سمير سعيفانصفحات سورية

حكم حافظ الأسد .. ودروس للمستقبل في سورية/ سمير سعيفان

 

 

ثلاثة عقود بقي خلالها حافظ الأسد ممسكاً بالسلطة في سورية من 1970 حتى 2000، في بلد اشتهر بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946، ثم استطاع بعد موته أن ينقلها بسلاسة إلى ولده بشار، فلا شك أن الرجل لا ينقصه الذكاء والدهاء، لكن، ما هي القواعد الذهبية التي اتبعها لتثبيت حكمه؟

كان الأسد يعلم أن الاحتفاظ بالسلطة أصعب من القفز إليها، وإن ذهبت فلن تعود، فصمم على أن يحافظ عليها بأي ثمن. قبل انقلابه في نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اتخذ الأسد ضمن القيادة السورية موقفاً براغماتياً، جعل كثيرين يرحبون به، فقد عارض نهج صلاح جديد المتشدد، فتقرب أكثر من الفئات الاجتماعية المدينية، ومن طبقة رجال الأعمال، وقدم وعوداً بإقامة برلمان وتحالف للأحزاب السياسية، فرحبوا بانقلابه، وكتب رجال الأعمال شعارهم الشهير “طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ أسد”.

وعلى صعيد علاقاته العربية، عارض نهج جديد المتشدد تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه بلدان الخليج، وتجاه العلاقة مع مصر ومع بلدان الغرب، ورأى فيه الروس والأميركان نهجاً سياسياً معتدلاً، فرحبت جميعها بقدومه، فأشاع بهذا كله مناخا مرحباً به، ساعده على تثبيت سلطته.

كانت قاعدة حافظ الأسد الرئيسية، من أجل تثبيت حكمه، هي “تعطيل قدرة المؤسسة العسكرية على القيام بأي انقلاب”، فهنا مكمن الخطر، فعطل وظيفتي هيئة الأركان ووزارة الدفاع، وأبقاهما هيكلاً فارغاً من دون صلاحيات حقيقية، وربط جميع قادة الفرق والألوية والوحدات العسكرية به شخصياً وكل بمفرده، وكان يختارهم بنفسه، وحرّض على التنافس بينهم، كي لا يتفقوا على أمر ضده.

كانت القاعدة الثانية “القوة والرهبة هي من يبقيه في الحكم”، فأقام “مملكة للخوف”؛ دولة أمنية بمواصفاتها المكتمله، وتفاصيلها كثيرة ومعروفة، فضاعف حجوم فروع الأجهزة الأمنية وشبكتها، ووسع صلاحياتها لتتدخل في كل شيء، واختار بنفسه قادتها وربطها به مباشرة، وكل بمفرده، وتعمد تداخل صلاحياتها، ويراقب كل منها الآخر، وأصبح ضابط الأمن وضابط الجيش هو من يلجأ إليه الناس لقضاء حاجاتهم، بدلاً من لجوئهم، في السابق، إلى العائلات المعروفة في المدن، وإلى كبار رجال الأعمال السابقين، وأصبحوا هم من يركب السيارات الفارهة، إشارة إلى الجاه والسلطان، بعد أن أصبحت السيارة الفارهة نادرة بين أيدي المدنيين، بعد منع استيرادها للمدنيين. وضرب بقسوة مفرطة أي شكل من أشكال المعارضة، وقدم مثالاً في أثناء مواجهته مع الإخوان المسلمين، أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وبلغت قسوته ضدهم الذروة في شباط/فبراير 1982، عندم دمر جزءاً كبيراً من مدينة حماه، وقتل عدة آلاف من المدنيين، مقدماً مثالاً لما يمكن أن يفعله ضد كل من يعارض سلطته.

كانت قاعدته الثالثة “إضعاف المجتمع وتكسير عظامه”، لكي لا يمتلك قدرة على التحرك ضد سلطته، فإضافة إلى تعزيز مصادرة الحريات العامة الذي بدأ مع 8 مارس/آذار 1963، دجّن الأحزاب القائمة ضمن جبهة وطنية باهتة لا دور لها، ولم يصدر قانوناً للأحزاب، ومنع قيام أية أحزاب جديدة، ووضع كل من سعى إلى تشكيل تنظيم سياسي في السجن مدداً وصلت حتى ربع قرن. كما منع تشكيل جمعيات مدنية جديدة، وأقام مجلس شعب (برلمان) صورياً، يُنتَخَب بحسب رغبة أجهزة الأمن، ولا يملك أية صلاحيات حقيقية، وأصدر دستوراً منح لنفسه فيه صلاحيات مطلقة، فأصبح رئيس الجمهورية يسمى من قيادة حزب البعث التي يسيطر هو عليها، ويتم باستفتاء مسبق النتائج على شخصه، وأصبح هو رئيس السلطتين، التنفيذية والقضائية، ويملك حق حل البرلمان وهو القائد العام للجيش، إضافة إلى أنه الأمين العام لحزب البعث (الحاكم). وبالتالي، أضفى الأسد على سلطته شرعية دستورية من صنعه، وأخذ تصديق الناس بالإكراه الناعم المستند إلى قدر كبير من الإكراه الصلب. وأكمل حلقة السيطرة بالإطباق على النقابات العمالية والنقابات المهنية، من محامين وأطباء ومهندسين ومعلمين، وعلى منظمات الفلاحين والنساء وغيرها، ودجّنها جميعها وحولها إلى منظمات بيروقراطية، توجه إدارتها الأجهزة الأمنية. كما حوّل حزب البعث نفسه، والذي هو “قائد الدولة والمجتمع” بحسب الدستور، إلى جهاز إداري بيروقراطي بمهام أمنية، مهمته تثبيت السلطة، وأخضعه هو نفسه لرقابة الأجهزة الأمنية. والخلاصة هي مؤسسات كثيرة وشرعية مصطنعة، ومجتمع ضعيف ودولة متغّولة.

كانت القاعدة الرابعة أن حافظ الأسد جعل من نفسه “طوطماً” لا يمس ولا يقترب منه أحد، وغدا كشخص متعالٍ، ينظر الناس إليه برهبة وخوف. ونقلاً عن شخص رافقه في زيارته إلى كوريا الشمالية مطلع السبعينات، أن الأسد في طريق الذهاب كان يتحدث مع أعضاء الوفد المرافق ويخالطهم، لكنه في طريق العودة، وبعد أن شهد تقديس كيم إيل سونغ، عزل نفسه عن الوفد، وجعل هناك مسافة بحيث لا يقترب منه أحد. وقد كرست مكنة الإعلام والمكنة الحزبية وجهاز الأمن هذه الصورة، وتم اخترع شعار “الأسد للأبد”.

ومن جهة أخرى، لم يسمح لأية شخصية لعبت دوراً قيادياً في مرحلة ما خلال حكمه أن تبرز، مهما كان دورها، فلا دور لأحد سواه. وعلى كل من ينتهي من خدمته أن يختفي ويصمت إلى الأبد، فلا يعود أحد ويسمع به.

شراء الولاءات واستخدام الدولة

كانت القاعدة الخامسة في حكم الأسد هي “القبض على المصالح”، واستخدامها لترسيخ سلطته وشراء الولاءات، “فالناس عبيد مصالحهم”، ومن يأكل على طبق السلطان يضرب بسيفه”، وسعى إلى خلق مجموعات يرتبط مصيرها بمصيره، وترتبط مصالحها ببقائه، فإن ذَهَبَ ذَهَبَتْ معه، وبالتالي، ستكون هذه القوى حريصة على بقائه بأي ثمن، للحفاظ على مصالحها. وقد سعى الأسد إلى استمالة نخب من الأكثرية السنية، عبر مكاسب مادية لمن يواليه من نخبها الثقافية ورجال أعمالها ورجال دينها وشيوخ عشائرها، وطبّق سياسة التعددية الاقتصادية التي فتحت الباب موارباً أمام قطاع الأعمال الخاص، كما توجه إلى العشائر وإيجاد مصالح لكثيرين من شيوخهم بأشكال مختلفة، منها تولي نشاط التهريب الواسع عبر الحدود، واستعمل الفساد والإفساد أداة لإنتاج الثروة والسيطرة وشراء الولاء. وسعى إلى استمالة الطائفة السنية، ببناء المساجد ومدارس تحفيظ القرآن وربط المؤسسة الدينية بالسلطة، عبر سلة من “مشايخ السلطان”، مثل المفتي أحمد كفتارو، وبعض كبار العلماء، وكان أبرزهم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ورعاية منظمة القبيسيات، بل وأخذ يصلي في مساجد السنة، وفق تقاليدهم في الصلاة.

القاعدة السادسة، استخدام “شرعية الدولة وجهازها، فهي أداة السيطرة على المجتمع وعلى قطاع الأعمال، وأداة توزيع المنافع وكسب الولاء، خصوصاً أن الدولة السورية سيطرت، بعد إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، أواسط ستينات القرن العشرين، على جزء كبير من الدخل الوطني وتحكمت بتوزيعه. وبالتالي، أصبح بيدها أداة تأثير على مصالح طبقة رجال الأعمال، وعلى العاملين في مختلف القطاعات الاقتصادية، وعلى العاملين في القطاع الحكومي الواسع، الذي بات يشكل أكثر من 60 – 65% من الاقتصاد الوطني السوري، أواسط سبعينات القرن العشرين. وقد استمر الأسد بسياسة اقتصادية وخدمية وسعرية محابية للفئات الفقيرة التي بدأت منتصف الستينات، ما شكل قاعدة شعبية واسعة للحكم. واستخدم الفساد أداة لكسب الولاء، ولتكوين ثروات للمسؤولين عبر الرشاوى وعبر الشراكة مع قطاع الأعمال الجديد الصاعد، بعد القضاء على قطاع الأعمال القديم، بعد إجراءات أوساط الستينات.

القاعدة السابعة، إحداث صدام اجتماعي مستمر، فقد وضع حافظ الأسد مقاليد الأمور في كل محافظة في يد الفئات التي كانت مهمشة (أبناء ريف وفقراء مدن) لتتحكم بالفئات التي كانت سيدة، فهؤلاء السادة المحليون الجدد سيبقون يخافون عودة الماضي، فيعملون بإخلاص على تثبيت حكمه، وأفسح في المجال لأبناء الريف في القدوم إلى المدينة، وإقامة أحزمة واسعة من الفقر، تحيط بالمدن الكبرى، وخصوصاً دمشق، ليشعر أغنياء المدن الكبرى أن الخطر محدق بهم، وأن نظام الأسد هو من يلجم تلك الفئات الوافدة. كان الأسد يسعى إلى أن يشعر ساكن حي المالكي، أو حي أبو رمانة، في دمشق، أن السلطة تحميه من هجوم محتمل لقاطني حي الـ 86 أو حي جبل الرز أو الحجر الأسود في دمشق ليستولوا على بيوتهم الفارهة، بدل مساكنهم البائسة، وأن يشعر أهالي حي الشهباء أو حي المحافظة في حلب أن السلطة تحميهم من قاطني حي الهلك أو الكلاسة الذين يمدون رقابهم نحو بيوتهم الفاخرة.

القاعدة الثامنة، تأميم الطائفة العلوية، وسلب إرادتها وتوريطها. فقد وجد في طائفته المهمشة والفقيرة أداة رئيسية لحكمه، فهمش مرجعياتها الدينية وعائلاتها التقليدية، ليصبح هو مرجعها الذي قدم لها منافع واسعة، بإتاحة إمكانية واسعة للتوظيف في الجيش والأمن ومؤسسات الدولة، وعبر تقديم منافع كبيرة لبعض شخوصها. وفي الوقت نفسه، ضرب بقوة فئات واسعة منها عارضت حكمه، وجعلها تدفع ثمناً غالياً. وبالتالي، ربط مصالح فئات واسعة من الطائفة العلوية ببقائه، وعمل على تمكينها بإيجاد طبقة قوية من كبار رجال الأعمال من أبنائها، وكذلك بإيجاد عدد كبير من كادرات الدولة وقياداتها التقنية والبيروقراطية والعلمية. فربط الجزء الأكبر من أبناء هذه الطائفة مصيرهم ووضع طائفتهم ومصالحها ببقاء الأسد، اعتقاداً أن ذهاب نظامه سيهدد مكاسبها، إضافة إلى تحميلها مسؤولية ما فعله النظام عبر عقود حكمه.

إسرائيل .. والسياسة الخارجية

القاعدة التاسعة، تحويل العدو الإسرائيلي إلى أداة لتثبيت حكمه، فقد وجد الأسد في إسرائيل واحتلالها الجولان ضالته، لكي تستمر مناخات اللاحرب واللاسلم، فبعد أن ساهمت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 في تثبيت حكمه، أصبح استمرار هذا العدو ضرورياً، فهو يوجه اهتمامات السوريين نحو التهديد الخارجي، ويخلق بيئة شعبية وطنية موالية، ويبرر استمرار حالة الطوارئ منذ 1963 وتطبيق الأحكام العرفية والمحاكم العسكرية، والاحتفاظ بجيش واسع وأجهزة أمنية متضخمة، وعزّز وضعه هذا برفع الشعارات القومية والعداء للإمبريالية والممانعة.

على صعيد سياسته الخارجية، طبق حافظ الأسد ببراعة قاعدته العاشرة، وهي “مع الجميع ولست مع أحد”، فقد صادق الروس الشيوعيين، وكان يأخذ المساعدات من السعودية “الرجعية”، وأقام علاقات متأرجحة مع الأميركان، وأخذ تفويضاً عربياً وغربياً بإدارة لبنان، ووقف مع إيران في حربها على العراق “الشقيق”، وفي الوقت نفسه، تلقى مساعدات من دول النفط العربية المعادية لإيران، وكانت القوى القومية واليسارية العربية تدافع عنه، وفي الوقت نفسه، كانت أحزاب الإخوان المسلمين في الخارج تتخذ منه الموقف الإيجابي نفسه، على الرغم من أنه يحكم على من ينتمي لحزب الإخوان داخل سورية بالإعدام، وهذه براعة تحسب له.

في المحصلة، لم يكن هذا النمط من السلطة من ابتكار حافظ الأسد، فقد طبق قبله في أماكن كثيرة في العصر الحديث، مثل الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، وفي بلدان عربية أيضا مثل مصر عبد الناصر ونظام الجزائر، بل كان انقلاب 8 مارس/آذار 1963 قد وضع أسس هذا النظام، لكن الأسد برع في تطبيقه وتكييفه مع البيئة السورية، وإنتاج نسخة سورية خاصة، أهم خصائصها أنها عطلت قدرة المؤسسة العسكرية على تدبير انقلابات. ومن المعروف أن هذه الأنظمة الشمولية تحقق عدد من الإنجازات في بداياتها، ولكن استمرارها يوجِد حالة من الركود والجمود ومراكمة مشكلات كثيرة، يفتقد هذا النظام لآلية لحلها، فتتراكم ثم تنفجر في النهاية محطمة كل شي. وهذا ما نحصد نتائجه في سورية اليوم.

ولكن هذه هي دروس لمستقبل السوريين.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى