صفحات الثقافة

حلب والثورة… ‘ذكريات حلبية’


أحمد العجيلي

من خلف زجاج النافذة في كافتيريا كليّة العمارة بجامعة حلب جلسنا نرتشف قهوتنا، يجمعنا صوت السيدة فيروز ينساب عذباً من آلة التسجيل معلنةً رجوع الشتاء ‘رجعت الشتوية’، نرقب تموّجات الغيوم وهي تلمّ أشلاء بعضها، والسماء قد اغرورقت مآقيها، ترقص قلوبنا وهي تسمع دقات المطر على زجاج النافذة.

-أحبّ حلب، ولكنّي أحبّك أكثر، كانت تنفث دخان سيجارتها، عندما نطقت بهذه الجملة.

شريط الذكريات ما يزال مستمراً في استرجاع تلك الحلقات المتسلسلة من الأوجاع والحنين، بينما أراقب شاشة التلفاز بألمٍ يعتصرُ قلبي وأنا أتابع مشاهد الدّمار التي حلّت بحلب، وأنصت السمع لتعليق الصحفي في تقريره عن حلب، وأسواقها القديمة التي تحترق وتحرق قلوب جميع السوريين معها، وقلعتها الراسخة رسوخ التاريخ في أذهاننا.

كانت الأفكار تتطاير في مخيلتي، وتختلط بشريط الذكريات، وما يحمله هذا الشريط من أحلامٍ وطموحات عشتها أيام الدراسة في جامعة حلب العريقة، بكلّ ما كانت تحمله تلك الأيام من همومٍ وأوجاع، من انكساراتٍ ونجاحات، كانت حلب تختصر تلك الذكريات بمجرد سماع اسمها، أو سماع أيّ شخصٍ يتكلم بلهجته الحلبية الثقيلة.

حلب اليوم وبعد صراع داخلي مرير عاشه أهلها، تدخل وسط ميدان الثورة وتحتلّ مكانتها المتوقعة بين أترابها من المدن السورية، فأهل حلب منذ بداية الثورة وهم يتعاملون مع الأمر بريبة وتخوّف من هذا النظام المجرم، ليس جبناً متأصلاً فيهم، بقدر ما هو خبرة في التعاطي مع النظام، وهو الذي فعل ما لم يفعله هولاكو أو جنكيز خان في زمانهما. فمَنْ من كهول حلب وشيوخها لا يذكر مجزرة المشارقة، والإعدامات التي أزهقت أرواح الكثيرين من كبار مثقفي ومناضلي حلب.

من تلك الصورة التي ارتسمت في مخيلة أهل حلب عن هذا النظام، ومن خشية أهلها على مدينتهم من وحشية الآلة المدمّرة التي تدمّر الحجر قبل البشر، كان وما يزال أهل حلب يخشون همجية نظامٍ أرعنٍ خبروه لسنوات.

تجولنا كثيراً بين أسواقها، في كلّ خطوة كنت أشعر بعبق التاريخ يملأ صدري، أشمّ عطر الجواري في قصور بني حمدان، وأشعر بنفحاتٍ إيمانيةٍ في جامعها الكبير تعود بي إلى أعماق التاريخ، وقفنا نتأمل عظمة الأسطورة الشعرية العربية على عتبة بيتٍ سكنه ‘أبو الطيب المتنبي’، كنا نسرق قبلاتنا على أدراج القلعة، وكثيراً ما كنّا نتقمص شخوص الأمراء والأميرات داخل قاعة العرش. الآن يتساءل الجميع: لماذا هذا الانقسام في موقف أهل حلب إزاء الثورة؟!.

إلا أنه انقسامٌ ليس بجديدٍ، ولا بمستغربٍ عمن عاش في حلب، وتعرّف طبيعة أهلها. فالنظام جعل منها أنموذجاً لسورية المغتصبة على يديه. فقد ذابت الطبقة الوسطى في المدينة إلى حدًّ كبير وكادت أن تتلاشى شأنها في ذلك شأن معظم المدن السورية، إذ إنّ نظام البعث دأب على قلب الطاولة على العائلات التي كانت تحكم وتدير شؤون البلاد، وتتمتع بطاقات سياسية واقتصادية وثقافية عالية، وأتى بمجموعات تأتمر بأمره لا يجمعها سوى الطمع والانتهازية، متسترين بغطاء حماية الفلاح والعامل وصغار الكسبة في مواجهة البرجوازية والإقطاعية التي كانت سائدة حينئذٍ.

فعملت الثورة على تمزيق ما بقي من هذا الغطاء، وكشفت عريّهم، وأظهرتهم على حقيقتهم التي لم تكن خافية على أحد، فلم يتضرر من البعث ونظامه أحدٌ بقدر ما تضرر العامل والفلاح، إذ إنهم كانوا وقوداً لثورته المزعومة عند توليّه سدّة الحكم، وها هو اليوم يستعملهم مرّة أخرى وقوداً للقضاء على ثورة الكرامة والحرية. والمتابع للوضع الميداني في مدينة حلب يستطيع تلمّس صحة هذا القول من خلال اعتماد النظام على شبيحة من أهل حلب نفسها.

أمّا من يقاوم ويحارب ضمن صفوف الجيش الحر، فهم أولئك البسطاء الذين كنا نراهم يفترشون الحدائق في أيام العطل، أملاً بالترويح عن أنفسهم بعد عناء طيلة أيام الأسبوع للوصول إلى لقمة العيش، التي تضمن لهم ولأولادهم حياةً تكفيهم شرّ السؤال، وطلب يد العون من أصحاب السيارات الفارهة والقصور الفخمة. أمّا عن أوابدها التاريخية وقلعتها، وأسواقها العريقة، فمن كان يبنيها دوماً بعد كلّ حربٍ هم أهلها، ومن سيبنيها اليوم هم أهلها، سيبنونها بالحب، والعدالة، والحرية.

حلب ستبقى والأسد سيفنى

‘ كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى