صفحات الرأيناصر الرباط

حلم استعادة الماضي: لعنة الحاضر العربي/ ناصر الرباط

 

«لنجعل أميركا عظيمة ثانية»، شعار استخدمه دونالد ترامب بنجاح في حملته الانتخابية السوريالية التي انتهت بدخوله البيت الأبيض على عكس كل التوقعات. لاحظ العديد من المعلقين جاذبية هذا الشعار الملغز بين مؤيدي ترامب، الذين ينتمون بغالبيتهم للطبقة الوسطى البيضاء التي تحس بالخطر من صعود الأقليات في التراتبية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأميركية. وعزا البعض جاذبية الشعار إلى الإحباط الذي تعانيه هذه الشريحة الواسعة من الأميركيين خلال السنوات العشرين الأخيرة من الرزوح تحت نير العولمة المالية الكاسحة. في حين رأى البعض الآخر فيه دغدغة لمشاعر التميز والتفوق والسيادة المضمرة في دعوة استعادة الماضي، أي أنهم رأوا فيه نموذجاً مجدداً من شعارات الفاشية التي انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات، والتي استخدمت الحنين إلى ماضٍ متخيلٍ لدرء وطأة حاضرٍ مزرٍ ولتمرير سياسات عنصرية وقمعية أوصلت البشرية إلى حافة الدمار الكامل في الحرب العالمية الثانية.

شعار ترامب، إذا أخذنا في الاعتبار تصرفات الإدارة الأميركية الجديدة الرعناء وآراء لاعبيها المهمين الملتوية، مقصود وواعٍ لما يستبطنه من إحالات تاريخية تعود بجذورها ليس فقط لفاشية القرن العشرين وإنما إلى كل دعوات النقاء المجتمعي واستعادة العظمة الوطنية أو العرقية أو المذهبية التي أشهرتها حركات دينية طهورية أو قومية متعصبة على مدى التاريخ الأميركي والأوروبي الحديث، منذ حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. وهو في هذا لا يختلف كثيراً في فحواه وفي نسبه عن الشعارات التي ما فتئت تُرفع أو تُخطب أو يُتبجح بها على طول العالم العربي وعرضه منذ بدايات الصدام مع الثقافة الغربية في القرن الثامن عشر إلى اليوم. بل لعل فهم هذه الشعارات والحركات الدينية والسياسية التي ترفعها ومدى تأثيرها في الواقع العربي المعاصر والقريب مرتبط إلى حد كبير بفهم التيارات الفكرية التي استُقيت منها أو التحديات الاستعمارية التي استجابت لها، وفي كلتا الحالتين أصولهما غربية، وإن كان الإخراج والتنفيذ والعطالة التاريخية محلية ومتجذرة في الثقافة العربية-الإسلامية وصراعاتها التاريخية القديمة.

لا يخفى على المراقب أن أول ظهور حديث لحركات دينية أصولية إسلامية في جزيرة العرب وفي شمال أفريقيا مرتبط في شكل مباشر ببدء التغلغل الاستعماري الأوروبي في كلتا المنطقتين. فقد استجاب عرب الصحراء في مناطقهم النائية عن عواصم الدولة العثمانية التي لم تفعل الكثير لوقف الزحف الأوروبي الاستعماري لهذا التحدي. كان ذلك من طريق العودة إلى الأصول وتأسيس حركات دينية وصوفية تستعيد ماضياً تاريخياً منزهاً عن درن الحاضر، كأفضل إطارٍ متاح لمقاومة هذا التغلغل الجبار الذي هلت بداياته في الجزائر عام ١٨٣٠ مع الاحتلال الفرنسي، وعلى ساحل الخليج قبل ذلك التاريخ، وإن شهدت الفترة نفسها (ثلاثينات القرن التاسع عشر) تكريس التغلغل الإنكليزي من طريق المعاهدات التي فرضت على مشايخ القبائل العربية على طول الخليج وعرضه.

العروبة كحركة سياسية وكإطار هوياتي ظهرت أيضاً إثر التمدد المستمر للثأثير الفكري الأوروبي في السلطنة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، مما أجج في مختلف المناطق المحكومة حركات قومية تناهض التعصب الطوراني الذي ظهر هو أيضاً في مركز السلطنة وتحت الثأثير الفكري ذاته. لكن عروبة النهضة هذه كانت، على تعصبها العرقي، حركة تقدمية، تأثرت بنظريات التطور ونظرت للماضي بعين وللمستقبل بالعين الأخرى. وهي في تبلورها أرادت الاستفادة من تجارب الماضي لاجتراح مستقبل وطني تحرري ما لبث التدخل الأوروبي الاستعماري المباشر، أولاً في مصر وتالياً في ولايات السلطنة الشامية والعراقية، أن أوقف زخمه، أو على الأقل حد من حرية نشاطه السياسي وجعله قاصراً على الشؤون الفكرية والثقافية.

عودة العروبة للظهور كحركة سياسية بعد استقلال البلدان العربية كانت متأثرة في شكل مباشر بالحركات الفاشية الأوروبية التي نهل من فكرها مؤسسو الحزب العروبي الأشهر، حزب البعث العربي، إبان دراستهم في أوروبا كما نهل منه غيرهم من مؤسسي الأحزاب الأصولية الأخرى التي ظهرت في الفترة نفسها كحزب مصر الفتاة والحزب السوري القومي الاجتماعي. عروبة حزب البعث هذه، وإن ادعت التقدمية، كانت ترزح تحت نير أصولية طهورية متعصبة نفت الآخر غير العربي المشارك في الوطن وصنعت لنفسها تاريخاً عربياً متعالياً ومنزهاً ومتخيلاً بالمحصلة.

ليس مستغرباً إذاً أن تكون الحركات السياسية الإسلامية التي انسلت من تحت عباءة إخوان حسن البنا المسلمين، بعد هزيمة العروبة الأصولية كعقيدة وكإطار عمل سياسي، على يد إسرائيل عام ١٩٦٧، أصولية هي أيضاً. فعقيدتها أساساً طهورية، ترنو إلى عصر ذهبي متخيل ومنتقى تروم استعادته كاملاً وبالقوة بكل تفاصيله بعد مرور أربعة عشر قرناً على انقضائه، نافضة عنه ما علق به مما لا يوافق هواها من تاريخ إسلامي متطاول يمتد بين هذا الماضي الذهبي واللحظة الحالية. وتراثها الفكري كله، ذلك الذي تعيه وتستحضره من تركة الفكر الإسلامي المحافظ وذلك الذي تستبطنه من التراث الفكري الطهوري المسيحي والسياسي الفاشي أو الشيوعي الغربي، أصولي أيضاً وبامتياز. هذه الخلطة الغريبة فعالة في شكل كبير في استقطاب الأفراد والجماعات المرهقة من سنوات الضياع القومي والاجتماعي والقهر الاقتصادي والثقافي العنصري في بلاد العرب وفي الغرب أيضاً. ولكنها مع كل عنفوانها وعنفها قاصرة عن تخيل المستقبل أو التخطيط له من ضمن معطيات الحاضر. مستقبلها هو ماضيها المتخيل وهو صعب المنال. فلا الشروط التاريخية ولا الظروف الي أنتجت الإسلام المؤسس متوافرة لاستعادته. ولا الحقائق الجيوسياسية، ولا التقدم العلمي والمعرفي والتكنولوجي الذي تخلف عنه العرب والمسلمون منذ قرون، ولا ميزان القوى العالمي يسمح بهذه الاستعادة العنيفة التي لا صلة لها بالواقع ولا تعرف من السياسة والديبلوماسية والحنكة شيئاً.

يبدو حلم استعادة الماضي هذا الذي عاشه العالم العربي بشقيه المتعلمن والديني لقرن من الزمن لعنة أكثر منه قدراً إلهياً أو مخططاً ممكناً. وهو، بتجاهله تناقضاته التاريخية والمعرفية الإسلامية وجهله بأصوله الفكرية الغربية الحديثة (كما غالبية الرؤى والأفكار في العالم حتى تلك منها التي تروم التحرر من الغرب كما بين فرانس فانون، منظر التحرر في أفريقيا، قبل خمسين عاماً) سيبقى يدور في حلقة مضنية من السعي لتحقيق هدف غير قابل للتحقيق لمخالفته أبسط القواعد التاريخية ويدمر نفسه ومحيطه بالمعية وهو يحاول.

* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى