رستم محمودصفحات سورية

حلم تياما ينتظر مستقبل سوريا


رستم محمود

في مرات كثيرات، نمازح صديقتنا الصغيرة نسبيا “تياما كرم دولي” البالغة من العمر اثني عشر ربيعا. حين تقرأ بعض النصوص الأدبية ببلاغة بالغة، وتجتهد في كتابة بعضها الآخر، نمازحها بالقول إنها يجب أن تكون مندوبة بلادنا سوريا في الهيئة العامة للأمم المتحدة. ففصاحتها وحضورها، جديران بأن تمثل بلادها في ذلك المحفل الإنساني العظيم. تروق لها عبارات الاعتراف والمديح التي تصدر منا، نحن أصدقاء أبيها. وربما تنسج في خيالها الطفلي حلما متصورا عن إمكانية تحقق ذلك فعلا.

من حيث المبدأ، يبدو حلم تياما شرعيا وطبيعيا وقابلا للتحقق، فطالما أن المندوب المستقبلي للدولة السورية في هيئة الأمم المتحدة يجب أن يكون واحداً من أبناء أمة المواطنين السوريين، فإنه يحق لكل واحد منهم سواء بسواء، أن يحلم بأن يكون هو ذلك الشخص. لكن، لتتمكن صديقتنا الصغيرة تياما من الحصول على فرصة مساوية لفرص باقي أبناء جلدتها من المواطنين السوريين، فإن على دولتها السورية، ومجتمعها السوري الكبير، أن يعبر عدد من المنعطفات الخطيرة في المستقبل القريب.

فمن جهة، لا تنتمي تياما لديانة الأغلبية المجتمعية السورية، وهذا محدد وتموضع اجتماعي ونفسي، وقانوني احيانا، يخفض من فرصتها في تحقيق حلمها المأمول. فإن لم تحقق الدولة السورية شروط العلمنة الحقة في مستقبلها المنظور، في سياقات الدستور والقضاء والتربية والرموز والفضاء السيميائي العام، فإنها ستبقى كيانا غير عادل في توزيع الفرص بالتساوي على أبنائها واحلامهم، تلك الأحلام التي تتشكل وتنمو واقعيا حسب درجة تحقيق الدولة لتلك المعايير. فالدرجة، المعقولة والمنقوصة في آن، من العلمنة “السياسية” التي تصبغ كيان الدولة السورية راهنا، تبدو مهددة بأكثر من شكل وتصور. وهو شيء لو جرى، فإن حلم صديقتنا سيغدو في مهب الريح. ما لم نقل لو أنها لم تتحول من الشكل “السياسي” المحض نحو الحقول كلها، دستوريا وقانونيا وقضائيا واعلاميا وتربويا…الخ.

على الطرف الآخر، فإن تياما لا تنتمي، بأصلها الإثني، لأبناء الأغلبية الإثنية العربية. حيث حولت الأيدولوجيات القومية العربية، منذ نصف قرن وإلى الآن، تلك الروح الثقافية والهوية التاريخية لتلك الإثنية العربية، إلى نظريات محض سياسية وتعبوية نابذة لكل مخالف ومباين لها. فحولتها من روح لجغرافية المكان، إلى دين رسمي للدولة. وإن لم تستطع الدولة السورية المنظورة في قلب التاريخ القريب المنتظر، ان تحقق غسل نفسها من أديانها الرسمية كلها، ومنها الديّن القومي. وذلك بأن لا تختصر ديمقراطيتها المنتظرة على مجرد إجراءات ديمقراطية شكلية، ترى في صناديق الاقتراع وعبارات مثل (الأغلبية الأقلية )، وكأنها الديمقراطية كلها. فإذا لم تعمق الدولة السورية ذلك، بجملة من القيم الديمقراطية المطلقة، المتجاوزة لأي خيار اقتراعي جاف وأعمى، فإن ديمقراطيتها ستبدو عرجاء حولاء، غير قادرة على تحقيق المساواة الرمزية والفعلية بين المواطنين السوريين الأفراد، طالما أنها لم تستطع ان تحققه بين “الجماعات والكتل” المشكلة للمواطنية السورية. وحلم تياما، بجانب واسع منه، يتطلع لتلك المساواة الجماعية، لتستطيع الاستحواذ على القدر نفسه من الأمل. فكما لكل فرد سوري ذاته وشعوره بالانتماء، فإن الجماعات والكتل المجتمعية السورية، لها أرواحها ولغاتها وثقافاتها وتطلعاتها، وهي جميعا يجب أن تكون متساوية الفرصة في تكوين “الروح العمومية” للكيان والمجتمع السوري .

فوق كل ذلك، فإن التموضع الجغرافي لتياما ربما لا يؤهلها لذلك، فكيف لمواطنة من أقصى الشمال الشرقي في البلاد، أن تملك الفرصة نفسها لأقرانها من أبناء الطبقات المديّنية المركزية في البلاد ! فالكيان السوري سيكون خائبا وخائنا لنفسه ومعناه المنتظر، ما لم يطعم قيم العلمانية والمساواة السياسية، بقدر عال من تطلعات العدالة الاجتماعية. فأي شكل غير ذلك، سيعيد سوريا إلى عصر متكلس من “الديمقراطية” البرجوازية النخبوية. تلك التي بلغت من القسوة وموات الحس درجة سمحت للملايين السوريين ان يهللوا لكل الأيدولوجيات الشعبوية التي انهمرت بعد زمنها.

ثمة الكثير من حلقات الضعف ودلالة البؤس التي يمكن أن تصيب حلم تياما بمقتل قبل ولادته. فتياما أنثى مثلا، وشرط بقاء حلمها يقظا، مربوط بشرط تخلي المجتمع السوري عن فيض ذكوريته التي تراكمت نتيجة سنوات الشمولية السياسية، وهو شرط مرهون بحفاظ الانتفاضة السورية على سلميّتها المطلقة مثلا. كما ان تياما طفلة تنتمي لأسرة متوسطة الدخل، ومستقبل استحواذها على تحصيل علمي عال، مرهون بقدرة دولتها على تأمين واجباتها الدولاتية السليمة نحو أكثر الطبقات الاقتصادية حرمانا.

نبدو حين نمازح تياما أكثر من نصف جدييّن في كلامنا، وأن لم يكن المراد ما يقال بالضبط تماما. لكن بدرجة عالية من الجدية يمكن أن يقال: لا معنى لمستقبل سوريا المنتظر، ما لم تستطع أن تمنح حلم تياما الشرعية والاحقية نفسها، التي يمكن ان ينالها أي سوري آخر من مواطني تياما

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى