صفحات الناسهيفاء بيطار

حكاية الكهرباء والسوري في الساحل/ هيفاء بيطار

 

يعيش الساحل السوري، المُدلل بالنسبة لباقي المدن السورية التي تهدّم معظمها، ونزح سكانها، حالة شبه دائمة من الظلام، بسبب الانقطاع الطويل للكهرباء، حتى أن المواطن السوري الذي يعيش في الساحل (اللاذقية وطرطوس) يشعر بأن ثمة صفات مشتركة بينه وبين الخفاش الذي بالكاد يُبصر في الظلام، وقد يبدو الحديث عن التقنين الشديد للكهرباء في الساحل نوعاً من الرفاهية والترف، بل وقلة الذوق أيضاً، مقارنة بباقي المناطق والمدن السورية الملتهبة، والتي تتعرض للقصف والدمار اليومي والمجازر التي تحصد أرواح مدنيين، لا ذنب لهم سوى أن قدرهم أن يكونوا سوريين، لكن كل إنسان يطمح لعيش كريم يُشعره بكرامته الإنسانية. ومنذ بداية الثورة السورية، أي منذ أكثر من خمس سنوات، بدأ التقنين الشديد للكهرباء، وكانت الحجة التي تقدمها لنا وزارة الكهرباء أن الإرهابيين يستهدفون مولدات ومحطات الكهرباء!.

أكثر من خمس سنوات، والحجة نفسها تقدم للمواطن السوري في الساحل، أن الإرهابيين يستهدفون محطات الكهرباء، ولأن المواطن السوري مغلوب على أمره وأعزل في مأساته، فهو مُضطر لتحمل كل الظروف، فالمهم البقاء على قيد الحياة، وتأمين الحد الأدنى من كرامة الحياة لأولاده، تعطلت معظم الأجهزة الكهربائية في المنازل، بسبب شح الكهرباء، بل لم يعد لها من لزوم، فالغسالة لا تعمل، ولا البراد، وعاد الناس سنوات إلى الوراء، كما لو أن السوري يعيش في زمن قبل اختراع البراد والغسالة والتكييف والتدفئة، ومن يتابع ما يكتبه السوريون على صفحات الفيس بوك يرى كم يعاني هذا الشعب العظيم في تحمله للمعاناه من قيظ الصيف وبرد الشتاء، فلا وجود للمازوت ولا للكهرباء، من أجل التدفئة أو التبريد، ويكاد طلاب المدارس يُصابون بالعمى من كثرة الدراسة في ضوء الشموع. وحالياً، تنقطع الكهرباء أربع ساعات متواصلة، لتأتي ساعتين فقط، وتأملوا شكل حياةٍ كهذه، كما لو أن مشاعر الناس وأحاسيسهم تُهان وتُنتهك مع كل انقطاع، فلا يمكن إنجاز عمل، وأيه سهرة سيقضيها المواطن السوري، حين تنقطع الكهرباء من 7 مساء وحتى 11 ليلاً. هذا وقت التحضير للعشاء، إن كانت هناك أسر لا تزال تملك القدرة على شراء طعام العشاء، ووقت متابعة برامج التلفزيون، ووقت الدراسة للطلاب، ووقت السمر والسهر للأصحاب. ألا يشكل انقطاع الكهرباء، في هذا الوقت بالذات، إهانة وإذلالاً وأذى للمواطن السوري، ما يسمونه اللدات (وهي شرائط رفيعة من كهارب صغيرة، تعطي ضوءاً يخرش العيون) ليس حلاً للمشكلة، وحتى المولدات الكهربائية التي تصرع الناس بجعيرها، وتلوث الهواء بسخام دخانها الأسود، لم تعد تعمل بسبب انقطاع المازوت وشحه.

هذا هو وضع الساحل السوري المُدلل الذي يضم أكثر من مليوني نازح من المناطق المُلتهبة في سورية (اللاذقية وحدها تضم مليوني نازح من حلب وغيرها)، ولا توجد أسرة سورية إلا

“لا توجد أسرة سورية إلا ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب” ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب، وقد ربح المليارات التجار الذين يستوردون المولدات. ولكن، لم يعد أي سوري يصدق أن هذا التقنين المديد والمهين للكهرباء هو بسبب أن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء، فحين تكون هناك مناسبة (مهمة)، مثل خطاب للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لا تنقطع الكهرباء أبداً! بل يشعر المواطن أن وزارة الكهرباء تتمنى لو تكون ساعات اليوم 60 ساعة، لتغمرنا حتى الاختناق بالكهرباء. وفي مناسبات عديدة، تعتبرها الدولة مهمة، كأعياد وطنية معينة وخطابات لسياسيين مهمين يُعلون من شأن السياسة السورية، لا تنقطع الكهرباء دقيقة. ولا يحتاج فهم الحقيقة لذكاء خارق، فالأمر لم يعد لغزاً، فالواضح أن الغرض من انقطاع الكهرباء الطويل والمُهين بهذه الطريقة في الساحل السوري المُدلل هو إذلال المواطن، وإجباره على قبول حياة حقيرة ووضيعة، وأن يقتات بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، كما يتحول النمر آكل اللحوم إلى حيوان يأكل الأعشاب، كما في قصة زكريا تامر “النمور في اليوم العاشر”. هذا هو المطلوب أن تُكسر شوكة الكرامة لدى السوري، فيصبح كل مطلبه أن يبقى على قيد حياة وضيعة وذليلة، يلهث وراء لقمة العيش فقط، ويرعبه أن يموت أولاده من الجوع.

لكن الشعب السوري عظيم، لن يتحول لخفافيش الظلام، ولن يصير نمراً “آكلا” الأعشاب، لكن المواطن يشعر بالغبن من الدولة التي لا تؤمن له الحد الأدنى من العيش الكريم، وهو يعرف أن الغرض من الإمعان في قطع الكهرباء إذلاله، وليس لأن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء. من يحضر جلسات العزاء للشهداء والشبان السوريين الذين قُصفت أعمارهم، من دون أن يعرفوا لماذا تم زجهم في هذه الحرب، يدرك مدى غضب الناس وتمردهم على عيش ذليل، وعلى ذهولهم، كيف فقدوا أولادهم، ربوهم وأهدوا لهم أرواحهم وحبهم، من يحضر جلسات العزاء التي تحولت إلى النشاط الإجتماعي الوحيد في سورية يدرك، وهو يسمع أحاديث الناس التي لم تعد هامسة، بل بصوت يبلغ السماء، أن الكيل قد طفح، وأن السوري لم يعد يتحمل ذل العيش، ولا انهيار الليرة السورية والتضحية بالأبناء، كما لو أنهم قرابين للشيطان أو أضاح. ليس أولادنا أضاحي لأحد. أولادنا وشبابنا قُتلوا، ولن نسكت على قتلهم مهما كان السبب. سبب أشبه بالحجة التي تُقدم لسكان الساحل أن انقطاع الكهرباء شبه الدائم بسبب الإرهابيين. كثر الله من خطابات السياسيين التي وحدها تجعل الكهرباء في الساحل، بل في سورية كلها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى