صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

حمص خارج السجن الأسدي


    محمد أبي سمرا

وسط حملات القتل اليومي في سوريا، أي طقوس وشعائر يستعيدها السوريون في وقفاتهم وتظاهراتهم اليومية الراقصة والهاتفة في ساحات حارات حمص وسواها من المدن السورية؟

احتفالات الختان وسواها من مناسبات وشعائر دينية – عائلية، كالموالد والاعراس وحلقات الذكر الصوفية، كان الاهالي يحيونها في “سوريا الأسد”، شريطة ألا تعلو أصوات الأناشيد والمدائح والأدعية وتتجاوز بيوت المحتفلين. أما إذا علت الأصوات في احتفال ما وبلغت نواحي الحارة، فإن رجال الأمن يحضرون إلى بيت المحتفلين، فيستطلعون من هو صاحبه، ولماذا يحيي الاحتفال، ويتحققون من حصوله على إذنٍ أو تصريح مسبق من أحد المقار الأمنية في الحارة. فإقدام عائلة على إحياء احتفال مشهود في مناسبة ما، وإحضارها جوقة منشدين أو مغنّياً تعلو أناشيدهم وغناؤهم في الحارة عبر مكبرات الصوت، كانا يتطلبان إعلام أحد المقار الأمنية، والحصول منه على إذن أو تصريح مسبق، وإلا يتعرض الاحتفال للتوقيف، قبل أن تجري مساءلة المحتفلين وملاحقتهم والتحقيق معهم في مقر أمني يُساق اليه أهل البيت الذي يقام فيه الاحتفال، وأحياناً مع سواهم من الحاضرين. على أن السوريين جميعاً علموا وخبروا ما يحدث في مقار أجهزة الأمن الأسدية، أو سمعوا عنه أخباراً مروعة جيلاً بعد جيل، منذ ما قبل مقتلة حماة الكبرى في العام 1982، وتوابعها من المطاردات والاعتقالات والمقاتل الصغرى والإعدامات الميدانية في سواها من المدن والأرياف السورية. الحملات الأمنية المتعاقبة هذه لم تتوقف عن تخيير المجتمع السوري ما بين أن يعيش سجين الصمت والخوف والكتمان والكذب والتسليم بجبروت دولة أمنية تقدّس “الأب القائد” وتعبده وذريته ورهطه، في العلانية العامة ومواكبها وحشودها، وما بين أن يتعرض كل من لا يسلّم بهذا كله الى الاجتثاث والسجن الأبدي، أو الاختفاء الإرادي والتشرد في البلاد، أو الفرار منها الى ديار الله الواسعة. في هذا السجن الأسدي الكبير فُرض على السوريين من أهالي الحارات والأحياء السنيّة في المدن، كتمان احتفالهم بشعائرهم وطقوسهم الدينية والشعبية، والخوف من إحيائها جهاراً في العلانية العامة الأهلية، لأنها قد تستبطن إسلام جماعة “الإخوان المسلمين” وأتباعهم، وتستحضره وتذكّر به، بعدما قامت الدولة الأسدية في حملهم على مقاومتها بالسلاح والتفجيرات والاغتيالات في مطلع ثمانينات القرن العشرين.

¶¶¶

خلف مشاهد التظاهرات في ساحات حمص، وخصوصاً المسائية والليلية منها في الخالدية وباب السباع وباب عمرو، أخذتُ ألمح، فجأةً، صوراً ضبابية لموالد وأعراس أتخيل أنها استدراك لما لم تعشه حمص في أعياد طفولتي وصباي، أيام كان يحظَّر على أهالي الحارات أن يحتفلوا بأعيادهم وسواها من مناسبات، ويُمنَعون من تزيين الساحات وإضاءتها بالمصابيح الكهربائية ووضع مكبّرات للصوت في جنباتها. أحدّق في الشاشات أمامي، ومذهولاً التهم بعينيَّ ما أبصره من مشاهد في الساحات نفسها، غير مصدِّق أنني أرى ما أراه، ثم أفكر أن ما يصوّره شبان التظاهرات بكاميرات هواتفهم ويبثّونه على الشبكة الألكترونية، ينقل مشاهد لعالم وبشر سابقين على اكتشاف التصوير، لكن هذه المشاهد ليست إلا من صنيع الصور والتصوير. كأن الاجيال الشابة في سوريا تتدارك ما فاتها في خمسين سنة عاشتها خارج الزمن والعالم والصور. الصور التي تنبعث منها أو يبعث الشبان فيها قوة بدائية، عارية ومتقشفة، اندفعت، فجأة، من قلوبهم وأجسامهم، ومن أعماق سوريا المتجمدة والصامتة منذ أجيال في صور الأسد وأبنائه وأنصابهم وكلماتهم الأشد جموداً وخواءً من تلك الأنصاب والتماثيل التي انتصبت كالقدر في الشوارع والساحات.

مذهولاً أحدّق في صور التظاهرات، فأتذكر ساحات الحارات شبه خالية وخاوية حينما كانت الأعياد مناسبات لانكفاء الاهالي وانزوائهم في البيوت، ولتبادلهم الزيارات والتهاني، منكسرين، بعد زيارتهم مقابر موتاهم وقتلى حملات الاجتثاث والترويع والتشريد التي حوّلت سوريا سجناً أسدياً كبيراً، فتعوّد أهلنا على إقصائنا، نحن أطفال الحارات وأولادها، عن أوقات تزاورهم الصامت الكئيب في الاعياد، بأن يرسلونا لتوزيع النوغا والبسكويت وراحة الحلقوم عن روح النبي على أبواب المساجد. أحدّق الآن في الشاشات أمامي، وأسأل نفسي: هل هذه التظاهرات أعياد متأخرة ودامية في الساحات؟! مرة، فيما أخذت رؤى تذكر لي أسماء شهداء تظاهرات إحدى الجمع في حمص، كدت أقول لها إن هؤلاء الشهداء هم شهداء الصحوة المتأخرة من سنوات الصمت والتسليم والموات التي أطبقت على جيلها وجيلي، ورثناها عن أهلنا وأجيال سابقة في السجن الأسدي الكبير الذي كنت لأكون من شهدائه المتأخرين، الذين أحصي اليوم أسماءهم في بيروت التي قادتني الأقدار إليها، عندما كان رجال المخابرات يوقفون سياراتهم “البيجو” البيضاء قرب مداخل المساجد لمراقبة رجال الحارات الذين كانوا يلبسون جلاّبياتهم البيضاء النظيفة، ويتوافدون الى المساجد لأداء الصلاة في فجر نهارات الاعياد، وفي ظهيرات الجمعة. آنذاك، في طفولتي وصباي، كنت أسمع في الحارة أن من يربّي لحيته ويطيلها على نحوٍ يُسمّى “عرف”، كان يُعرّض نفسه لتهمة أنه من “الإخوان” أو من مؤيديهم وأتباعهم، فيتعرض لمساءلات ومضايقات ترغمه على الإقلاع عن إطالة لحيته التي تنكّد عليه حياته اليومية. والذين كانوا يسمّون “دسّاسين” في الحارات، لم يكن أحد يعلم من يكونون، ويقال إنهم يكتبون يومياً تقارير يرفعونها الى المقار الأمنية لرجال المخابرات. “سياسة” الدسائس هذه كان رجال الأمن يحرصون على إشاعتها بين الأهالي، ليظل حضورها الافتراضي والغامض أقوى وأشد سطوة من حضورها الفعلي أو الحقيقي، كي تبقى الريبة والشك متفشيين في نسيج الحياة اليومية وعلاقات الأهالي، فلا يأمن هذا على نفسه من ذاك، ويقول هذا لذاك إن شخصاً ثالثاً “خطّه حلو” أو إنه “رفيق”، كناية عن أنه دسّاس يكتب التقارير، فيهيمن صمت على الجميع، ويفسد الحذرُ العلاقات والكلمات بين الأفراد والجماعات، وخصوصاً ما بين السنّة والعلويين الذين تنزل جماعات منهم في أحياء يغلبون على سكانها ونسيجها الاجتماعي، غلبتهم في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وفي أجهزة الأمن الكثيرة الأسماء والمقار في أحياء المدينة وحاراتها.

¶¶¶

لم أكن على معرفة بأيّ كردي سوري أو غير سوري، قبل أن يعرّفني كاتب سيرتي هذه الى شاب كردي من القامشلي، فرّ في الشهر الثامن من الثورة الى بيروت هارباً من دمشق، حيث كان يقيم ويعمل وينشط في إحدى تنسيقياتها، فاستضفته أسبوعين في غرفتي البيروتية. حمله على الفرار تهديد رجال الأمن أهله في القامشلي بقتل أخيه المجند في الجيش، إن لم يكفّ هو عن نشاطه في التنسيقية الدمشقية. أثناء نزوله في ضيافتي أرسل إليه أهله جواز سفر مزوّراً، لقاء 5 آلاف دولار دفعها والده لضابط في المخابرات العسكرية. طوال ليلة أمضيناها منفردين في غرفتي، روى لي ما لا أعلمه عن تاريخ مدينتي الاجتماعي وموقعها الجغرافي الفريد في سوريا. فجأةً فكرتُ وأنا أستمع اليه أن رغبته في الرواية، وما يرويه عن حمص، مستجدان، كعزوفي التلقائي عن رغبتي في الهجرة الى أوروبا، وكالهوى الغامض الذي ملأني به صوت رؤى ووجهها المتخيل، فيما هي تجول بي، عبر الـ”سكايب”، في شوارع حمص وحاراتها وأحيائها، وأنا جالس في غرفتي البيروتية.

فيما كنت أستمع الى الشاب الكردي، أخذت صورة جديدة لحمص ترتسم في وعيي ومخيلتي، تختلف عن صورتها في ذكرياتي، كأنه في ما رواه أراد أن يقول إن “سوريا الأسد” التي توقّف الزمن والتاريخ بها، ليست قدراً، وإنها لن تبقى محمية أمنية أسدية خرساء، وامّحى تاريخها الحي واختُصِر برفع الابتهالات وآيات التقديس لحارس الأمة والتاريخ، بوصفه معجزتهما الوحيدة. لذا تهيّأ لي أنني أسمع في رواية الشاب عن حمص، أصداء من هتافات شبّان سوريا وشاباتها وأهلها، مذ فاجأوا أنفسهم والعالم بخروجهم الملحمي الى الشوارع والساحات، محاولين إخراج مدنهم وبلداتهم وأريافهم والجغرافيا البشرية والاجتماعية لبلدهم وتاريخه، من ذلك السجن الأسدي الكبير الذي أُرغموا على العيش فيه مقهورين خائفين. فكل تظاهرة في شوارع سوريا وساحاتها، وكل كلمة يهتف بها المتظاهرون، وكل صورة يصوّرونها ويبثّونها على شاشات العالم الافتراضي الأشد واقعية وحقيقة من كل ما عاشوه طوال اكثر من نصف قرن، هي فعل خروج سيزيفي على القهر والخوف. كأنهم في هذا يقولون إن في سوريا بشراً سوى ذلك الصنم الطوطمي الكئيب المنتصبة تماثيله في الساحات الخاوية قبل خروجهم اليها. وليقولوا أيضاً أن في صدورهم كلمات سوى كلماته الطوطمية الجوفاء، وسوى كلمات وارثه المهذارة الشبيهة بكلمات مدرّس بعثي، على ما قال محدّثي الكردي الشاب، قبل ان يروي لي شذرات مما ألحقه نظام الاسد من تغيرات في تركيب حمص السكاني، غداة استيلائه على السلطة في سوريا العام 1970.

في عشايا ذلك الاستيلاء كانت الغالبية السكانية سنّية في حارات المدينة التقليدية القديمة، كباب السباع، وبابا عمرو، وباب الدريب، والبياضة، والمقبرة، الى جانب حضور بارز للروم الأرثوذكس الذين كان وادي النصارى، الى الجنوب الغربي القريب من حمص، معقلهم التاريخي القديم في سوريا. اما الخالدية، اقدم الأحياء المحدثة، فنشأ في ستينات القرن العشرين على تخوم الحارات، وتشبّه بها عمرانه العشوائي، بعد توسعه ونزوج جماعات من البدو للاقامة على اطرافه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى