صفحات الناس

حلب بين البراميل المتفجرة وداعش/ عـروة مقـداد

ليتني أستطيع التحكم بالزمن، لكن البرميل أسرع من قدرتي على استيعاب ما يحدث، والكاميرا أبطأ من أن تصوّر الأشلاء الممزقة على كابلات الكهرباء المتدلية من أثر الانفجار الهائل. نتف لحم مشتعلة تتبخر مع الحديد المنصهر على بعضه، تحتها ينفتح ثقب كئيب يغور في الأرض ويبتلع معه الأجساد والذكريات والصور.

تطرف العيون نحو السماء، تحدّق بالكتلة المعدنية التي تنزل كأنها وحي، تتبعها وهي تتنقل من سماء إلى سماء، تتقافز على الغيوم كأن كائناً ما يجلس خلف لوحة ويترك لطخات السواد الهاطلة على الخلفية الزرقاء الملطخة ببعض الغيوم. وينزل الثقب الأسود، تجمد بعض العيون التي لا تستطيع استيعاب المشهد. تجمد أعضاؤها من الركض أو الهرب أو حتى الصراخ، وكأن العدم يرمي معجزة جديدة تتسمّر فيها العيون، يسقط عليها ويحوّلها إلى أشلاء، ذرات مطحونة مع الغبار والركام.

خوف البرميل أقل وطأة من خوف دولة الشام والعراق؛ الكاميرا التي خبأتُها قبل ثلاثة شهور متنكراً بلهجتي الحورانية الثقيلة وشعري الأجعد لأبدو كمهاجر متسلل عبر حواجز الدولة، أُشهرها الآن كما شهرتُها أول دخول الجيش الحر إلى حلب حين كان يحاصر اللواء 80، فرحاً مبتسماً في وجوه المارة الذين يحيونني كما لو أن الثورة بدأت للتوّ. لم يعد التنكر والتسلل ضرورياً، فالكثير من شوارع حلب خالية من كل شيء، حتى من عناصر وأمراء الدولة.

وحدها الاشتباكات تؤنس وحشة المدينة. اشتباكات ضارية تدور على محور الشيخ نجار، تستخدم فيها كل الأسلحة الثقيلة من طيران ومدفعية ودبابات. يحط الليل ثقيلاً على الأحياء المحررة وتبدأ الأصوات القادمة من ذرى البيوت، وكأن شبحاً أسطورياً يتصارع هناك على امتلاك الهواء. يخفّ البارود ويتسرب إلى الرئتين. لا كهرباء ولا وسائل اتصال تخبرك بما يجري. وحده الانتظار المرير الذي يقطعه هدير الطائرة والصواريخ التي تضربها في هدف لا تعرف وجهته.

طريق الباب، مساكن هنانو، الجزماتي. أحياء يئزّ فيها الصمت ودوي انفجار البراميل. أتأمل مشاهد الدمار التي تخلّفها البراميل والطيارات المختلفة التي تحوم. لا شيء منطقياً في كل هذا، ومحطات الأخبار لا تقترب من حقيقة ما يحدث. ربما مساحة المدينة الواسعة تجعل من حجم الدمار أقل مما هو في مدن أصغر منها. وحتى المأساة تضيع في المساحات الواسعة لحلب. ربما هي لعنة المدينة. يضيع فيها كل شيء، المنطق والعواطف والأفكار والعالم الذين يقاتلون بمختلف جنسياتهم، في أحياء المدينة.

رحلت دولة الشام والعراق، كما رحل الكثير من سكان هذه الأحياء بعد مجازر مروعة خلّفها سقوط البراميل. عند المساء تلمح بعض الأشباح التي تتنقل بين الحواري. وجوه تربط (الجمدانات) لتتخفى بها. لكنها لا تشبه أقنعة دولة الشام والعراق. ثمة فرق بين اللثام والجمدانة؛ والجمدانة بالحلبي هي حطة الرأس الملونة بالأحمر والأبيض. الجمدانة تتحول إلى شيء أليف، هوية السوري البسيط من الشمال حتى الجنوب. ومن الجمدانة تراقب العيون، تارة نحو السماء وتارة إلى الحواري الخالية تترصد أي حركة، وتبتسم بودّ للوجوه المألوفة التي مازالت صامدة.

يقول أحد شبان طريق الباب: بعد رحيل سكان الحي. نتنقل في الليل من أجل حماية البيوت من السرقات. لا نريد أن تتكرر السرقات التي حدثت في الفترة الماضية. هذه البيوت سيعود سكانها ذات يوم، ولن نسمح لأحد بسرقتها.

ربما كانت صدفة أنني أرتدي الأسود، أثناء تنقلي بين طريق الباب وكرم الجبل ممتلئاً برائحة الشتاء التي تعبق بأحياء حلب، بنطال جينز، معطف، ووشاح أسود. لا أدري لماذا ارتديت هذا الكمّ من السواد! لعله مزاجي الداخلي الذي يشبه مزاج الكثير من السوريين.

لم أنتبه وأنا أتأمل الأماكن، إلى النظرات التي حدجتني. قلت: هي عادة الناس في النظر إلى الغريب. لم يطل بي الأمر حتى أوقفني أحدهم كما وصف لأنني أشبه الدواعش.  ضحكنا أنا وأبو عمار وهو يصف شكّه في ملامحي. وراح يحدثني عن الاشتباكات التي دارت بين عناصر الجيش الحر ودولة الشام والعراق وكيف تشكّل جيش المجاهدين في ليلة واحدة واستطاع خلالها أن يطرد دولة الشام والعراق من مدينة حلب وكل الريف الشرقي. وأضاف وهو يضحك: كنت على مسافة أقل من مترين عندما فجّر أحد عناصر الدولة نفسه بحزام ناسف، لكنني نجوت.

قبل ثلاثة شهور عبرتُ دوار الحلوانية وخوف شديد يعتريني من حاجز الدولة. وقف شابان في مقتبل عمرهما ملثمان يدققون بالمارة ويتفقدون الهويات. حاولت مراراً تجنبه بوسائل تنكر عديدة. وها أنا الآن أمرّ بالقرب من الدوار من دون وجود الحاجز. بدلاً منه رأيت عبارة  كتبت وسط الدوار: تسقط داعش.

يعلو علم الثورة السورية الكثير من المباني في حلب. لم يعد هنالك وجوه غريبة، أو ملثمة. تستطيع أن تتمعن بالوجوه دون أن تكون فزعاً. تبتسم فيبادلك الكبار والصغار البسمة. تشعل لفافة تبغ فيطمئنوا أنك لست متطرفاً وإن ارتديت السواد. ثمة أُلفة تعود إلى زمن دخول الجيش الحر إلى حلب، حين اجتاح الأحياء الشرقية، حيث كانت المعنويات عالية، والجبهات مشتعلة.

تنهمر البراميل كما ينهمر المطر في حلب. يسقط كل يوم ما لا يقل عن خمسة براميل. يقوم النظام بخطة ممنهجة في رميها. بدأ بقصف الميسر، حيث حاول التوغل من ناحية الحي. سقط على حي الميسر لا يقل عن مئة برميل قضى على إثره مئات الشهداء. بعدها انتقل إلى قصف الجزماتي فالشعار وطريق الباب، والآن يقوم بقصف مساكن هنانو المتصلة بالشيخ نجار حيث يحاول النظام اقتحام حلب من جهتها.

يهدف قصف البراميل وفقاً لكثير من الناشطين إلى تهجير الناس من المناطق المحررة، فالكثير من المقاتلين على الجبهات تتواجد عائلاتهم في هذه الأحياء، وعندما يقوم النظام بقصف هذه المناطق بهذه الوحشية فإن هذه العائلات تقوم بالنزوح أو اللجوء، وهذا ما يمكن أن يوهن عزيمة المقاتلين، فيما يرى البعض أن البراميل المتفجرة ليست سوى انتقام من حلب بعد أن فشل في اقتحامها قبل 4 أشهر عندما استطاع أن يسقط السفيرة ويتوجه بعدها إلى اللواء 80  في محاولة السيطرة على حلب قبل مفاوضات جنيف.

الرقود تحت سقف تتوقع أن يرتطم به برميل متفجر يثير السخرية مع كمية خوف هائلة، ربما هي عشوائيته المتلخصة في قَدَم العنصر الذي يقذفه بكعبه نحو الفراغ الكبير. تعبر المروحية، تنكمش على ذاتك في محاولة لأن تستعرض صورة سريعة للموت والأشلاء التي ستستحيلها، ومن ثم يصل إليك صوت البرميل المكتوم عبر الجدران التي تهتز بشدة.

الزمن في هذه المدينة كثيف، حمل تغيرات كثيرة: دخول دولة الشام والعراق، تصفيتها لعدد من قادة الجيش الحر، محاولة الجيش النظامي اقتحام مدينة حلب، الاشتباكات بين دولة الشام والعراق والجيش الحر، انسحاب دولة الشام والعراق. والثابت الوحيد في كل تلك المتغيرات هو صمود الثوار بمختلف فئاتهم أو تصنيفاتهم. الصمود الذي يعيد الثورة إلى الواجهة بعد أن طغت عليها سمة الحرب الأهلية. صمود لا يمكن أن يستمر طويلاً مع تقدم الجيش حيث أصبح على وشك محاصرة أحياء حلب.

ربما تبقّى طريق واحد يستطيع الناس والجيش الحر الخروج منه وهو طريق الكاستيلو. صمود الثوار غير المرتبط بالأجندات التي تحرك الفصائل المرابطة في حلب، والخلافات، بالإضافة الى الفساد الموجود عند هذه الفصائل يتيح للجيش التقدم وإن كان ببطء.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى