صفحات الثقافة

حكاية شاعر في سجون المخابرات السورية لفرج بيرقدار


أدخل الشرطي فأراً في فم السجين وأمره بابتلاعه بلا مضغ!

المقدمة والاختيار: يقظان التقي

في زمن ما كان يحدث فيه هذا الحيف والظلم والقهر والقمع قبل الصمت وبعد الصمت، الذاكرة وما بعدها الأسف وما بعد الأسف على عمل الأجهزة المخابراتية الأمنية السورية على نحو لا تتسع له اللغة نفسها ولا الكتابة بتصريح ومن دون تصريح على الأوراق.

فرج بيرقدار شاعر وصحافي سوري من مواليد حمص 1951 واحد من الذين عانوا وجهاً من وجوه الاعتقال بسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي. كان ذلك في 31 آذار 1987 بعد مدة من التخفي والملاحقة دامت سنوات.

14 عاماً من الاعتقال قضاها ما بين فروع الأمن وسجن تدمر والسجن الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري.

وأفلحت الحملة الدولية المطالبة بالإفراج عنه في حمل السلطات السورية على إطلاقه بعدما جردته محكمة أمن الدولة من حقوقه المدنية والسياسية.

بعد طبعة أولى وترجمتين الى السويدية والألمانية صدرت طبعة جديدة من كتابه “خيانات اللغة والصمت” عن “دار الجديد” في بيروت وهي طبعة خضعت لرقابة الأمن العام اللبناني كما ورد في بعض المواقع الإلكترونية.

في الكتاب أكثر من رواية لعقود طاغية ظالمة والأمور التعسفية ليست صعبة على الشرح والتأويل ويمكن أن يتكهن بها المرء وقد صارت تراثاً من أدب السجون السورية ويعرف بعضاً منها اللبنانيون جيداً وذاقوا طعمها الى الآن في تلك السجون القريبة البعيدة والتي صارت اليوم تحت نظر العالم الإنساني أجمع.

هكذا هي القصص تروى حين يتعامل فيها الإنسان ليس بالإسم بل بالأرقام وبتعددها كما تعدد الأسماء وبحنون العناية المخابراتية وحيث لا تشفع للإنسان لا هويته الإنسانية ولا مواطنيته ولا شاعريته ولا أي شيء آخر، مع أن الشعر، يقول فرج بيرقدار، كان المنقذ حيث أعطى حياة السجن بعداً آخر من المقاومة والحلم المستحيل.

يكتب فرج بيرقدار عن حكايته مع السجن السوري من الداخل لجهة ما تعرّض له وما شعر به وما سمعه وما تلمسه وما رآه من عذابات فظيعة في وقت يقيم أكثر من مئة ألف معتقل من الشباب السوري اليوم في السجون في ربيع الثورة السورية في مواجهة تضليلات النظام السوري وميوله التسلطية المرعبة جداً.

هي إذاً رحلة الاعتقال من ألفها الى يائها في تصعيد درامي تمزقه السياط والشهقات والزفير وشهوة السلطة والقهر والترويض القمعي في السجن العربي الكبير الذي كان.

رواية فرج بيرقدار بأصوات كثيرة وخبريات تطول الى أقصى عذابات الناس وبوسائل التشبيح المختلفة على “السلم” و”الفسخ” و”الكهرباء” و”الكرسي الألماني” وغيرها وفي رحلة المساجين الى الشرق وإلى الغرب وإلى الصحراء، رحلة العزل التام للأسماء في إساءات لا حدود لها وبجرح مفتوح في الذاكرة السورية الحديثة.

هنا بعض القصص والصور عن ذلك السجن الكبير:

[تدمريات… ما فوق سوريالية

(1)

أسوار عالية من الاسمنت العنيد البارد..

أبراج للمراقبة..

حقول ألغام..

حواجز ونقاط تفتيش..

تحصينات ووحدات عسكرية عالية التدريب..

وأخيراً.. محيط من أمثولات الرعب الوطني الخالص.

يا أسماء الله!

حتى لو سقطت سوريا بكاملها

فان هذا السجن.. يستحيل ان يسقط.

(3)

عسكري ذو ملامح موقوتة، يأمر سجيناً عجوزاً ان ينحني ويلحس له بلسانه جزمته العزيزة.. ثم ينهره، ليمسحها بكم سترته المهترئة.. وبعد ذلك، يصفعه بالجزمة على وجهه، وهو يشتمه، مستنكراً تجهمه الذي يدل على عدم رضا داخلي، اثناء تنفيذ المهمة، معنويات العسكري، وهو يرى ذلك العجوز الوقور، ينظف له جزمته، توحي بأنه قادر على إغلاق جبهة بمفرده!

(7)

في أول الباحة عسكريان يمسكان سجيناً من يديه ورجليه.. يؤرجحانه بحركة بندولية متصاعدة، ثم يطوحان به في الهواء.. وما يلبث ان يرتطم جسده بالأرض، حتى يمسكا به ثانية من يديه ورجليه، ويعيدان اللعبة من جديد.. مرة ثالثة ورابعة وخامسة، ثم تستريح الجثة على أقل من مهلها.

في مكان آخر من هذه اللوحة.. في آخرها تقريباً:

عدة متناثرة لورشة لحام بالأوكسجين، بينها مطرقة كبيرة “مهدة” يتناولها العسكري.. يرفعها عالياً بمشقة وتصميم، وينزل بها على منتصف العمود الفقري لذلك السجين أو لغيره.

صرخة السجين تجعل ألوان الجزء العلوي من اللوحة كامدة بحّاء، مع مسحة ضبابية تتموج بارتعاشات صغيرة متناهية.

في المنتصف.. بمحاذاة الجانب الشرقي للوحة:

عسكري يمدد سجيناً على الأرض، وهو يشير إليه، ان يتوسد برأسه رصيف الباحة.

بعناية شديدة يشير اليه العسكري، ليرتفع قليلاً، ثم لينخفض قليلاً، حتى اصبح عنق السجين على الحافة.. على الحافة تماماً.

يتلفت العسكري حوله بعصبية، ثم بايماءة حازمة من رأسه ويده، يدعو أقرب عسكري إليه.

يتقدم العسكري الآخر، وعيناه تتلامحان بما يشبه الخوف، وربما الحزن أو العجز.

لا يبدو أي تشابه بين هذا العسكري المضطرب وبين زملائه الذين تظنهم للوهلة الأولى مسوخاً او تماثيل، مأخوذة عن قالب واحد.

يقف العسكري الأول على ظهر السجين، ثم يستند بذراعيه على كتفي زميله.

يقفز في الهواء عدة قفزات رشيقة نابضية، وفي القفزة الأخيرة يسدد بقدميه، ويهوي بقوة، مرتطماً بعنق السجين، ثم..

أصداء صمت ثقيل مخنوق، لا تعرف من أين بدأت، ولا أين ستنتهي.

تريدون الحق؟

لوحة بانورامية مذهلة..

لا “غيرنيكا”، ولا الآلهة، ولا الاساطير..

[إلى الشرق

أنهى المساعد قراءة الأسماء، وطوى الورقة، ليضيف بصوت أنثوي حاد وموقع:

– كل من ورد اسمه في اللائحة، يضب أغراضه.

تهللت أسارير بعضنا رغم ملامح الخيبة والحزن والقلق التي ارتسمت على وجوه الآخرين، ولا سيما أولئك الذين لم ترد أسماؤهم في اللائحة.

إذن رفعت الملفات، وجفت الدماء بعد أحد عشر شهراً من التحقيقات، كان الله، خلالها، ينظر الى جهنمه بازدراء. (..)

(..) لم تكن المسافة من فرع فلسطين الى الفرع 248 تتعدى الدقائق.

هناك أوقفونا في أحد الكوريدورات من العاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر.

– أنت.. أبو البيجاما البنية.. إنهض.

– لا أستطيع.. معي كسر في الحوض.

– قلت لك إنهض أحسن ما أجيبلك الدولاب ها!

– قلت لك لا أستطيع، ودولابك ايضاً لا يستطيع.

يبدو ان الاجابة احنقت العنصر واربكته، وحين لم يجد رداً مناسباً، صب انفعاله باتجاه آخر.

– أبو الكنزة السوداء وجهك لقدام..

وأنت أيها الحوت.. يديك وراء ظهرك..

– يداي نصف مشلولتين.

– من شو.. يا عين أمك؟

– من الله.. وربما من الكرسي الالماني.

– بس.. بلا حكي برا الطريق..

– دعهم يا رجل.. فرع فلسطين كفى ووفى.

– من أراد الجلوس يجلس.. ولكن حذار من البربرة والبصبصة.. وأنت أبو الفيلد العسكري، ثبت الطميشة على عينيك أحسن ما أحطلك طميشة ثانية.

(..) في الرابعة بعد الظهر وزعونا على منفردات متباعدة، وفي اليوم التالي جمعونا في غرفة واسعة نسبياً، وتعاملوا معنا بطريقة شبه حيادية (..)

(..) بعد ساعات أعادوا توزيعنا على الزنازين، لنخرج منها بعد يومين الى ميكروباس أنيق، جعل أحدنا يعلق متفائلاً:

– النقل الى تدمر يتم عادة بالسيارة/القفص، أما هذا الميكرو السياحي!

ما كدنا نجلس على المقاعد حتى أحضروا الكلبشات والطميشات.

اتجه الميكرو شمالاً ثم شرقاً ثم شمالاً..

لا تزال الشوارع معروفة بالنسبة إلينا جيداً.. أطوالها، ميولها، اتجاهاتها، وانعطافاتها.

تبخر احتمال المزة، فخط السير الآن يتأرجح بين الشرق والشمال (…)

المشكلة ان رئيس الفرع موتور وحاقد، وما من شيء يمنعه عن ارسالنا الى هناك.

الم يقل إننا أسفل مجموعة يراها في حياته، وإننا عذبنا جلاديه أكثر مما عذبونا؟!

– يا كلاب.. ما ان ترفع الطميشة عن عيونكم، حتى تحدقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى القحبات.

وشرف أمي لنسيكم الحليب اللي رضعتوه

السافل.. ما علاقة شرف امه بالموضوع؟!

فجأة انعطف الميكرو بحدة الى اليمين مصوباً جهة الشرق.

اللعنة.. هي تدمر إذن!!

– إخرس.. شو في عندك؟

– الكلبشة انزلقت، ويداي تتقطعان.

– دبر له الكلبشة بمعرفتك.

– طخ..

ضربة بأخمص البندقية على الرأس، أوقفت الصراخ في منتصف الهاوية.

– نايمين يا …؟! من شوية كنتوا بالفرع عاملين لي قبضايات! هلق منشوف زلوميتكن.. قال شو..؟ ما بتعرف خيرو لتجرب غيرو.. والله تاتشوفوا نجوم الظهر هلق.. بتستاهلوا.. ماني فهمان شو كان بدكن بهالشغلة الوسخة.. كليتكن مثقفين وعايشين وعين الله.. رفستوا النعمة لشو؟! شو يللي ما عاجبكن بسيادة الرئيس آااه؟ منين بدكن تجيبوا رئيس أحسن منو؟! احكوا.. هاتوا تانشوف.. منين؟ صدقوني اذا بتبرموا الدنيا شرق وغرب، ما رح بتلاقوا رئيس بيجي لضفر من ضافيرو.. والله لو تفهموا وتقدروا بس، تاكنتوا تركعولوا وتصلولوا يا … قولوا بس شو يللي ما عاجبكن فيه؟!…

حين نظمنا العسكري على أنساق، رأى العدد زائداً في النسق الثالث، فطلب مني أن اقف منفرداً بمحاذاة الجدار.. ثم تركنا وغادر الغرفة.

تساءل أحدنا:

– هل انتهت التشريفة؟

جاءه الصوت من الخلف كضربة سوط:

– بلا حكي يا ..

ران الصمت من جديد.. ثم فجأة أحسست بيد صلبة، تسحبني من كتفي.. التفت لأرى نفسي أمام رقيب أشقر فاقع، يرفع رأسه على نحو استنكاري، وهو يحدجني بنظرة حجرية، تقدح انذاراً ما.

هززت رأسي مستفهماً عما يريده، فقال لي:

– غمض عينيك.

لم اكن اعرف ان اغماض العينين في تدمر هو الدرس الاول، الذي يتلقاه السجين فور وصوله.

تذكرت كلمات رئيس الفرع:

– يا كلاب.. ما ان ترفع الطميشة عن عيونكم، حتى تحدقوا في وجه المحقق بنظرات وقحة، لا تستطيعها حتى ….؟.

اعاد الرقيب امره بنفاد صبر، كما لو أنه الانذار الأخير قبل اطلاق النار

مرت بضع ثوان، كلانا يحدق في الآخر، منتظراً ان تنتهي المبارزة لصالحه.

اقترب مني احد العساكر..

– ما يقوله لك حضرة الرقيب أمر عسكري منزل من عند الله، ورفض التنفيذ يعني كفر وتمرد.. نفذ احسن لك..

بعد قليل أدخلونا بالتتالي الى غرفة الذاتية.

– فلان الفلاني..

– حاضر.

– يا ابن ال؟؟؟ قل حاضر حضرة الرقيب، ثم ادخل

دقق مسؤول الذاتية قيوده وبلطف واضح أعلن:

– خالصين تفضلوا.

تقدمنا بتثاقل، وكان بعضنا يشهق ويزفر، كما لو أنه يتنفس الصعداء.

– عندك.. الجميع جالساً..

جلسنا.

– اشبك يديك حول الركبتين.

شبكنا أيدينا.

نشرت تشرت تشرت.. صوت ماكينة حلاقة يدوية بدأ من الخلف شاقا طريقه الى الامام بثقة واستهتار.

حقاً المرء بشعر وشاربين، ليس هو نفسه بدونهما.

– بلدية..

صرخ الرقيب:

– خذوهم الى باحة التشريفة.

يا دين دينكم؟!

اذن ليس كل ما مضى سوى تحضيرات للتشريفة؟!

– اخلع كامل ملابسك

بدأنا بخلعها ونحن نتلكأ بفك الأزرار، كمن يحاول تأجيل قدر محتوم، ولو لبضع ثوان اضافية، لعل معجزة ما تغير مجرى الحكاية.

باحة شاسعة تتسع لخمسين زنزانة.

– نخلع الثياب الداخلية أيضاً؟

– قلت كامل ثيابك.. أترك الجلد فقط، فنحن بحاجة إليه.

أغمضت امنا الدنيا عينيها، وصكت أسنانها، وانزوت في الركن الأبعد من باحة التشريفة، مديرة ظهرها لأمواج متدافعة من الأصوات الممزقة بين الصراخ والعواء، وما يشبه الولاويل.

هياكل لكائنات غريبة، محزومة أرجلها ومشدودة الى أعلى..

كل الاشياء مقلوبة.. كل الآلهة عاجزة ومجللة بالخزي.. وحده الموت يقف عابساً مهيباً ثابت الجنان.

كانت السياط والكرابيج تشخط الهواء بزفيرها، تاركة وراءها أنيناً مخطوفاً، تتخلله شهقات دامية متقطعة.

– انهضوا.. ثبتوا الطميشات على عيونكم، وليضع كل منكم يده على كتف الآخر..

– صفاً.. سر

تقدمنا كقطار، تتدافع مقطوراته وتتراجع، متلاطمة تبعاً لحركة القاطرة الأولى التي يقودها أحد عناصر البلدية.

– تحرك يا حيوان تحرك.. ارفع رجلك قليلاً عند اجتياز الباب.

اجتزنا الباب الأول.

– الى اليمين تابع.. تابع بسرعة.. ارفع رجلك ايضاً.. تابع.. الى اليمين.. عندك.. انتظر قليلاً… تابع.. الى اليمين.. الى اليمين ايضاً.. قف.. تقدم قليلاً.. قف..

– ارفعوا الطميشات.. هذا مهجعكم، وهذه البطانيات.. خلال نصف ساعة اريد المهجع جاهزاً.

– من هم العسكريون بينكم؟

رفع العسكريون أيديهم.

– ما رتبتك أنت؟

– رائد

صفعة خاطفة مدربة..

– قل رائد حضرة الرقيب.. وأنت الآخر ما رتبتك؟

– مساعد حضرة الرقيب.

– اذن انت رئيس المهجع.. انتبه جيداً لتقديم الصف، كلما فتح الباب وكلما اغلق.. مفهوم؟

انسحب الرقيب والعساكر، وما كاد الباب يغلق، حتى فتح من جديد.

– رئيس المهجع تعال.

رشقة من الصفعات وقذيفة على البطن.

– لماذا لم تقدم الصف، عندما أغلق الباب؟ قدم الصف تا شوف.

– حاضر حضرة الرقيب.. انتبه.. استا.. عد.. استا.. رح.. استا…عد.. المهجع انتهى من التفتيش حضرة الرقيب.

صفعة طرشاء..

– قل الرقيب أول ولك ؟؟؟ أعد..

– المهجع انتهى من التفتيش حرقيب اول

هكذا دمج رئيس المهجع كلمة “حضرة” مع “الرقيب” من شدة الارتباك.

ابتعدت الخطوات، وتدحرجت عيوننا في أرجاء المهجع: واسع متآكل.. مخنوق بالغبار.. والجدران اشبه بلوحات سوريالية مطروشة بالدم والوسخ ولطخات متنوعة من الدهان والبقع المرممة بشيء من الاسمنت.. أما الارض..

حسناً، سختصر الموضوع واسألكم.. هل سمعتم باسطبلات أوجياس؟!

[دوائر ذات شهيق متصل

آخ يا تدمر…

في أواخر عام 1978 التقينا للمرة الأولى. كنا يومها بضعة أصدقاء، يجمعنا الشعر، والحنين الى ما لا نعرف، ومقدار ليس قليلاً من البراءة والمستقبل.

تدمر هذه المرة زمن آخر، زمن يسير على أربع، مغمض العينين، يعوي حيناً، ويموء حيناً، وتتقطع أنفاسه حين يبدأ تنفس المهاجع في الباحات (…).

للحق، كان الطبيب يأتي مع شرطيين أو ثلاثة، ومن وراء الباب يسأل صوت ما عن سبب الموت، ويكون الجواب أي شيء سوى الحقيقة… لأن إعلان الحقيقة يمكن أن يكلف المهجع المعني ضحية جديدة في اليوم التالي.

مرة… أعلن أحد السجناء في المهجع المقابل إضراباً مفتوحاً عن الطعام.

حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه…

تعبت الأحذية والقبضات والعصي.

أحضر الشرطي فأراً ميتاً.

ربما كان ينوي اطعامه لذلك السجين المضرب عن الطعام، ولكن حالة السجين، على ما يبدو، لم تكن قابلة لغير الموت. لهذا كان الفأر من نصيب سجين آخر، كان هو الأقرب الى الشرطي.

كنا حينها أكثر من عشرين عيناً، تتوامض متقاطعة، وهي تتزاحم على ثقوب الباب.

أدخل الشرطي فأره في فم السجين، وأمره أن يبتلعه ابتلاعاً بدون أي مضع.

حاول السجين في البداية قليلاً قليلاً… ولكن في منتصف الطريق، بدأت عضلات وجهه، تتقبّض وترتجف.

لو أي شيء غير هذا الفأر الميت!

لو كان مسلوخاً على الأقل!

سكن للحظات، بدا فيها مستنزفاً الى آخره…

يا ابن (….) إياك أن تمضغ.

يلكزه الشرطي في خاصرته.

قلت لك أن تزلطه زلطاً الى النهاية.

فجأة عاد السجين يحاول، وقد أطبقت كفّاه على عنقه، وراح يضغط حيناً، ويمسّد حيناً بحركات متشنجة ومتواترة.

يا ابن (….) لا تحرّك فكيك… قلت لك زلطاً.

هزّ السجين رأسه عدة مرات، كما لو أنه يريد أن يرسل الى الشرطي إشارات سريعة من الموافقة والاستعطاف.

سقط على ركبتيه.

انهض يا كلب… قلت لك انهض… ترفض الأمر العسكري؟! بسيطة… إذا بقيت حياً نتحاسب.

كان الجزء الأخير من ذيل الفأر، لا يزال متدلياً عند زاوية الفم.

آخ يا تدمر آخ…

لم أكن أنوي الدخول في هذا الاستطراد المرهق… ولست مقتنعاً الآن بالتراجع عنه، ولم يعد لدي القدرة على العودة الى تفاصيل ما تعرّض له ذلك السجين، المضرب عن الطعام، خلال الأربعة أو الخمسة الأيام اللاحقة.

أعتقد أن بإمكانكم مساعدتي، أو على الاقل تفهّم وغفران عدم قدرتي، وربما عدم رغبتي في استكمال ما بدأت.

لقد حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه.

تعبت الأحذية والقبضات والعصي، ولكنه…

هل يكفي القول إن ما تعرّض له ذلك السجين، منفرداً، يفوق ما تعرّض له المهجع مجتمعاً؟

ومع ذلك فإن المسكين… لم يمت!!

فقط أصبح مجنوناً.

أصبح… مجنوناً… فقط.

[البرزخ

زمامير ورقص وضحكات وإطلاق رصاص!!

هكذا كان عرس استقبال سيارة الدورية، التي اعتقلتني، وهي تجتاز الحاجز الأخير المفضي الى باحة الفرع.

أهلاً وسهلاً بالمناضل الكبير!!

منذ سنوات ونحن ننتظر أن تشرّفنا بهذه الزيارة المباركة.

تتهنّى يا عم… الآن ستشبع نضالاً.

افتحوا باب السياسة للأستاذ.

تفضل أستاذ لا داعي للخجل…

ولو… أنت على العين والراس في ضيافة فرع فلسطين.

لست أدري لماذا يُحمّلون تعليقاتهم كل هذا القدر من السخرية والشماتة؟!

فظيعة هذه الدقائق…

في رأسي ما يشبه الفجوات، وما يشبه الموج، وما يشبه عنفات شيطانية تدور على نحو مجنون وفي أكثر من اتجاه.

اللعنة…لم يتركوا لي أي فرصة للهرب، كان الحي مطوّقاً: مسلحون على الأرض… على الاسطح… سيارات على المداخل… وبضعة عناصر يحيطونني بمنتهى اليقظة والريبة والقلق.

لا بأس… قد يتاح لي في أحد المنعطفات أن أفتح باب السيارة، وأرمي بنفسي. صحيح أنها محاولة ضعيفة ولكن ربما…

لكأنهم يقرؤون أفكاري، فالسيارة تندفع مثل قذيفة، لا تلقي بالاً الى المفارق والمنعطفات.

لم يزل أمامي فرصة محتملة للهرب لحظة وصولي الى الفرع… ولكن ماذا لو لم أفلح؟ ما هي حدود مناورتي في الساعات الأولى؟ كيف سأتخلص من بعض الأوراق الصغيرة المخفية في جيوب داخلية؟ ثمة ورقة ملعونة… لو نجحوا في حل شيفرتها، أو إجباري على حلها، فعلى قيادة الحزب السلام.

حاذر… أخفض رأسك قليلاً وأنت تنزل.

تنبّهت الى ضرورة أن يكون رأسي مرفوعاً بعد أن أترجل وأسير بينهم. ينبغي أن أترك لديهم انطباعاً واضحاً من القوة والتماسك. لم أكن أتوقع أنني، لاحقاً، سأضطر الى المناورة، وإحناء رأسي أكثر من مرة.

تقدمت بخطوات تبدو ثابتة، رافعاً رأسي، وشابكاً يدي خلف ظهري.

في الحقيقة كانتا مقيدتين الى الخلف بكلبشة ذات سوارين.

في الغرفة الأولى فكوا الكلبشة، وأخذوا مني ما يسمى “الأمانات” من نقود وساعة ونظارة وبطاقة هوية وما لا أدري، ليتابعوا بعدها الى الداخل:

كوريدور عريض… على جانبيه غرف مكاتب أو تحقيق.

لن أستغرب شيئاً، فلدي تصور أولي عن مخطط الفرع ومعظم ضباطه.

كان أكثر ما يشغلني هو دراسة المداخل والمخارج وإمكانيات الهرب.

فيما بعد سأعرف أن هاجس الهرب ظل يرافق معظمنا لسنوات عديدة.

فجأة فتحوا باب غرفة الى اليسار وأدخلوني. وضعوا طميشة على عيوني ثم خرجوا، وأغلقوا الباب. سمعت وقع خطواتهم يبتعد.

ما كدت أبتلع الورقة الملعونة حتى فتحوا الباب.

جولة عاصفة من الصفع والركل والقبضات.

أحضروا العدة… قال أحدهم، ثم أضاف: وأنت أيها المناضل اخلع كامل ملابسك.

ليست هذه أول مرة أتعرض فيها للتحقيق، فقد سبق وتعرضت قبلها مرتين للاعتقال، ولا يخفى عليّ معنى أن يكون المرء عارياً خلال التحقيق، أو مكشوفاً ومراقباً في السجن الذي سينقلونه إليه بعد انتهاء التحقيق.

كانت الصرخات والتهديدات والأسئلة تتشظى وتتبعثر في أكثر من منحى، وأنا صامت تماماً.

توقفوا للحظات، ثم سألني أحدهم عن اسمي، فقلت انني لن أجيب قبل أن يحضر رئيس الفرع.

نحن نعرف ما اسمك الحقيقي والحركي أيضاً، ولكن نريدك أن تقوله أنت.

لن أقول أي شيء قبل أن يحضر رئيس الفرع.

أرسلوا له وراء رئيس الفرع.

أصوات أقدام تدق الأرض بقوة، إشارة الى تقديم التحية العسكرية:

احترامي سيدي…

احترامي معلم…

ثم هدوء ثقيل متربص لبضع ثوان، يبدو زمنها النفسي أشد وطأة من الماراثون.

خير يا بني… لماذا طلبتني؟

لا شك أن الحديث موجه إلي… لعنة الله على الطميشة. انها تستكمل المعنى المقصود من جعلك عارياً ومكشوفاً ومراقباً.

لا أعرف لماذا افترضت أنهم يمكن أن يضحكوا عليّ بتمثيلية حضور رئيس الفرع، فقلت:

لم أطلبك أنت…

تغير صوته، وتلجلج قليلاً، وهو يسأل:

ألم تبلغوني أنه يريد مقابلتي؟

نعم معلم… هو الذي رفض أي كلام، حتى تحضر سيادتك.

هل أفهم أنك تراجعت عن طلبك؟

لا… ما زلت مصراً على مجيء رئيس الفرع.

هل تشك بأني لست رئيس الفرع؟

بل متأكد أنك لست هو.

ما الذي يجعلك متأكداً؟

صوتك.

ما به صوتي؟

ارفعوا الطميشة عن عينيه.

كان وراء الطاولة رجل ستيني أشيب ممتلئ، ينظر إليّ بابتسامة هادئة، يتخللها شيء من التعاطف المشبوه.

لم يطل كثيراً وقت الأسئلة والمناورة، ليكتشف رئيس الفرع انني لا يرهبني سيف المعز، ولا يغريني ذهبه، فنهض وملامحه تتقبض وتعتكر وتكفهر.

شوفوا حسابكم معه… يبدو انه ينوي أن يظل بغلاً.

قالها وخرج تاركاً وراءه صمتاً أسود، ونجيعاً أسود، واحتمالات كالحة ومدججة بما يشبه الألغام.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى