صفحات الرأي

حكواتي بربطة عنق/ صقر أبو فخر

 

انحسرت كثيراً صورة عمرو خالد عن شاشات التلفزة، وانزوت في بعض المحطات التي لا يشاهدها إلا مالكوها ورفاق مالكيها، وقليل من الأصحاب والأحباب. ولا ريب في أن كثيرين زهقوا من مشاهدة مُراجع الحسابات الذي صار ثرياً جداً. وثراؤه ذاك لم يأتِ من إدارته أموال الناس، بل من إدارته برنامجاً ابتهالياً للتسويق التلفزيوني، مثل دعاء الركوب ودعاء النزول ودعاء الامتحان ودعاء ولوج البيت ودعاء الإيلاج ودعاء التجول في الإنترنت، وغير ذلك من غرائب هذا الزمان “الترللّي”. ومن مفارقات هذه الحقبة أن عمرو خالد لمع نجمه، في الفترة نفسها التي لمع فيها نجم شعبان عبد الرحيم (شعبولا). ولا أجازف كثيراً في الاستنتاج إذا قلت إن الطريقة التي يعرض فيها عمرو خالد تاريخ الإسلام لا تختلف، في الشكل، عن التي يستعرض فيها أحمد عدوية أو أبو الليف أو شعبولا أو سعد الصغير أغنياتهم العجيبة. وعمرو خالد هو واحد من كثيرين في هذه المهنة، أمثال الحبيب الجفري وصفوت حجازي وراغب السرجاني وعمرو عبد الكافي وطارق السويدان وخالد الجندي ووجدي غنيم وحازم أبو اسماعيل ومحمد جبريل وزغلول النجار، وقبلهم ياسين رشدي، وأحياناً جلال كشك، علاوة على الشيخ متولي شعراوي. وهؤلاء الدعاة الجدد يشبهون، إلى حد ما، بعض المبشرين البروتستانت في “الأرياف” الأميركية، أي أنهم أرزقية. أما شغفهم بالتلفزيون فيعود إلى خصلةِ كسبِ المشاهدين، ولو بالتسول على طريقة سُمّار الليالي، لأن من شأن ذلك أن يزيد مبيعات كتبهم والشرائط المسجلة والأقراص المدمجة التي تنتجها شركاتهم الظاهرة والخفية؛ إنهم شطار و”فهلويون”، أيضاً، فهم يحوِّلون الإسلام من سيرورة تاريخية ودينية وبشرية وحضارية متشابكة ومعقدة إلى مجرد حكايات مسلية (Fairy Tales) عن هذا الصحابي أو ذلك الولي، أو إلى دروس ضحلة في الأخلاق على غرار ما يدرسه “التلموذ” الصغير في المرحلة الابتدائية.

اللافت أن الجمهور الذي ينصت إلى عمرو خالد مؤلف من أبناء بقايا الطبقة الوسطى، ومن أبناء الطبقات الجديدة، وهؤلاء يتوقون إلى نيل الطمأنينة، من خلال البركة التي يمنحها الاسلام لهم، ومن دون أن يكونوا منخرطين في أحزاب الإسلام السياسي؛ فهؤلاء ليسوا سياسيين، بل مسلمون لديهم شعور بالإثم، جراء تناقض الطراز الحديث من الحياة اليومية التي يعيشونها، وبقايا الإيمان الموروث عن العائلة، مثل طقوس الصوم في رمضان والصلاة في المساجد القريبة، وزيارة قبور الأجداد في الأعياد، وسماع تلاوات القرآن في مذياع المنزل… إلخ. ويؤدي الدعاة الجدد، أمثال عمرو خالد، دور رهبان الاعتراف في الكنائس المسيحية؛ فهم يرممون علاقة الفرد القلق والمضطرب بالمجتمع، من خلال التدين البسيط الذي يريح ضمائرهم المعذبة، ويمنحون التزكية للأموال التي تتراكم في جيوب آبائهم من مصادر ليست شرعية بالضرورة. وهؤلاء الشبان يبحثون عمن يقول لهم إن طاولة الزهر لا تتعارض وصلاة الجمعة، وأن تدخين النرجيلة (الشيشة) ليس حراماً، وأن القبلات في السيارة أمر ليس خطيئة، وقد وجدوا في الدعاة الجدد حضناً يقيهم الجماعات السلفية التي لا تنفك تخوفهم بالجحيم، وسنداً لا يسلخهم عن نمط الحياة اليومية التي يرغبون فيها.

يلوح لي أن التطورات المتسارعة في العالم العربي أنهت، إلى حد بعيد، مهنة الدعاة الجدد، وأحلّت محلهم دعاة أشد بأساً. فقد كان الدعاة، في السابق، دلالين وباعة سُبحات ومنظمي حلقات الزار والموالد والمولويات والرفاعيات، وكانوا يمدون أرجلهم هانئين، على غرار تنابلة السلطان عبد الحميد في التكايا الهادئة، إلا أن خلفاءهم راحوا يبيعون، اليوم، فتاوى مغشوشة ووصفات “ديلفيري” وأدعية بدولار، والدفع يجري بلا حساب. ثم اختلطت السياسة بالدين بالأموال والاستخبارات معاً على طريقة سمك لبن أسكالوب بيتزا مسقّعة تمر هندي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى