صفحات الثقافة

حكواتي: طيّار البراميل… والذبح أمام الكاميرا/ محمد هديب

 

لا أتذكّر إن كان عزاءً أو فرحاً، لكنّها مناسبة ذبحت خلالها النعجة. وفي ساعات كانت قطع اللحم مرصوفة على المناسف، أما أنا فلم آكل مع العباد.

قد رأيت النعجة وهي تُذبح ورأيت صورة الدم يشخب حاراً، وضرعها ينتفض أثناء السلخ. وحين تحوّلت إلى وليمة كان حجابي الحاجز كالحجر.

ذاك كان يوماً ومضت بعده أيام. فأنا أحبّ الكبّة اللبنية، أي والله، ويمكنني أن أقضي على خمس حبّات كبيرة، محشوة بلحم مفروم. لا أعرف، وحقيقة لا أفكّر، من أين أتى اللحم؟ وكيف ولماذا ومتى؟ وكل الأسئلة الصحافية التي ينبغي أن نجيب عنها في المادة الخبرية. هذه صورة شخصية. بورتريه لي وللنعجة.

و إن لم أرَ عملية الذبح لكتبتُ قصيدة مديح في المنسف واللحم البلدي، واللبن الجامد وتحالف الصنوبر واللوز على الرزّ العامر، والكرم الحاتمي الغارق في السمن البلدي وسميرة توفيق من ورائنا تغني “بالله تصبوا هالقهوة”.

ما علاقة هذا بالطائرات من دون طيار وطائرات البراميل المتفجرة والذبح الحلال على السكين؟

أنا سأقول لك:

اللعبة دائماً، ومنذ منتصف القرن الماضي، هي لعبة “عصر الصورة”.

الطيّار لا يتعامل مع لحم مباشر، بل مع إحداثيات. تعالَ إلى ويكيبيديا: الإحداثيات في الرياضيات هي أرقام تصف المكان النسبيّ لنقاط في المستوى أو الفضاء الهندسي.

هو يكبس الزر مثل لعبة “بلاي ستايشن”. حتّى لو كان برميلاً، كلّ ما سيفعله أن يدفش بقدمه البرميل من فتحة الطائرة ومن ارتفاع كيلومترَيْن. وأنت ما عليك سوى أن ترى على الفضائيات كتلة رمادية وحمراء وسوداء تصعد في السماء وتصعد…

هذا مؤثّر، لكنّه ليس كافياً ليمنعك من مواصلة تقشير الفستق. لأنّ الصورة غير حادّة (في العمق غير جادّة). فما الذي صعد مع عامود النار إلى السماء؟

أوووووه. هذا يحتاج إلى خيال وخيالك فقير.

تعالَ إلى الحوار التالي:

– بعثتلك على الواتساب فيديو شفته؟

– شفت شوي وما قدرت أكمّل.

– شوف كيف ذبحوه الله لا يوفّقهم.

– حلّ عن سماي يا عمي. أنا شفت أوّله ما قدرت أتعشّى امبارح.

– لا، لازم تشوف حتّى بس تعرف.

– أعرف شو؟

…..

وهكذا تبدو يد الطيار، أبو إحداثيات، نظيفة. تلحس عنها العسل. والصورة التي ينتجها ببراميله المتفجّرة لا يظهر هو فيها أبداً. الصورة ذاتها لا يوجد داخلها لهاث وخيط دم يترقرق. لا توجد أرض أصلاً لأنها صعدت، ومَن عليها، إلى السماء.

من الممكن أن تلتقي، أنتَ، بالطيار نفسه، في حديقة عامة، فيقول لك: تصوّر، لا سمح الله، لا سمح الله يعني، لو أنّ ابنك يُذبَح أمام الكاميرا: ما شعورك لحظتها؟

تخيّل لو أنّ ثمّة كاميرا تحتمل درجة حرارة البرميل المتفجّر وتصوّر الجثث لحظة تتحوّل إلى هباء.

هذه صعبة.

اتّفقنا قبل قليل. خيالك فقير.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى