصل في ألمع صوره. وهي تذهب أبعد في إبداعها إلى إعادة تعريف الاستهلاك حتى يشمل كل شيء ابتداء من المنتجات المادية إلى هواجس الفرد وآماله وتطلعاته. إن الأسطورة التي تمنحها مواقع التواصل ليست شيئا آخر سوى نفسها.

من جهة أخرى الفايس وتويتر يمثّلان العلامة الأكبر اليوم على “حياة المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة (تلك التي) تعلن عن نفسها باعتبارها تراكما من العروض. كلّ ما كان يُعاش على نحو مباشر، تمّ استبعاده في تمثيل”.

ما علاقة هذا بمسألة الكتابة والشعر؟ أحاول أن أرسم الإجابة في الدلالات الحافة بكلماتي هذه.

إنّ العرض باعتباره قلبا محسوسا للحياة، حسب دوبور، هو الحركة المستقلة للّاحيّ. وإذ يقدّم نفسه أداة للتوحيد، إنما يحقق عينيّا الفصلَ المعمّم. فهو لا يطرح نفسه معطى مضافا إلى الواقع، بل يصفّيه تماما مثلما أشرتَ.

الشاعر بدوره لا يمكنه أن ينجو من هذا النظام (إذا ما أقام فيه) الذي يملك في بنيته القدرة على توظيف كل شيء في نسقه حتى لو كان ذلك فعل مناهضته. وعلى كل، فإنّ الجدل والصراع المبدع والاختلاف… كل هذا مُقصى على نحو مُبنْين من قبل الفيسبوك وغيره من هذه المواقع التي تعزز المثليّة بديلا عن الانجذاب المنشدّ إلى تعزيز الاختلاف شرطا مركزيا لتأسّس العلاقات وتحقيق التواصل. في “كتاب الوجه”، البحث عن الآخرين من أجل التبادل السريع معهم والمشاركة هما الأيديولوجيا الرسمية. وفي خضمها، ينفي الفرد في تشتته النفسي ذاته وأصالته مثلما ينفيها عن الآخرين لتتشكل طرازات من السلوكات تجد دلالتها في عبارة “بروفايل”. يتمّ تسطيح علاقتك بالأشياء في “أحبّ أو “لا أحبّ” بينما تجد الذات المبدعة نفسها في علاقة متراكبة وعصية مع الأشياء، يغري غموضها بخوضها في سياق الفن والكتابة. يتم استبدال الجدل المبدع بالتجاهل. ذلك أقصى ما يمكن فعله عندما تمرّ بشخص أو صورة أو قصيدة لا يمكن اختزال موقفك إزاءها في الخيارات الجاهزة التي يقترحها الفايس. يمكنك في أحسن حال أن تشارك ردا ضمنيا في حلقتك الخاصة على جدارك.

كنتُ قد قلت من قبل في مقال لي إن مواقع التواصل الاجتماعي تؤسس للمثلية في مستوى هوية الفرد فتنفيها مثلما لمعرضية زائفة وبورنوغرافيا عاطفية. ولكلامي هذا اتساقه مع ما يُكتب اليوم من قبل باحثي فلسفة التقانة عن هذه المواقع. وأظن أن ما سبق تحليله يكشف بوضوح خطورةً لا يمكن إنكارها ممّن وفّر لهم الفايس ومثيله شخصيات، أصبح بإمكانهم من خلالها تحقيق رأس مال رمزي مبهر في عالم الكتابة أو غيره دون الحاجة إلى تجربة أنطولوجية عميقة أو ذاكرة معرفية وثقافية مميزة…

ليس مهما أن تعرف أو تفكّر أو تحدس. المهم أن تبدو وكأنك تعرف، كأنك تفكر وكأنك تحدس في عصر يقول عنه فيورباخ في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب نشأة المسيحية: “عصر… يحبذ الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، المظهر على الكائن”، “مقدّسهُ الوهمُ وشيطانهُ الحقيقة”.

لا حاجة للقول إن المثلية إن أدركت جوهر الذات وكينونتها، فلا غرابة في أن تطبع النص والكتابة، وخاصة أن معايير التقييم التي تعزز السلوك أو تجهضه، تستند إلى ألغوريتمات مصممة بعناية قوامها عدد اللايكات وسرعة تزايدها. هكذا تقفز النسخ لتعاود ما قد أثبت نجاحه من قبل دون حاجة إلى العناء.

للشاعر ملكات – وإن كان له استعداد ما قبلي للنبوغ فيها – فإنها تظلّ أمرا يُنحت في الزمن وبلا هوادة، من بينها الحدسُ والخيال المتطرف وملكة النقد اللاسعة. بهذا يكون كائنا بريّا خارج محابس الأزهار في البنايات المعلّبة. فكّر في الأمر لوهلة. هل تصدّق أنّ بإمكانه أن ينحتها في هذه المتاهة المرعبة متحوّلا إلى فطيرة آدمية؟

الفنان/ المبدع لا يتجه مهووسا إلى الآخرين كي يماثلهم متخلّيا عن فرادته. إنه يدرك جيدا أنه الشخص الأصيل الوحيد في الكون. بل يتجه نحو نفسه في حركة أشدّ تعقيدا من فهمها إلا مع استسلام كليّ لناقوس تطوره الخاص وتشوّف لداخله الأشد عتمة. هناك فقط يلتقي بالآخرين لا باعتبارهم أفرادا وأرقاما بل في ما هو إنساني على نحو لا يطاق.

كاظم خنجر (شاعر من العراق)

نشرت كتابا ورقيا عنوانه “نزهة بحزام ناسف” فضلا عن الكتابة على الفيسبوك. هذا الأخير قد يكون أحد الحلول العملية لتوسيع أفق انتشار القصيد، لكن في المقابل ألا تعتقد أن طبيعته السيولانية قد تهدد بافراغ الفجيعة من ديمومتها؟ ألا يبقى الكتاب على الرغم من كل شيء الأقدر على السماح للتراجيديا بالمكوث ضد الزمن؟

–  أعتقد بأن مفهوم الفجيعة وتحديداً في أماكن الموت اليومي كـ(العراق)، قد تبدل واختلف، إذ أصبحت الفجيعة شكلاً من أشكال الحياة العادية، كالذهاب إلى العمل، ومشاهدة التلفاز، أو التنزه. الإنسان هنا لا يهتم بمصيره، أو يسعى إلى تغييره، وعليه أعتقد بأن شكلاً تواصلياً استهلاكياً كـ(الفيسبوك) يأخذ حيزاً كبيراً في تحويل الفاجعة إلى منشور ينتهي بمجرد مرور بعض الساعات، بمعنى أن الفيسبوك ساهم مساهمة كبيرة في تسطيح عواطفنا، وتدريبنا على التعايش مع الفاجعة.

أعتقد بأن الشعر يجب أن يشبه الإنسان، يشبه فجيعته السطحية التي يستهلكها في الفيسبوك يومياً، بحيث تنتهي قوة الشعر القائمة على الديمومة وتثبيت الأشياء عبر الزمن، لأن ما يقدمه هو الفجيعة وهي دائمة غير منقطعة. الفيسبوك يساعد في ذلك.

(الفيسبوك): إغراء بالكتابة المباشرة والمستمرة… (الكتاب): تحنيط للكتابة في زمن محدد.

(الفيسبوك) الإنسان الآن كيف ينتج التراجيديا الخاصة به… (الكتاب): إعادة إنتاج للنماذج التراجيدية في التاريخ.

وليد يزبك (شاعر من سورية)

الصبر والتكتم على ما يكتب قبل أن يرى اسمه منقوشا على غلاف كتاب، ميزتان لطالما تحلّى بهما الشاعر. اليوم نراه، حال يخط آخر كلمة في نصه، يسارع إلى نشره على صفحته الشخصية. برأيك، لم على المرء أن يستمر في الحلم بنشر كتاب سبق وعرض مادته على القراء؟ أليس كأنه قدّم لنا طبقا بائتا؟ ما الذي يبقى من الكتاب كنبوءة، كوعد، وكعلامة مستقبل؟

– علينا أن نبيّن أولا أن الموجودين على الفيسبوك أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعي ليسوا كل القراء، إنما قسم مهم ممن يقرأون. الشاعر وخصوصا الأديب عموما يسعى إلى أن يُقرأ من قبل أوسع شريحة ممكنة، لذا من هذا المنطلق لا بد له من أن يضع نصوصه في كتاب. والكتاب هو بمثابة “ثلاجة الأدب”، إن جاز التعبير، والتي تحفظ وتحافظ على المنتوج الأدبي لتتناوله الأجيال التي ستجيء في ما بعد، مطمئنين بأنه حافظ أمين لفكرنا وعواطفنا وهواجسنا التي نريد للغير أن يطلع عليها، لذا يبقى حلم طباعة كتاب مشروعا قائما عند الجميع. المسألة تختلف عندما تُنشر النصوص الأدبية على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك من يستمتع بهذا التفاعل الحار مع القارئ مباشرة، الأمر أشبه بممثل يستمتع بتفاعل الجمهور معه مباشرة وهو يؤدي مشاهده في المسرحية. ومن جهة القارئ أيضا هناك لذة خاصة تشبه تلك التي يشعر بها مشجعو كرة القدم وهم يهتفون لفريقهم المفضل مباشرة من على المدرجات.

في هذه المواقع تجد السهولة في النشر والتي قد لا تتوفر في أماكن النشر الأخرى: الكتاب، المجلة، إلخ. ليس هناك من ضرورة للتقيد بإحدى هذه الوسائل دون الأخرى، فلو أتيحت الفرصة للأجيال السابقة من الأدباء الكبار، منذ عصر النهضة وما تلاها، والتي لم يتسنّ لها أن تواكب هذا العصر، عصر التكنولوجيا، لمارسوا الأمر ذاته واستخدموا هذه الوسيلة وغيرها لنشر نتاجهم الأدبي دون تردد. ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال وجود منابر خاصة لشعراء وأدباء على هذه المواقع، لهم تاريخهم وأسماؤهم التي حفرت في ذاكرة القارئ منذ ما بعد فترة الستينيات.

وأستطيع القول أيضا، من خلال متابعتي ومشاهداتي اليومية، إن النصوص الأدبية التي تنشر على الفيسبوك تذكّرني بالخبز الساخن: من يد الفرّان إلى الفم مباشرة. أما الأدب الذي تشتريه أو تحصل عليه من الكتب والمجلات، فقد يكون كربطات الخبز البائت، ليس فيه المتعة التي تكون في النص الطازج الذي صنعه صاحبه وقدّمه للمحتاجين منذ لحظات. ففي الكتب هناك استثناء لا يمكن تجاهله: كما لو كان صانع الخبز ذاك قد استخدم مادة اكتشفها وحده، تحافظ على الخبز/ النص حارّا وطازجا مهما مرّ عليه من الوقت.

وأيضا، لكي لا أبدو مروّجا يسوّق لشيء لا يعرف ما هو، ليس كلّ ما تجده هنا يمكن أن يكون الخبز الذي أتحدث عنه، فمن المستحيل على القارئ، وهو يتجوّل بين (أفران) الفيسبوك هذه والمواقع الأخرى، أن يبتلع خبزا محروقا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ماريو فارغاس يوسا، “لماذا نقرأ الأدب”، ترجمة راضي الشمري، مراجعة فيصل الحبيني، المكتبة العامة، موقع إلكتروني، 8 سبتمبر 2016.

(2) بول شاوول، “العزلة هي الانفتاح السري العميق على العالم”، حاوره: شارل شهوان ورضوان الأمير، نزوى فصلية ثقافية، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، عدد 58، سلطنة عمان 2009.

(3) المهدي أخريف، “لا أخشى ظل بيسوا”، حاوره حسن عبد الموجود، أخبار الأدب، دار أخبار اليوم، عدد 799، القاهرة 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، ص7.

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى