صبحي حديديصفحات مميزة

حلقة الأسد الأمنية: حتمية التفكك، بعد اختبار النار


صبحي حديدي

 يواصل أناس من أمثال العميد ماهر الأسد (شقيق بشار الأسد، والقائد الفعلي للحرس الجمهوري)، والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة)، والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251 والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)، واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته)، إدارة الحلّ الأمني في شتى أساليبه وتنويعاته وأسلحته. ومنذ أواسط آذار (مارس) الماضي وحتى الساعة، أنجزت قراراتهم الميدانية الحصيلة التالية، إذا اكتفى المرء بالأرقام وحدها: 1,647 من الشهداء، بينهم أطفال ونساء وشيوخ؛ 2,918 من المفقودين، الذين لا يُعرف لهم مكان اعتقال، أو مصير؛ 26,000من الذين اعتُقلوا، مرّة أو أكثر، وتعرّضوا لصنوف وحشية من التعذيب؛ 12,617، من الذين ما يزالون قيد الإعتقال، وأماكن توقيفهم معروفة أو مرجّحة.

من جانبه يواصل بشار الأسد، خامس أعضاء هذه الحلقة الأضيق (وهو أوّلهم بالطبع، لأنه رأس النظام ورئيس الحلّ الأمني) ألعاب ذرّ الرماد في العيون، حول مشاريع”الإصلاح” تارة، وتصنيف “فئات” التآمر طوراً؛ ليس دون الإيحاء، عبر بعض نافخي الأبواق من حوله، بأنه ـ على نقيض من الأربعة الكواسر، أو في مواجهتهم أحياناً! ـ هو المبشّر بالحلّ السلمي والسياسي. بعض حصيلة ألعابه يمكن أن تختصرها القرارات القاضية بإحداث اللجان التالية، ونقتبس بالحرف عن موقع”التشاركية” الحكومي التابع لرئاسة مجلس الوزراء: القرار رقم 8507، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها تقديم المقترحات اللازمة لمكافحة التهريب ومنعه؛ القرار رقم 7885، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها إعداد وصياغة مشروع جديد للأحزاب؛ القرار رقم 7272، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها دراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي واقتراح الحلول الممكنة؛ القرار رقم 7271، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها صياغة قانون جديد للإعلام ووضع الآليات اللازمة لإعادة هيكلة منظومة الإعلام الوطني؛ القرار رقم 6080، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها تحديد وتوصيف جرائم الفساد وإقتراح الضوابط اللازمة للوقاية منه وآليات مكافحته…

ويحدث، غالباً وبحكم المنطق العملياتي الصرف، أن تنتقل مداولات الحلقة الأمنية الأضيق إلى النطاق الخارجي، وإلى ما يشبه العلانية في الواقع، وفقاً لثلاث أواليات: حين يتوجّب إبلاغها، كتوجيهات وأوامر ومهامّ عمل، إلى الحلقات التنفيذية الأدنى؛ أو حين يجري تسريبها، عن سابق عمد وتصميم، لكي تضرب مثلاً أو تلقّن درساً أو تُنذر وتردع؛ وثالثاً، لأنّ لكلّ من أعضاء الحلقة الأضيق شبكات ولاء أدنى يتوجّب وضعها في صورة القرار، وهذه بدورها تنتقل إلى الأدنى، فالأدنى. وعلى سبيل المثال، إذا كان وفاء العميد مخلوف، لسيّده وابن عمّته بشار الأسد، مطلقاً، في الآونة الراهنة على الأقلّ؛ فإنّ وفاءه لشقيقه، رجل الأعمال رامي مخلوف، هو مطلق المطلق، ولا بدّ من إحاطته علماً بتوجهات النظام. وفي الإستطراد، سوف يجد الأخير مصلحة دائمة، وأحياناً مجزية تماماً، في تمرير بعض المعلومات إلى شركائه من كبار رجال الأعمال السوريين، وربما العرب والأجانب، فلا تنتقل التوجهات مباشرة من الحلقة العليا الأضيق، بل عبر وسيط ثالث، وهكذا دواليك…

هنا، في أكثر من مضمار واحد مماثل، يقع التداخل بين الأمني ـ العسكري، والاقتصادي ـ السياسي؛ فتُكلّف بثينة شعبان، على سبيل المثال أيضاً، بمهامّ ترجمة بعض تلك التوجهات إلى أشكال مرنة من “التواصل” و”الانفتاح”و”الحوار” مع أشخاص معارضين (لأنهم هكذا، بالفعل، سبق لهم أن اعتُقلوا لأنهم عارضوا سياسات النظام، أو نشطوا ضدّها، على نحو أو آخر)، بهدف تشجيعهم على اتخاذ مبادرات تكمل ألعاب ذرّ الرماد في العيون. وإذا كان هؤلاء على اتفاق، في كثير أو قليل، حول تقييم طبيعة النظام، وبالتالي حول ضرورة الإنتقال إلى نظام آخر تعددي وديمقراطي؛ فإنّ التباين بينهم يقع في منطقة أخرى هي ميدان اشتغال شعبان وسواها: الفارق بين ارتفاع خطاب التظاهرة، وارتقاء مطالب الإنتفاضة، بما في ذلك ثبات شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ وبين مداولات مؤتمر سميرامس ـ1، ومشروع سميراميس ـ 2 قيد التحضير، على سبيل المثال، هنا أيضاً.

 ذلك لا يحول دون وقوع تناقض، أو افتقار إلى درجة كافية من التطابق، بين ما تقرّره، وتوجّه به، الحلقة العليا الأضيق؛ وما تسفر عنه التطبيقات على الأرض، أمنية كانت أم سياسية، وسواء اتخذت صفة إجراءات محلية في هذه المحافظة أو تلك (كما حين يسارع الأسد إلى عزل المحافظين الذين تشهد محافظاتهم اتساعاً عارماً للتظاهر)، أم صفة مركزية تشمل البلد (مؤتمر الحوار الوطني، في أحدث الأمثلة). هنا قد يتلقى فاروق الشرع، نائب الرئيس والمكلّف بما يُسمّى “الحوار الوطني”، إشارة توبيخ علنية، ولكن ساخنة وخشنة (مثل التصريح بأنّ المؤتمر الذي ترأسه كان “كارثة وطنية”)، تأتيه من قيادة الإتحاد الوطني لطلبة سورية، “المنظمة الشعبية” التي تسيّرها الاجهزة الأمنية. وهذه، من جانبها، لا تكون قد تلقّت التوجيه المباشر من شاليش أو حافظ مخلوف أو مملوك، بل تولى الإبلاغ وسطاء أقلّ شأناً، من أمثال اللواء عبد الفتاح قدسية أو العميد مناف طلاس أو اللواء زهير حمد.

 وكما فشلت الحلول الأمنية في كسر إرادة التظاهر، بل أسهمت في تجذير الحراك الشعبي وفي توحيد قواه وتطوير أدواته وأنساقه؛ كذلك فشلت ألعاب المخادعة السياسية في اختراق المشهد الوطني المعارض، بما يكفي لمنح فريق بثينة شعبان شهادة تفوّق من أي نوع.لقد حدث العكس، على الجبهتين، وبدا أنّ عوامل الفشل الذريع ليست مؤشرات مقترنة بواقعة واحدة، أو بساحة محددة دون سواها، بل هو عجز مريع عن تطوير أداء أمني تقليدي، لا يركن إلا على سطوة الرصاص الحيّ وحصار الدبابة وقصف الحوّامة؛ وأداء سياسي لا يتكيء إلا على استثارة الخواف الطائفي، أو استمالة التردد، أو تفريغ شحنات الإحتقان، أو استيهام مبدأ “فخّار يكسّر بعضه”.

 في عبارة أخرى، لا تتكامل الجبهتان في خدمة ما تخطط له الحلقة العليا الأضيق، بل تزيد في مأزق النظام حين تبدّد قبضة أمنية يسرى، ما خالت قبضة سياسية يمنى أنها انتزعته من صفّ الإنتفاضة؛ أو تنقلب لعبة سياسية هنا، على اللاعب الأمني هناك، فلا يكتفي الشارع الشعبي بمرأى افتضاح كلا اللاعبَيْن، فحسب؛ بل يكتسب طرازاً إضافياً من الحصانة ضدّ ألعاب مماثلة آتية، ومهارات جديدة في الفضح المضادّ، فتتعمّق أكثر من ذي قبل ثقافة المقاومة، وتنبسط السياسة أعرض فأعرض في السلوك اليومي. مشاهد ساحة العاصي في مدينة حماة، ومشاهد دوّار المدلجي في دير الزور، فضلاً عن تظاهرات اللاذقية خلال جمعة “أحفاد خالد بن الوليد” الماضية، وبؤس مخططات إشعال الفتنة الطائفية في حمص، والاضطرار إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع في القامشلي، والوضع الغامض الذي يكتنف الكلية الحربية في حمص، ومثول عدد من الفنانات والفنانين أمام القضاء، ومجزرة كناكر… كلّ هذه، وسواها كثير، تفاصيل بالغة الدلالة في ترسيم ذلك الفشل الذريع، الأمني ـ السياسي المزدوج.

 وفي كتابه “وراثة سورية: بشار أمام اختبار النار”، الذي صدر سنة 2005، كان الأمريكي فلنت ليفريت قد استعار تعبير “اختبار النار” Trial by Fire لتصوير ما يخضع له الأسد بعد وراثة أبيه، مذكّراً بذلك الطقس اللاهوتي والأنثروبولوجي الأوروبي الذي شاع خلال القرون الوسطى، وقضى بوضع المتهم أمام اختبار فريد لإثبات براءته: أن يحمل باليدين قضيباً من الفولاذ مُحمّى حتى الإحمرار، وأن يسير به تسع خطوات، فيخرج سليماً من الحروق، أو مصاباً بحروق طفيفة قابلة للعلاج والشفاء السريع. وفي تعليقه الأوّل على الإنتفاضة السورية، ورغم تعاطفه الصريح مع النظام السوري، بدا ايفريت وكأنه يعيد قضيب الفولاذ الناريّ إلى يدَيْ الأسد، في جانب واحد على الأقلّ من معركته ضدّ الشعب: أكذوبة القدرة على الإصلاح.

 ويذكّر ليفريت بثلاثة منظورات يرى أنها تحكم الرؤية الأمريكية للنظام السوري: الأوّل يرى أنّ الأسد إصلاحيّ النوايا، لأنه “درس في الغرب، وهو عليم بالإنترنيت، وزعيم من جيل شاب يقرّ بمشكلات سورية العديدة، ويريد تحسين الامور، ويريد علاقة أفضل مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، ولكنه مقيّد بالحرس القديم”. الثاني يعتبر الأسد”قوّة استمرارية للنظام، وليس للتغيير”، وهو “نتاج النظام الذي خلقه أبوه”، ولهذا فهو “جزء من المشكلة في سورية، وليس أبداً جزءاً من الحلّ”. وأمّا المنظور الثالث فهو أنّ الأسد “جديد على الصنعة”، و”قليل الخبرة، رديء التأهيل، غير ذي اطلاع، الخ…” على نحو لا يجعله صالحاً لتنفيذ”مسؤولياته كزعيم وطني”.

 ليفريت يبدو أقرب إلى المنظور الأوّل، وإنْ كان لا ينفض يديه تماماً من المنظورين الثاني والثالث: “في الواقع أظن أن صورة بشار ينبغي أن تكون أكثر تمايزاً وتمازجاً.وبشار في يقيني عنده حوافز إصلاحية. وهو يقرّ بأنّ سورية تعاني من مشكلات كثيرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويري أن الأمور ينبغي أن تكون افضل. ولكني أجادل بأنّ حوافزه الإصلاحية هزيلة واهنة. ليست لديه رؤيا شاملة كاملة عن تحويل سورية”. هنا تقفز حكاية “الحرس القديم”، ويروي المؤلف إنه حين أجرى مع الأسد حواراً خاصاً بالكتاب، اعتزم عدم الخوض في هذه المسألة، لولا أنّ الأسد باغته حين فتح هو نفسه هذا الملفّ. وقبل أن ينتهي ربع الساعة الأوّل من اللقاء، قال أشياء كثيرة، بينها أنّ الحرس القديم ليس “اثنين أو ثلاثة أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أعلى النظام”، بل هم “حرفياً آلاف البيروقراطيين العاديين والمتحجرين على امتداد النظام، والذين تخندقوا في مواقعهم على مرّ السنين والعقود وليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أيّ شيء على نحو مختلف”!

 والحال أنّ محفل الخمسة يخلو تماماً من أيّ ممثّل للحرس القديم كما عرّف الأسد مفهومه، بل هو “الحرس الفتي” وحده الذي يحكم ويصول ويجول (اللواء علي مملوك، ورغم اقترابه من السبعين، في عداد الفتية أيضاً، لأنه أيام الأسد الأب كان ضابطاً مغموراً في مخابرات القوى الجوية، بلا صلاحيات ولا سجايا). وإذا كان أيّ من مدنيي النظام البارزين، بما في ذلك أمثال رامي مخلوف وطريف الأخرس وفاروق الشرع وبثينة شعبان واللواء المتقاعد محمد ناصيف، ليس عضواً في محفل الخمسة، فإنّ أياً من هؤلاء لا ينتمي إلى الحرس القديم أيضاً (رغم سنّ الشرع وشعبان وناصيف). ولم تكن مصادفة أنّ سمير سعيفان، الخبير الاقتصادي والقيادي السابق في الحزب الشيوعي السوري (جناح بكداش) وأحد أعضاء “الحرس الفتي الإستشاري” الذي صعد ضمن مناخات التوريث، كان أبرز المدافعين عن حوافز الأسد الإصلاحية، في… مؤتمر سميراميس!

 ولحلقات الحكم الضيقة مصائرها الحتمية، كما يعلّم التاريخ، ليس بين قطبَيْ التفكك بسبب الإنغلاق، أو الإنفجار جرّاء الضغط الهائل على عصبة منعزلة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ اختبار النار لم يعد بوّابة التبرئة، بل فاتحة الإدانة، قبيل السقوط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى