صفحات سورية

حلم التغيير استحال كابوساً: الاحتجاز الدموي لـ «الربيع العربي» في سوريا/ سمير الزبن

 

 

كان الربيع العربي في بدايتيه، التونسية والمصرية، واعداً بتغير سلس. وأظهر أن المنطقة تنتمي إلى زمن العالم بالمطالبة المشروعة بالحرية والديموقراطية. وكانت الإطاحة السهلة بكل من رأسي النظامين في تونس ومصر – إضافة إلى العوامل الموضوعية الكثيرة التي تستدعي أكثر من ثورة في البلدان العربية – أصابت بالعدوى بلداناً أخرى في انطلاق ثوراتها، وبدأت المنطقة كأنها تعيش حالة انهيار أحجار الدومينو، وأن عجلة التغيير ستنتقل إلى الكثير من الدول، بما يتجاوز الدول العربية إلى الدول المحيطة.

جاء التعثر الأولي من ليبيا، والتعثر المزمن من سوريا، ما غيّر الصورة الواعدة والوردية للتغيير، وظهرت كلفته أكبر من تقديرات أكثر المتشائمين سوداوية.

تم احتجاز «الربيع العربي» في سوريا، وفيها يتم تحويل حلم التغيير إلى كابوس دموي، ويحول مطالب التغيير إلى وصفة لتدمير البلدان، وتحول النموذج الواعد في التغيير إلى حالة محبطة، تجعل من الزمن السابق على تحركات التغيير يبدو وكأنه زمن وردي. بهذا المعنى، سوريا تعطي الدرس البليغ، أن مطالب التغيير لم تجلب إلى المنطقة سوى المزيد من الخراب والتفكك. وصل هذا الدرس القاسي حتى إلى مؤيدي الثورات، وأصبحت سوريا المثل الذي يضرب على تحول حلم التغيير إلى كابوس مدمر، ولا يتوقف عن التدمير.

عندما انطلقت الحناجر في سوق الحميدية، في منتصف شهر آذار من العام 2011، مطالبة بالحرية في وسط دمشق، كانت صرخات مجموعة الشبان الصغيرة رمزاً لفك عقدة الخرس السورية، بعد أكثر من أربعة عقود على حكم عائلة الأسد. قبل نهاية الشهر ذاته، كانت صرخات أهالي درعا المحتجين على اعتقال أطفالهم، التعبير العملي على عدم القبول بمنطق الإخراس ذاته، ولم يعد الصمت ممكنا في «مملكة الصمت»، حسب التوصيف المكثف لرياض الترك للحالة السورية. ومن اللافت أن النظام السوري، وبحساسيته الأمنية المفرطة، واستجابة لـ»الربيع العربي» استعد باستراتيجية أمنية دموية لمواجهة المطالبات المتوقعة من السوريين ـ تم تسريب هذه الاستراتيجية في حينها، ونفت أوساط النظام وجودها. لكن واقعياً، تم تنفيذ كل بنود هذه الاستراتيجية الأمنية بحذافيرهاـ، كنت شاهدا على التعزيزات الأمنية المرسلة لمواجهة التظاهرة الصغيرة، التي انطلقت في منتصف آذار عام 2011، امتد صف الميكرو باصات الممتلئة بعناصر الأمن، من أمام باب الجابية، وصولا إلى ما بعد القصر العدلي في شارع النصر، لمن يعرف دمشق. عشرات الميكرو باصات نزل منها مئات رجال الأمن، هذا عدا الراجلين أصلاً، والآتين لمواجهة عشرات الشبان الذين قرروا كسر جدار الصمت. تعامل النظام معهم بوصفهم تهديداً جدياً لأسسه. لكن التهديد الجدي جاء من سياسات النظام القمعية الوحشية والحمقاء. نظام سياسي متكلس (محكوم من رجل ميت) على رأسه شخص مشكوك بقواه العقلية، ورث كرسي رأس النظام من مصمم النظام، الذي بناه على مقاسه بوصفه إلهاً أرضياً، وكان المنصب أوسع من امكانيات الوارث بكثير، لكن كل الصلاحيات الشاملة والمطلقة التي صممها الأسد الأب لنفسه من أجل تحويل سوريا «مملكة الصمت»، ورثها الابن عن الأب كاملة. صمم الأسد الأب الآلية الرئيسية لحماية النظام في سوريا، بوصفها آلة قتل من نموذج استعماري غريب عن البلد نفسه، وقد تم تجريبها (الناجح) في الاخضاع الدموي لمدينة حماة في مطلع العام 1982، إذ تم تغيير معالم المدينة عبر سياسة الأرض المحروقة، وتجاوز التدمير المنظم الحاجة العسكرية للسيطرة على المدينة، ليكون درساً دموياً لكل البلد. ويبدو أن تلك السياسة في حماة العام 1982 كان «بروفة» أولية لقدرة النظام على صناعة المجازر الدموية منذ السنة الأولى والمستمرة إلى اليوم، ولا أحد يعرف نهاية لها.

لم يكن هناك أي استراتيجية سياسية لمواجهة مطالب السوريين «المحقة» حسب رأس النظام، و»لكن» وهذه الـ»لكن» تَجبُّ كل شيء محق، بوصفه يغطي على «مؤامرة كونية« تستهدف سوريا وصمودها؟! والمؤامرات لا يمكن التصدي لها إلا باستراتيجية أمنية. فلم يكن من رأس النظام سوى تشغيل آلة القتل، التي صممها الأسد الأب لتحصد حتى اليوم حياة السوريين.

لم يكن بقاء النظام السوري ممكناً، لولا تضامن عاملين رئيسيين اضافة لسياسة النظام الاحتلالية المتمثلة بسياسة الأرض المحروقة الدموية، واخرجت أردأ ما في النظام ودفعت إلى الواجهة الشخصيات الأكثر دموية وطائفية.

العامل الأول، هو الحماية الدولية الصلبة التي توفرت للنظام على المستوى الدولي والاقليمي. فقد وقفت روسيا والصين في مجلس الأمن ضد أي قرارات تمس النظام السوري من قريب أو من بعيد. وحافظت روسيا على تدفق السلاح للنظام. وإقليمياً كان الدعم الإيراني غير محدود، ليس على المستوى المالي فحسب، بل حتى على المستوى القوى البشرية أيضا، فعندما ظهرت على النظام علامات انهيار، زجت ايران بميلشيات لبنانية وعراقية تأتمر بأمرتها، خاضت المعارك عن النظام، وحمته في الكثير من المواقع، في حمص والغوطة الشرقية والقلمون وغيرها…

العامل الثاني، هو الضعف والهزال في دعم «أصدقاء سوريا» لقوى التغيير على المستويين الدولي والاقليمي. لم يكن هناك إرادة دولية، خصوصاً من قبل الولايات المتحدة للإطاحة بالنظام، بتبرير عدم معرفة طبيعة «البديل» وكان من الواضح أيضاً، أن الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية، ليست جادة في دعمها من أجل اسقاط النظام، بقدر ما تدعمها لتشكل أدوات تأثير لها في سوريا، لدرجة ان الأيدي الاستخبارية التي تعبث في الوضع السوري أكثر من أن تحصى، خصوصاً أن هذا التأثير بات كبيراً وفاعلاً، في ظل تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية في سوريا، وفي ظل معارضة هشة وضعيفة أصلاً، وجودها الداخلي يكاد يكون معدوماً.

يبدو أن هذه القوى الاقليمية والدولية ترغب في اعتماد سوريا موقعاً لامتصاص الخلافات والصراعات في المنطقة والانتقال من «الصراع على سوريا» إلى «الصراع في سوريا»، سواء بين أعضاء الحلف الواحد أو بين المتصارعين في الاقليم، الذين لم يرغبوا في نجاح الثورة السورية، لأن نجاحها، يجعلها نموذجاً جاذباً للتغيير، بينما هي أصبحت اليوم مثالاً لعواقب التغيير الكارثية. وبذلك ترث سوريا الدور الذي لعبه لبنان في السبعينات في فترة الحرب الأهلية، كحالة امتصاص لصراعات الآخرين على الأراضي اللبنانية.

لولا الخراب المنظم والعشوائي، الذي تعرض له المجتمع السوري، على يد عائلة الأسد، على مدى أربعة عقود، ما كان العاملان السابقان ليكونا فاعلين في الحالة السورية. وشكلت الثورة السورية، بهذا المعنى عاملاً كاشفاً للخراب الذي نخر سوريا طوال هذه العقود، خراب وصل نقي العظام. لقد كان المجتمع السوري، موقعاً لاختبار ألاعيب الأسد الأب، لدرجة تحويله إلى «مجتمع معاق». واليوم، يعتقد النظام أنه قادر على البقاء في ظل هذه الشروط الدولية والاقليمية والداخلية لوقت طويل. ويثبت أن هناك امكانية للعيش في نظام سياسي أسوأ من نظام كوريا الشمالية، الذي كان الأسد الأب معجباً به، واستورد منه تجربة «طلائع البعث» وتجربة «التوريث الجمهوري»، وها هو الوريث يستورد من كوريا الشمالية أيضاً تجربة المجاعة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى