أكرم البنيصفحات سورية

حماية المدنيين السوريين!


أكرم البني

لم يعد مقبولا أي تمييع أو تأجيل لواجب حماية المدنيين السوريين أمام تكرار المجازر المروعة والأعداد المخيفة من الضحايا التي تسقط يوميا، وليس من مبرر بعد اليوم لرفض تدخل أممي يوقف هذا العنف المنفلت، في ظل عجز النظام – أيا تكن رواياته وادعاءاته – عن حفظ الأمن وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم، فكيف الحال وهو الذي يعتبر نفسه طرفا في حرب ضروس، يجب أن يسخر لها ما يملكه من وسائل الفتك والتدمير، ودون اعتبار لما تخلفه من آثار ونتائج مأساوية؟!

المساهمة الأممية في حماية المدنيين السوريين لا تزال غير جدية، وتصطدم ليس فقط بالفيتو الروسي، بل ربما بتواطؤ غربي ضمني، ولعل غزارة الضحايا واتساع شدة العنف مع وجود المراقبين الأمميين يثبتان عدم جدية خطة كوفي أنان وعدم جدواها كما هو حال اجتماع جنيف ومؤتمر أصدقاء سوريا.

هو أمر لم يعد يقبله عقل أو منطق، أن تمتلك بعض الدول الكبرى كلمة الفصل في قرارات مجلس الأمن تجاه مسألة أخلاقية وحساسة تتعلق بحق الناس في الحياة، وأن يجري التلاعب بالقانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان تبعا لحسابات المصالح ولتحقيق أهداف سياسية ومنافع ذاتية. وهو أمر مؤسف ومرذول، أخلاقيا وإنسانيا، أن يقف العالم كله متفرجا على ما يجري في سوريا، وكأنه لا يكترث لأعداد الضحايا والمجازر والصور المروعة لطرائق العنف والقهر والتدمير، وأيضا هو أمر مؤسف ومحزن في آنٍ، أن تجد إلى اليوم من يستقوي بشعار السيادة الوطنية وموجبات عدم التدخل في شؤون الدول كذريعة للتحايل على الالتزامات الدولية بحقوق الإنسان والتنصل من واجب احترامها وتمكينها، وتبرير إطلاق الآلة القمعية على مداها في إخضاع البشر!

صحيح أن العلاقات الدولية تستند إلى مبدأ السيادة الوطنية التي تمنح كل سلطة الحق المطلق على أراضيها وثرواتها ومواردها، لكن الصحيح أيضا أنه لم يعد بالإمكان النظر إلى مفهوم السيادة الوطنية دون السؤال كيف يعيش الناس في ظل هذه السيادة، خصوصا أن العالم أصبح اليوم قرية صغيرة تحكمها منظومة من القيم والحقوق الإنسانية لا يمكن لأحد التهرب منها، بل واجب الجميع احترامها!

والمشكلة ليست في أن تكون السيادة الوطنية منطلقا لفكر سياسي ما ومستقره، بل في وضع إشارة مساواة بين الوطن والسلطة، ثم اعتبار أن أي مساس بمقومات سيادة هذه السلطة وأسس سيطرتها هو مساس بمقومات البنية الوطنية واستقلالها. والقصد أنه لا يصح فهم مسألة السيادة الوطنية على أنها سيادة الاستبداد وإطلاق يده كما يشاء، بل سيادة شعب يجب أن يكون متحررا من كل قيد ومنعتقا من القمع المسوغ بالأطروحات الآيديولوجية المتزمتة، ويمارس حقوقه في التعبير والتنظيم واختيار ممثليه للحكم!

والواضح أن التمثل الصحيح للسيادة الوطنية لا يجوز في سوريا أن يعلو على الالتزامات العالمية بحقوق الإنسان. فسوريا التي انضمت إلى الأمم المتحدة ووقعت على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وملحقاتها قد تنازلت طوعا وبكامل إرادتها الوطنية – إن صح التعبير – عن جزء من «سيادتها» للمجتمع الدولي، وأخضعت نفسها لشروط لا تستطيع الخروج عليها، وأهمها السماح للمنظمة الأممية بالتدخل لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان وحرياته، والأهم لحماية أرواح المواطنين المدنيين أيا كانوا.

أمر مفهوم أن تكون ثمة حساسية من الدور الأممي لحماية المدنيين وتخوفات مشروعة من أن ينحرف عن هدفه النبيل. لكن أقصر الطرق لإزالة هذه المخاوف ولإبعاد شبح التدخل الخارجي أيا تكن حدوده، ولنقل لإعطاء معنى حقيقي للسيادة الوطنية، هو ببساطة احترام حقوق الإنسان وتمكين آليات الحماية والرقابة الداخلية من أخذ دورها، وبداية إلغاء لغة العنف والغلبة وإعادة الاعتبار لدور المجتمع المدني في بناء الثقافة والمؤسسات التي تحترم كرامة الإنسان وحقوقه وتراقب الانتهاكات وتحاصرها.

والأهم أن ما يفترض أن يخفف الحساسية والمخاوف من الدور الأممي هو إلحاح الحاجة إليه، في هذه اللحظة من تطور الصراع، كطرف خارجي يمكن الرهان عليه لوقف انزلاق البلاد إلى حرب أهلية صارت مؤشراتها تزداد مع كل يوم يمر، وأيضا كونه يشكل عنصر حماية من ذهاب البلاد إلى استبداد جديد، فإن احتاج المجتمع السوري إلى نوع من التدخل الخارجي لنصرة مطالبه حول حقوق الإنسان وحماية أرواح المدنيين، فسيكون بداهة ملزما أخلاقيا باحترام هذه الحقوق وأضعف من الارتداد عليها. وأيضا ما يخفف أكثر من تلك الحساسية هو صعوبة حماية المدنيين في الخصوصية السورية إذا تعاطينا مع هذه المهمة كشأن داخلي محض، كما يذهب بعض الناشطين والمعارضين، حين يعولون في حماية أهلهم على القدرات الذاتية، على مجموعات شبابية مسلحة ومنشقين عسكريين انضموا إلى الجيش الحر، إذ غالبا ما شكل الركون إلى هذه القدرات وحدها سببا إضافيا لتشديد بطش النظام في بعض المناطق والأحياء، وتوظيف كل أدوات الفتك والتنكيل ضدها، مستندا إلى توازن قوى عسكري يميل على نحو كاسح لمصلحته.

والحال، فإن حماية المدنيين السوريين باتت واجبا أخلاقيا وإنسانيا عاما يزداد إلحاحا مع تصاعد حدة العنف والقتل والمجازر، وللشعب السوري حق على شعوب العالم التي تشاركه العيش على سطح هذا الكوكب وتعاهدت معه عبر مواثيق الأمم المتحدة على التكافل والتعاضد لحماية الناس من بطش حكامها. والنتيجة، كما يرجح أن تكون الثورة السورية ثورة مفصلية في تاريخ المشرق العربي، يرجح أيضا أن تشكل بمعاناتها المتميزة وعظمة ما تقدمه من تضحيات حافزا قويا لتصحيح الفهم الخاطئ في العلاقة بين مبدأ سيادة الدولة الوطنية وواجب احترام مبادئ حقوق الإنسان، وربما لإنضاج الدعوات من أجل بناء ركائز أممية تبيح مراقبة وتصويب العلاقة الواجبة بين أية سلطة سياسية ومجتمعها بما ينسجم مع معايير حقوق الإنسان، أو ربما من أجل انبثاق مركز أممي يختص بحماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم، مستقل عن مجلس الأمن ويتجاوز حق «الفيتو» وتوفر له إمكانيات حيوية وفعالة للتعامل مع أي طرف يهدد الحياة الإنسانية وقيمها العامة.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى