صفحات المستقبل

حلب.. “مالك يا حلوة مالك؟”/ هلا مصطفى

 

 

ولدت وكبرت في حي “السريان القديم” أو “سوريا الصغرى”، كما كان يحب جارنا تسميته.

ما زلت أتخيّل جارنا هذا متكئاً على الباب في دكان الحي، يجترع زجاجة المياه الغازية ويشرح، بمصطلحات سياسية معقدة، تركيبة حيّنا وتنوّع سكانه وتعايشهم مع بعضهم البعض. يبلّ ريقه بالمياه الغازية ويختم خطابه بالإشارة إلى البائع الذي يبتسم ويبدو منشغلاً عنه: “خود متلاً هون العم أبو شيرو. هو كردي بس بيعرف أرمني وسرياني! سأله شلون؟ جدو كان يعلمو. إي والله. الحربوق لهيك بيحبوه وبيجوا يشتروا من عنده”.

أناور وأناور محاولة تجاوز جارنا ومصطلحاته للوصول إلى برّاد المثلجات. أختار قطعتيْ مثلجات بنكهة التوت وأناول البائع خمس ليرات. أجتمع مع أولاد الحي في مدخل بنائنا. أفكر كم ستغضب أمي إن رأتني أتناول هذه المثلجات، تقول إنها ليست بوظة وإنما أصبغة غذائية مضرّة محلولة بمياه مثلجة. ألتفت إلى ديانا وأخرج لساني: “هل صُبغ لساني بلون التوت؟”. تهزّ رأسها إيجاباً فأدرك أنّ أمي ستكشفني وأنّني سأقع في المتاعب.

حيّنا الصغير تخبّئه حلب الكبيرة. حين أفكر به الآن أتخيّل عجائز الحي جالسين على الأرصفة أمام مداخل بيوتهم بهدوء، يراقبون المارة طوال الصيف الجاف، وأتخيّل ملمس الخبز الطري في طابور الفرن المجاور لمدرسة بناها السريان من أبناء الحي في عشرينيات القرن الماضي، وأتخيّل رائحة مساحيق تنظيف قوية في أول شارعنا تنبعث من ورشة تصنيع في أحد الأقبية.

قضيت أعوامي الثمانية عشر الأولى في هذا الحي إلى أن اضطرت عائلتي إلى مغادرة حلب مع بداية الحرب. مرت أربعة أعوام منذ غادرنا. أربعة أعوام، ومازلت كلّما أسندت رأسي إلى وسادتي ليلاً تقفز فجأة إلى ذهني صورة واضحة لأحد شوارع حلب التي كنت أمشيها يومياً. أنتفض وأستيقظ والصورة ثابتة أمام عيني.

سقف “خان الشونة”

زرت قلعة حلب للمرة الأولى مع المدرسة في الصف السابع.

بعد ساعات طويلة من المشي في القلعة الكبيرة ذهبنا إلى “خان الشونة” المقابل لها لتلافي شمس الظهيرة. “الشونة” سوق طويل مسقوف بحجارة ضخمة تتسرّب الشمس من شقوقها. ملأت أنفي على الفور رائحة صابون الغار الحلبي. تأملت شالاً ملوناً ساحراً في أحد الحوانيت الصغيرة وقررت فوراً أنّه متقن الصنع إلى الحد الذي ستثني عليه والدتي. أعلنت المشرفة أن علينا المغادرة عندما بدأت الفتيات العبث بالتحف النحاسية لدى أحد باعة الشرقيات فزعق بهنّ غاضباً.

في العام الثاني للحرب لم يكن باستطاعة أحد الاقتراب من القلعة أو الأحياء المحيطة بها. باتت تلك المنطقة أحد أخطر خطوط الاشتباك في المدينة. كانت الأخبار تقول إنّ أجزاء من السور الخارجي للقلعة قد هُدمت، وإنّ الأسواق والخانات المحيطة بها نهبت بالكامل وأحرقت.

ساحة سعد الله الجابري

بعد امتحانات الصف التاسع، قرّر والداي أنّني أصبحت كبيرة بما يكفي لأذهب مع صديقتي خارج حدود الحي. انطلقنا وأخبرتها أنّ والدي أعطاني النقود لأشتري كتاباً. قررنا أنّنا سنجد كتباً رخيصة إذا ذهبنا إلى “بسطة” ما في ساحة سعد الله الجابري. أدهشتني الساحة يومها! مئات الباعة الجوالين. أطفال يجوبون الساحة على دراجاتهم. تماثيل ضخمة لشخصيات تاريخية هامة لا أعرفها. توجّهنا إلى أحد الباعة، فأشرت إلى كتاب لغابرييل غارسيا ماركيز وقلت لصديقتي: “هذا اسمه مألوف”. التفت البائع عندها وقال: “لا شو بدك بهاد كوليرا وما كوليرا، خدي هاد”، وناولني كتاباً لأغاثا كريستي، فاشتريته محرجة. أما صديقتي التي مضت إلى بائع آخر فقد عادت برواية “العطر” واتفقنا أن تقرأ كل منّا روايتها ثم تحكيها للأخرى.

بعد ستة أعوام كنت أقرأ “خريف البطريرك” لماركيز حين اتصلت بي صديقتي لتذكّرني بذلك اليوم. أخبرتني أنّها لم تعد تحتمل مشاهدة صور ضحايا السيارتين المفخختين في الساحة، وأن عائلتها غادرت المدينة، وأنها في تركيا منذ فترة تحاول جمع المبلغ الكافي لركوب زورق مطاطي إلى اليونان ومنه إلى فرنسا. أردت إخبارها أنّني لم أقرأ رواية “العطر” حتى اليوم، وأنّني وما زلت أنتظر أن تحكيها لي، لكنّني سكتت. أخبرتها أنّني محبطة لا أودّ مغادرة سوريا ولا أودّ العودة إلى حلب ولا البقاء حيث أنا، وأني لا أفعل شيئاً سوى الاختباء في غرفتي والقراءة.

الجسر الصغير على نهر قويق

في آخر أسبوع لي قبل مغادرة حلب خرجت للتجوال مع صديقي مجد. غالبنا الزحام طوال نصف ساعة أمام “سلورة”، أحد محلات البوظة الفاخرة، لنحصل أخيراً على علبتيء مثلجات ونتجه إلى مقعد على أحد جوانب نهر “قويق” الراكد صيفاً. أتحدث مع مجد طويلاً عن تونس ومصر ودرعا وحمص. أقول إنّ حلب تبدو كل يوم خانقةً ومترقبةً أكثر، وإنّي أشعر بأنّه بات عليَّ المغادرة. يقول هو، الفلسطيني الأصل، إنّه لن يغادر أبداً، وإنّه يدرك كفلسطيني أن الخروج يعني أنك لن تعود. أحدّق في وجهه. شيء ما يلحّ عليّ بأن أحفظ ملامحه جيداً.

***

في الأسابيع الماضية كان العالم يتحدّث عن كارثة إنسانية في حلب. أقلب الصور، أتابع “الهاشتاغات”، أشعر بالضيق. كيف ننقذ حلب؟ مَن ينقذها؟

أذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، ألوذ بها لأتحاشى النظر إلى وجه والدي. أهرب من خيبته إلى خيبتي، أتنقل بين ذكرياته وذكرياتي، بين إحباط جيله وعجز جيلي. لا أتجرأ على الاتصال بمجد للاطمئنان عليه، تبدو كلمات المواساة فارغةً من أي معنى.

مرت سنوات وأنا أفكر بمسؤوليتي. ماذا تقدّم أعوامي العشرون لمدينتي الأم؟ أأكتب؟ عن ماذا؟ عن الكر والفر؟ عن عطش حلب وجوعها منذ ثلاث سنوات؟ عمن هرب لينجو؟ عمن بقي ليعيش؟ ولمن أكتب؟

أنقذ ما تبقى من ذكرياتي. أكتب عن حلب التي تسكنني كل ليلة أكثر مع كل صورة في أولى لحظات الوسن.

أغمض عيني لأنام: الأنوار الصفراء في ليل شوارع “الجدَيْدة” الهادئة. شجرة الميلاد في ساحة “العزيزية”. صوت البيانو الذي لا يصمت في شارع المعهد الموسيقي في “السبيل”. أشجار الفستق الحلبي في الأرياف القريبة. ساعة “باب الفَرَج”. حيّنا وعجائزه والمدرسة والفرن. الأولاد في مدخل بنايتنا. أنظر إلى ديانا، أمدّ لها لساني، تؤكد أنّه مصبوغ بلون التوت. متاعب، متاعب.

(دمشق)

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى