صفحات الثقافةعزيز تبسي

حلاوة الروح/ عزيز تبسي

 

 

يترنح، بعرباته المثقلة باللوز الأخضر، الذي لا يكف الباعة عن رشه، بعصرٍ حازمٍ لإسفنجة مشبعة بالمياه، علّه يفرج عن كمده المخنوق، بإشراقة لاخضرار يذكّر بهذا الفصل السخي، وألوانه المفقودة. يترنح بزهوره البنفسجية التي تتساقط من أعالي أغصان الزنزلخت، بعصافيره التي تتنقل بصمت من مكان لآخر، تتأمل الأمكنة من أعالي المداخن الخامدة، وحواف النوافذ المغلقة، بعدما تخلت عن تغريد مثابر، يفتق قماش الصمت الكتيم.

لا تزال آثار الأحذية التي بللها المطر فوق نشارة الخشب، التي توارث أصحاب المحلات تقاليد نثرها في الشتاء، فوق أرض دكاكينهم، لتخفيف آثار الوحل ومياه الشوارع، ولإشعار المتسوقين بحميمية المكان.

لا يرتدي الشبان الألبسة الصيفية قبل أوانها، مرت عليهم الفصول الأربعة وهم في الألبسة ذاتها… يُعرفون منها، من قُطَب الخيطان الثخينة، التي تحاول إخفاء ما تحتها. من التفاتاتهم المستمرة حول أنفسهم، واتكائهم بكتف مفردة على جدران العمارات، التي تبيح لصق أوراق الدعايات والنعوات، وعروض العمل في ورشات الخياطة وصناعة الأحذية والحقائب. يُعرفون من غيوم لا تكفّ عن التجول في عيونهم، ومن احتجاز كبريائهم لأمطارها.

يتعثرون، كأنهم يسيرون فوق أرض غريبة. وإن عرفوا الطرقات التي تخرجهم من بيوتهم، فإنهم يجهلون الطرقات التي تعيدهم إليها.

لم يعد الشاب الذي خرج في الصباح إلى بيته.

شاب يرتدي بنطال جينز وكنزة سوداء، طوله 175 سنتم، خرج من بيته من أسبوع ولم يعد.

الرجاء ممن يعرف عنه أي معلومات الاتصال بنا على هذا الرقم ( ) وله الأجر والثواب.

يتلفتون حول أنفسهم، يحدقون في وجوه العابرين، كلهم يرتدون بناطيل جينز، وكنزات سوداء، أطوالهم تقارب الطول المدون على الورقة، الملصقة على عمود إنارة الشارع… كلهم خرج من بيته في الصباح، ومنهم لا يعلم بعد، أنه لن يعود إليه.

يتبادلون الكلام بتوريات، أفقدها الزمن قيمتها التعبيرية، عن “عودة المياه إلى مجاريها”، غير مكترثين بأمكنة سيلانها الضال قبل هذه العودة، وعن مشاريع اقتصادية قادمة، تعيد الأحجار إلى جدرانها، والحنطة إلى أهراءاتها. تكافئ الموتى على موتهم المبكر، وتعوّض الأيتام بألواح الشوكولا عن افتقادهم لآبائهم.

كما باتوا يوضعون أمام أسئلة امتحانات مربكة لقبولهم في وظائف “لا تطعم خبزاً”، كالتمييز بين الإنسان الصالح والإنسان الطالح، والتمييز بين الخطط الاستعمارية، التي جرى إدراجها تحت باب المؤامرات، التي تتفرع بدورها إلى مؤامرات غادرة وأخرى أقل غدراً. أسئلة صعبة لوظائف مستحيلة، ليست بسهولة إتقانهم المبكر، التمييز بين البرغل الخشن والبرغل والناعم، للنجاة من سخرية البقالين.

– دخن علها تنجلي!! يتبادلون لفافات التبغ وأنفاسها المحرقة، والكلام الذي فقد لهيب ناره ونوره. خجلون من “الخرجية” التي يأخذونها من آبائهم، من سرعة اهتراء الألبسة والأحذية، من الأيام التي تشبه بعضها.

يمكن إكمال العيش بكلية مفردة، عين مفردة، ساق مفردة، ذراع.. لم يعد أحد يكترث بفائض الأعضاء. خير بيعها لإطعام أولادهم، أو للحفاظ على الأعضاء الأخرى، من أن يفقدوها بانفجار غادر، برصاصة طائشة، أو، غير طائشة.

إذاً… : كلية للبيع، زمرة الدم B+، للراغبين الاتصال على الرقم ( ).

تقف النساء طويلاً، قبل دخولهن الكنيسة، بأثوابهن التي بلون السماء، مشدود وسطها بحبال بيضاء، إيذانًا ببدء الشهر المريمي، يتفقدن النعوات الملصقة إلى جانب بوابتها، التي باتت الورقة الرئيسة من صحيفتهم اليومية، يستفسرن بأصوات عالية عمّن تبقى في البلد، من أهل الموتى وعائلاتهم، ويتحسرن بصوت عال كذلك، عن خلو الجنازات من المشيعين، وعن الناس الذين يأتون الحياة مع ضوء الفجر ويمضون مع الفجر الذي يليه.

بينما يشرح الرجل، الواقف قربهن، لأبنائه عن اقتصاديات “الجزية”، التي كثر الحديث عنها في هذه السنوات، مكثراً من استخدام التشابيه والاستعارات لتوضيحها. وحين يرى الرعب في عيونهم، يستدرك الكلام بكلام آخر، يتعشم فوائدها، بنفس الرطانة التي كان يتحدث بها عن فوائد الثوم، قبل جلوسهم على مائدة الطعام.

يسخر الشبان، العابرون بحيوية رياضية فتية، مما باتوا يسمونه “عواطف إلكترونية”، كنمط من رش سمسم “اللايكات” على خبز اليأس اليابس، وافتعال “الهاشتاغات” مع أحجار المدن ودخان حرائقها، والتضامن مع قوافل “السبي البابلي المعاصر”، منحدرة من مناهل الفرات لبوادٍ لا نهاية لها، وتذكر حسنات القتلى، بعد استعادة صورهم، وأفضالهم على من تبقى حياً، أي، أولئك الواقفون تحت شمس الربيع بلباس الحداد، الذين يتقبلون التعزية، نيابة عن التراب والأعشاب، بمصافحات أيد مختلجة، من خوف ورثوه كتركة ثقيلة، من القرن الأول الميلادي.

كأنهم من ماء. نسي من صنعهم إضافة التراب الى كينونتهم الأولى، كما كانت تنسى أمهاتهم إضافة الملح إلى الطعام. لا أحد يعدهم بكلام مقفى يتدارك هذا الخطأ في التكوين، على عكس ما كانت تفعل الأمهات بوعود لا تحنث، بإضافة الملح لقدور الطبخ القادمة.

لا أنفاسَ تدفئ أطرافهم المنكمشة على بعضها، التي سعت للتنزه في هذا الربيع، ما من قوة تحنو عليها، وتتريث ليوم التخلص منها بانبعاث يتدثر بشفقة الأمنيات.

كأنهم لن يبعثوا كما وعدوا، إذ لم تعد الملائكة تفي بوعودها منذ زمان بعيد. لن يبعثوا، لا لأنهم لم يموتوا ويدفنوا وفق طقوس أجدادهم، بل لأنهم لم يعيشوا.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى