صفحات سوريةمحمد ديبو

حكومات أم أنظمة؟/ محمد ديبو

 

 

ردًا على الاحتجاجات التي اندلعت في أكثر من بلد عربي أخيرًا، على خلفية المطالب الاقتصادية الاجتماعية (تونس، الأردن، المغرب، السودان..)، طالب سياسيون وفاعلون اجتماعيون برحيل الحكومات “المسؤولة” عن هذا الوضع الذي ترقد فيه اقتصادات تلك البلدان، الأمر الذي يعيدنا إلى مطالبات كانت سائدة قبل عام 2011، وكأن شيئا لم يتغير، فهل هذه المطالبة برحيل الحكومة تبدو مشروعة اليوم؟ أم أنها باتت، بحكم الماضي، بعد أن تجاوز ما طرح في الشارع العربي على امتداد سنوات الجمر العربي، هذه المطالب؟ وإذا كان يمكن إسقاط هذه المطالب على بلدانٍ لم تهتز سلطاتها ونظم حكمها كثيرا بفعل الربيع العربي (الأردن، المغرب، السودان..) فهل يصح الأمر في حالة بلدانٍ دخلت طريق التغيير السياسي فعلا، مثل تونس؟

يبين التأمل في حالتي المغرب والأردن أن خطاب السلطة وبعض المعارضة لم يبارح خطاب ما قبل عام 2011، فالأزمة في الحكومة لا في آليات الحكم السلطوية الممسكة بخناق كل شيء، الأمر الذي يقتضي الإشارة إلى أن الحكومة في بلدانٍ كهذه لا يمكن أن تغيّر شيئا، سواء كانت حكومة بتوجهات ليبرالية أو إسلامية أو اشتراكية، لأن حدود فعل هذه الحكومات محدودةُ في نهاية المطاف، بما يسمح به القصر (السلطة العميقة)، ولعل تجربة حكومة عبد الإله بنكيران في المغرب توضح الأمر، إذ لم يتمكّن الرجل، على الرغم من كل مشاغباته وسعيه إلى كسر السيستم الحاكم، من إحداث أي تغيير يذكر في المسائل المهمة، لأن السلطة الحقيقية كانت في مكان آخر، لا في الحكومة، بل ذهبت السلطة المغربية إلى أبعد من ذلك، حين أطاحت الرجل، وأتت بمن هو أكثر “ليونةً” بيد السلطة التي تحكم من خلف ستار، أي رجل يجعل من مهمة الحكومة، تلك المهمة التي تريدها السلطة، أي تنفيذ ما تريده السلطة العميقة، لتكون الدريئة التي تحجب وجهها، وتتلقى الصدمات عنها إلى أن يطاح بها، بحجة الاستجابة لمطالب الجماهير! وهكذا تتشكل حكومة أخرى، تخدّر الوضع إلى أن ينفجر وهكذا دواليك، في حين تبقى السلطة العميقة ممسكةً بمفاصل الحكم الأساسية، ولا تدع لأحدٍ أن يقترب منها، بما في ذلك الحكومة.

من جهة أخرى، لا تمكن قراءة محاولة تعويم مسألة أن الحكومات هي المسؤولة بعيدا عن مسؤولية النظم، بعيدا عن الثورة المضادة، إذ ثمّة عمل وخطط واستراتيجيات تقوم بها بعض النظم الإقليمية والدولية، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة تسويق العملة الرديئة مجدّدا، لمساعدة السلطات الجديدة، وما بقي من القديمة، للإمساك بناصية السلطة مجدّدا، ورمي المسؤولية بعيدا عن كاهلها، بهدف امتصاص الاحتقان الشعبي عبر رحيل الحكومة أو ما شابه، في حين أن جوهر الأمور هو هو، أي أن السلطة العميقة الحاكمة تمسك كل شيء، وتدير النهب والفساد والسرقة، الأمر الذي يقتضي الانتباه جيدا إلى الأمر، وفضح استراتيجية الثورة المضادة هذه، وإبقاء إصبع الاتهام موجها نحو السلطة الحاكمة، وليس نحو الحكومة التي ليست أكثر من واجهةٍ في هذه النظم، بل هي أساسا موظفةٌ عند الحاكم لأجل هذا الهدف دون سواه. وحين يثور الشعب، وتتجدّد الاحتجاجات، يوعز للحكومة بالاستقالة، ليتنفس الشعب الصعداء على أنه حقق شيئا يذكر، في حين لم يتحقق أي شيء أبدا، لأن الأسباب الاقتصادية الاجتماعية لم تزل هي هي، وبالتالي سينفجر الوضع مجددا، وهو ما نراه في تونس التي لم تتوقف الاحتجاجات فيها، على الرغم من تبدل الحكومات مرات، لأن أساس المشكلة يكمن في طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي لم تقدر الثورة التونسية على تغييره، فما جرى في تونس هو ثورة على المستوى السياسي فقط، في حين أن القوى القديمة والممسكة بمفاصل الاقتصاد ما زالت تدافع عن مصالحها، من داخل الثورة نفسها حينا، ومن خارجها حينا، وسيبقى الشارع التونسي محط احتجاجات دائمة، من دون إحداث التغيير الجذري هنا بالذات.

وإذا كان الوضع في تونس هو كذلك، أي إننا إزاء بلدٍ قطع شوطا كبيرا في التغيير السياسي وثقافة الدستور وحقوق الإنسان والحوكمة وشفافية الحكم إلى حد ما، فما هو الأمر في بلدانٍ، كالأردن والسودان والمغرب، حيث السلطة العميقة ما زالت تمسك بكل شيء، وهي تعمل جاهدةً لاستغلال تعب الشعوب، وتراجع وهج الثورات، لعدم إحداث التغيير المطلوب، وهو التغيير الذي دونه لن ينفع رحيل الحكومة وقدوم أخرى.

العربي الجديد

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى